ارتسامات في واقع عزوف الشابات عن الميثاق الغليظ

Cover Image for ارتسامات في واقع عزوف الشابات عن الميثاق الغليظ
نشر بتاريخ

لا يخفى على المتأمل والمتتبع لمجريات الأحداث ما آل إليه وضع الشباب في نظرتهم إلى الزواج، حيث أصبح العزوف عنه هو السمة الغالبة، في حين كان الأمر عكس ذلك من قبل، إذ إن الفطرة السليمة تدعو الرجل للبحث عن شطره ونفسه التي يسكن إليها لتستقيم الحياة، ويباشر أعباءها في سكينة وهدوء بال، وينشئ أسرة مستقرة أساسها المودة والاحترام وتحمل مسؤولية الخلافة على وجه الأرض، الأمانة التي استؤمن عليها، والتي لأجلها خلق. لكن حينما انحرفت الفطرة السليمة، انحرف القصد وصارت الوسيلة هي الغاية، والهدف مجرد وسيلة؛ ومن الأمور التي صارت تؤرق  ذوي الألباب هي ظاهرة العزوف عن الزواج عند الشباب، وسنحاول هنا رصد بعض الأسباب واقتراح بعض ما يمكن أن يكون حلولا من وجهة نظر فقط، وإلا فالأمر أكبر وأعقد، ومرتبط بمنظومة العولمة التي ما فتئت تكرس ما وصل إليه الأمر، ولتجاوزها لا بد من رصد الأبحاث والدراسات والتكوينات وتكثيف الجهود لإعادة تثقيف الشباب الثقافة الصالحة التي تميط اللثام عن عوار ما تلقوه، وتضع اليد على الداء وتصف الدواء.

فمن الأسباب التي أدت إلى هذا العزوف، وهي أسباب موضوعية، سمعتها من أفواه بعضهم خصوصا الإناث منهم بحكم صلتي بهن، وهي؛ الدعوة إلى تحرر المرأة وجعلها مستقلة لا تعتمد على أحد، وإنما اعتمادها على نفسها يجعلها المرأة القوية “strong independent woman ” التي يُضرب لها ألف حساب؛ فعملت المرأة بكل جهدها لتصل إلى هاته المكانة، وأخرجت الرجل من حساباتها، لكنها أثناء الطريق نسيت أنوثتها، وأنها امرأة، وفطرتها لا تسمح لها بهذا كله، فحققت النجاح على المستوى المادي ولكنها تعبت وأتعبت نفسيتها، وأصبحت تعيش التيه، وتبحث عن السعادة التي لن تجدها إلا إذا تصالحت مع فطرتها واتبعت شرع ربها وارتمت في أحضان زوجها يواسيها، يشد على يدها ويربت على كتفها…

ومنهن من جعلتها الظروف الاجتماعية القاهرة تخرج للعمل لتساعد وتحمل الكل وتسهم في تخفيف العبء عن الوالدين، وهو أمر في غاية السمو والرفعة لأنها هي المأمورة ببرهما، ولكن دوّامة الحياة شغلتها ورفضت شريك الحياة الذي لا يقاسمها نفس الهم، وقد تتعنت في بعض الأحيان وتملي شروطا تعجيزية، وهي التي ذاقت معنى الاستقلال، فما بقي للطرف الآخر مكان. ولو أنها تأملت قليلا، فقد كان بإمكانها أن تصل إلى ما وصلت إليه بمعية زوج صالح، شريطة أن تتنازل عن سقف تطلعات عالية، ويتفق الطرفان على ما به يمكنها بر الوالدين، وتسيير عجلة الحياة التي لا تعد إلا جسرا لما هو أهم وأبقى، وهو رضى الله عز وجل.

ومن الأسباب أيضا؛ المرأة التي لم تعد ترضى بالقليل، ولا تريد إلا من هو أغنى وأحسن منها مستوى، وتريد أن تسافر وتخرج على غرار ما تراه في العالم الافتراضي، وليس في الأمر عيب إن وُجد من يحقق لها هذا، لكنها ترفض كل من لم تر فيه الغنى الكافي لذلك، فقد غاب عنها معيار الاختيار: “إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه”، أو غيّبته وسائل الدعاية الكاذبة، فساهمت بذلك في الفتنة التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم والفساد الكبير، وأي فساد أكبر من العزوف عن الزواج، الذي سيؤدي إلى ارتكاب الفواحش والمحرمات لإرضاء فطرة مغيبة.

وهناك رجل أو امرأة تخاف تحمل المسؤولية، وهي المدللة التي تربت على أن الكل يخدمها وخصوصا والديها، فهما من حيث لا يقصدان وخوفا من التقصير وسوء الفهم -من طرف الأبناء الذين اختلفت طريقة تفكيرهم ونظرتهم للأمور- أصبحا يعملان ما فوق طاقتهما ليلبيان حاجة أبنائهم، فظهرت صفة الأنانية عند الولد والبنت، ولا يريد ولا تريد الزواج، وحتى إن حصل، فهي لا تريد الإنجاب، وتريد أن تعيش الحياة. وهي وهو لا يتحملان المسؤولية، والزواج مسؤولية، ولا يريد الواحد منهما أن يزعج نفسه بأعباء الزواج؛ وفي الحقيقة لا بد من تعويد الأبناء على تحمل المسؤولية، وأن يُترك لهم المجال ليقوموا بأمورهم بأنفسهم دون صراخ ولا كثرة انتقاد، بل بمحبة وحكمة، ولا تفرض عليهم الأمر أمرا، وإنما تبحث عن الطريقة المناسبة لتجعل ابنك أو ابنتك، أمام المسؤولية من حيث لا يشعر ولا يملك خيارا لتفاديها، وتكون بذلك قد ربيته على واجب من آكد الواجبات، وهو القيام بأموره وتحمل تبعاته.

وهناك من تخاف أهل الزوج لما سمعته أو رأته من قصص كان الأهل فيها هم سبب تفكيك الأسرة، وتعزف بذلك عن الزواج، ظانة أنها حلت المشكل بذلك. ولكن ينبغي التفاهم، وإخبار الزوج بما عليه تجاه الأمر، وأن يكون حكيما في التدخل ويجنب زوجته كل ما من شأنه أن يساء به فهمها، وأن يعرف متى ينبغي الاحتكاك ومتى تعطى مسافة، وأن تسود الصراحة وحسن الظن، وأن يكون الطرفان على علم بشرع الله في المسألة، وكيف يمكن أن نبر الوالدين دون أن نفرط أو نتجاوز. وهنا دعوة لحضور تكوينات والاستماع إلى أهل التخصص من العلماء الأفاضل في هذا المجال، ليعرف كل ذي حق حقه، لأن مثل هاته المشاكل وغيرها حتى مما يقع بين الزوجين، يكون أغلبها عن قلة تجربة وخبرة، وسوء تقدير وقصر نظر وجهل، لو كلف المرء نفسه للبحث فيه والسؤال عنه لكفى نفسه وغيره عناء تبعاته.

قد تجد المرأة التي لا تثق في الرجل وتخاف الغدر والخداع والخيانة لتجربة بائسة أو قصة سمعت بها… فعزفت بذلك عن الزواج وأصبحت تحاول أن تبحث عن سند لها من مثيلاتها…

ولا ننسى مسألة النِّدّيّة؛ حيث إن هناك المرأة التي تعد الرجل ندّاً لها، وتحسبه خصما يجب التغلب والتفوق عليه، وهاته عقلية نسائية لا تبحث عن التكامل الحاصل بين كل من المرأة والرجل، بل همها هو أن تفوز على الرجل، لأنها تعتقد أن بفوزها تحقق ذاتها وتثبتها.

وأخرى تؤمن بالمقولة الشائعة: “لا تتزوج، اجمع المال وسافر”، أي أن المرء له الحرية المطلقة في أن يفعل ما يحلو له، وأن لا يتدخل في شؤونه أحد، فيسافر ويلهو ويعمل ما شاء، وفي نهاية المطاف قد يفكر في الاستقرار، ولكن يكون ذلك في سن متأخرة، وهذا ما يقع لهذا الصنف لأنهم يرون أن الزواج مجرد قفص وسجن يقيد الحرية.

وهاته الأصناف التي ذكرت ليست وليدة اللحظة، وإنما هي ناتجة عن الثقافة التي رسختها “الأفلام الهوليوودية” عموما، ومؤخرا “الدراما الكورية والمسلسلات التركية” التي تركز على أن يعيش الإنسان الهرج والمرج والتمتع ويكلل ذلك بالزواج السعيد « happy ending ». فهاته الأفلام رسخت فكرة خاطئة عن الزواج، وبأنه الحياة الوردية وأنه بدون مشاكل، في حين أن المقبل عليه يجب أن يعرف بأنه مقبل على مسؤولية كبيرة، وتبعات وتحديات، واختلاف طباع وثقافات وعادات، وتلك الفكرة الخاطئة جعلت البنات اللواتي جربن الحياة الزوجية وجدن عكس ما كن يطمحن إليه بسبب الدعاية الكاذبة، مما أدى إلى تأزم أوضاعهن وإلى انفصال أغلبهن إن لم يستطعن الصبر والتحمل. وحبذا لو وقف الأمر عندهن، لكن تجد الواحدة منهن بعدما خاب ظنها في الزواج تحذر قريباتها وزميلاتها منه، وتشجع على العزوف عنه والبحث عن السعادة خارج مؤسسته.

والحل النهائي لكل ما ذكرنا، هو التربية الصحيحة حتى إذا عصفت بهؤلاء رياح الفتن لم تستطع أن تقتلع جذورهن الثابتة، لأنهن تلقين الحصانة واللقاح القوي، وتربى عندهن حس التمييز وميزان الأخلاق. فالمرأة شقيقة الرجل وضلعه ونصفه، والله خلق من كل شيء  زوجين، فلا تستقيم حياة من دونهما، فعلى الرجل أن يظفر بذات الدين، وعلى المرأة أن تبحث عن ذي الخلق والدين، وأن يعرف كل واحد المقصد الأسمى من وجوده في هذا الكون الشاسع، وهو عبادة الله ومرضاته، وأن هاته الحياة ما هي إلا محطة قصيرة ما يفتأ المرء أن يغادرها إلى دار البقاء، لِذا، فليحرص كل واحد منهما على ترك بصمة تشهد له يوم القيامة بحسن صنيعه، وتحمُّله لمسؤوليته، وعدم تضييعه لوقتٍ إذا فات لن يعود إلى يوم القيامة، إما شاهدا له أو عليه.