استراتيجيات التذكر

Cover Image for استراتيجيات التذكر
نشر بتاريخ

العديد من مجالات الحياة تحتاج إلى الاعتماد على الذاكرة كجهاز منظم ذو أهمية كبيرة من حيث الاحتفاظ بمجموعة من المعلومات؛ صور، أشياء… واسترجاعها مع توظيفها في سياقها المطلوب. تبرز هذه الأهمية بشكل كبير عند الطلبة والتلاميذ خلال العملية التعلمية؛ سواء أثناء التلقي والتدريب أو عند الاستعداد للامتحانات، حيث يبذلون جهدا فائقا لمدة طويلة في الحفظ والمراجعة، لكن سرعان ما تندثر المعلومة وتنسى بشكل أو بآخر نظرا لعدم تخزينها في الذاكرة بشكل ممنهج. فما هي الذاكرة؟ وما هي معيقات التذكر؟ وما هي استراتيجيات الاستدعاء الفعال المقترحة؟          

1) تعريف الذاكرة

عرف سولسو الذاكرة (سنة 1988) أنها “دراسة لمكونات عملية التذكر والعمليات المعرفية التي ترتبط بوظائف هذه المكونات”، واعتبر أندرسون (سنة 1995) أن “الذاكرة عبارة عن دراسة لعمليات استقبال المعلومات والاحتفاظ بها واستدعائها عند الحاجة”، أما ستينبرغ (سنة 2003) فقال إن “الذاكرة هي العملية التي يتم من خلالها استدعاء معلومات الماضي لاستخدامها في الحاضر” (1).

إذن، فالذاكرة هي إحدى قدرات الدماغ التي تدرس علميا، وتنبني على ثلاث عمليات أساسية: استقبال المعلومات وترميزها، وخزنها، واستدعائها.

2) معيقات التذكر

النسيان؛ ويعرف بعدم استحضار معلومة من المعلومات لعلة من العلل عند الحاجة إليها. وبدوره يحمل بين طياته مسببات عدة من بينها:

– أسباب اجتماعية واقتصادية: على سبيل الذكر نجد عدم الاستقرار الأسري، والسكن العشوائي، والقيام بالرذائل، وغيرها من المشاكل التي تولد اضطرابات نفسية كثيرة، تجعل الرغبة عند التلميذ في الدراسة تتلاشى مع مرور الوقت.

– أسباب روحانية: مرتبطة بضعف الاتصال بالخالق، وهذا يرجع إلى عدم أداء الصلاة في وقتها، وقراءة القرآن، وغير ذلك، مما يصيب أيضا باضطرابات روحية كثيرة تشتت فكر الإنسان وتحول بينه وبين التركيز.

– أسباب تكنولوجية: بحيث نرى في وقتنا الحالي أن الوسائل الإلكترونية قد غزت العقول البشرية، فأضحت الوسيلة الوحيدة للبحت عن المعلومة بشكل أسهل، عوض تفحص الكتب والمراجعة المباشرة من الكتب والبحث، مما يقتل ملكة التعلم ويؤدي إلى ضعف التكوين والإنتاج. فالإدمان على هذه الوسائل يولد النقص على مستوى التركيز والانتباه..

– أسباب بيولوجية: متعلقة بالسلوكيات اليومية الخاطئة التي تعتري فئة الشباب على وجه الخصوص؛ مثل النمط الغذائي المضر بصحة الإنسان، وعدم ممارسة الرياضة، وعدم تنظيم الوقت، والسهر إلى ساعات متأخرة من الليل..

كل هذا، وغيره، يؤثر سلبا على وتيرة النشاط الذهني، المتمثلة في سيرورة اشتغال نظام الغدد، مما يجعل الإنسان عرضة للخمول العقلي والجسدي باستمرار.

3) استراتيجيات التذكر

أ- قبل المذاكرة

– اجتناب الاضطرابات النفسية: بمصاحبة الرفقة النافعة التي تشجع على المثابرة والتألق، وتوفير وسط آمن ومستقر، وارتياد أماكن متنوعة بين الفينة والأخرى؛ مثل الذهاب إلى النوادي والمناطق الخضراء قصد تجديد الطاقة..

– تغيير العادات الغذائية السلبية: ينصح بتناول الأكل الصحي؛ مثل الخضروات والفواكه والأسماك والفواكه الجافة.. إضافة إلى ممارسة الرياضة، طبقا للمثال الشهير “العقل السليم في الجسم السليم”.

– استنشاق الهواء: يزن دماغ الإنسان 1400 غرام في المتوسط، فهو يمثل 2% من وزن الجسم، إلا أنه يستهلك %20 من نسبة الأوكسجين الذي يدخل إلى الجسم، لذلك حاول أن تستنشق الهواء النقي ما أمكن لكي يصل إلى الدماغ.

– شرب الماء: يُشكّل الماء نسبة 80% من مكونات الدماغ الكليّة، وهذا ما يبين أن جسم الإنسان يحتاج إلى كمية كبيرة من الماء.

– ألعاب الذكاء: يتوفر الدماغ على 100 إلى 150 مليار خلية عصبية. مما يستدعي القيام بألعاب الذكاء؛ مثل لعبة الشطرنج والكلمات المتقاطعة والقراءة.. بهدف تحسين أداء الذاكرة، وتهييئها للاستعداد القبلي، وتحفيزها قصد زيادة الأداء في التحصيل الدراسي، حيث ثبتت نجاعتها في تنشيط العقل ومساعدته في التركيز لمدة أطول.

ب- أثناء المذاكرة

– توظيف القدرات الحسية والحركية البصرية السمعية؛ التكرار بصوت مرتفع أو ما يصطلح عليه بالتسميع و”يقصد به الطريقة التي يردد بها الفرد المعلومات ترديدا لفظيا أو مكانيا كي يتم حفظه في الذاكرة” (2). وأظهرت الدراسات أيضا أن حاسة الشم تفيد في تذكر الشيء، بربط المعلومة برائحة معينة طيبة بغية تثبيت المعلومة في الذاكرة بعيدة الأمد. وفي هذا السياق تشير زينتز إلى أن “معظمنا يتعلم بشكل أفضل عندما نتلقى المعلومات من خلال أكثر من حاسة واحدة مما يجعلها توضع ضمن سياق أوسع” (3).

– الخريطة الذهنية mind map أو العقلية كما يسميها آخرون، ويعود أصل اكتشافها إلى المفكر توني بوزان الذي حاول إيجاد آلية عملية تلعب دورا كبيرا في تثبيت الكم الهائل من المعلومات. وتتميز بتشعب يشبه خلايا الدماغ لتسهيل وصول المعلومة إلى المخ، بل الأكثر من ذلك فإنها بمثابة خيط وصل يربط الأفكار والمعلومات الموجودة في ذهن المتعلّم مع المعلومات الجديدة.

ما يميزها أيضا هو احتوائها على رسومات، وألوان، وطريقة الكتابة، والصور، والرموز، وغيرها من التقنيات الأكاديمية المحفزة للاستيعاب والفهم بشكل أكاديمي، وهو ما يمكن نصفي الدماغ الأيمن والأيسر من الاشتغال معا، ويمكن الفرد من استدعاء المعلومة بشكل أسهل.

– الساعة البيولوجية، حيث لكل شخص برمجة عقلية خاصة به في تنظيم وقته. ويعتبر الصباح الباكر من بين أفضل الأوقات للمذاكرة، ويمكن للفرد أيضا أن يأخذ حيزا من الوقت قبل النوم للاطلاع على المعلومات التي يريد أن يحتفظ بها ولو لدقائق معدودة؛ فالدراسات توضح أن الدماغ يسجل المعلومات في هاته الفترة عبر “الصورة الذهنية التي يطلق عليها اسم ‘صورة’، منها ما له علاقة مباشرة بالإدراك الحسي البصري مباشرة، مثل تلك التي تتكون وتستمر لفترة وجيزة عند إغماض العين، أو توجيه الإبصار نحو أرضية بيضاء، بعد تركيز النظر في نقطة معينة ملونة خلال ثلاثين أو أربعين ثانية” (4).

– مفهوم “ساعة واحدة فقط” « Only one houre »، ومعناها التركيز في المذاكرة ساعة واحدة ثم أخذ استراحة، حتى لا يتعب الدماغ فتندثر المعلومة بسرعة.

ج- بعد المذاكرة

يجب التحلي بالثقة في النفس، وعدم الانشغال بالمشوشات أو لصوص الطاقة مثل التلفاز أو الألعاب الإلكترونية، وتجنب رفقاء السوء، ومحاولة النوم باكرا.

فإذا نسيت شيئا أثناء الامتحان فتنفس بعمق، واعمل بمقولة “إذا أردت أن تتذكر شيئا لا تعرفه فاربطه بشيء تعرفه”.

4) همسات في أذن كل طالب علم

– مع الأخذ بكل هذه الأسباب التي تعينك على الحفظ والتذكر والتثبيت لا بد لك من الاستعانة بالدعاء، والتوكل على الله، واليقين بقضاء الله وقدره. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: “يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ؛ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ” (5).

– داوم على قراءة القرآن لكونه يجدد الخلايا وينمي الذاكرة، فقد ثبت أن حفظ القرآن يساعد على تجنب الإصابة بمرض الزهايمر، ولعل هذا من بين الوسائل التي تساهم في تدريب العقل ليظل فتيا. “فالعمر العقلي ليس هو البيولوجي” حسب الفريد بينيه.

– لا تهدر وقت فراغك، واستغل شبابك فيما ينفعك وينفع أمتك. عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “اغتنمْ خمسًا قبل خمسٍ: شبابَك قبل هرمكَ، وصحتَك قبل سَقمِكَ، وغناكَ قبل فقرِك، وفراغَك قبل شغلِك، وحياتَكَ قبل موتِك” (6).

– حافظ على ثقتك في نفسك، فهي تمنحك الإحساس بالتقبل الذاتي والراحة النفسية والتحلي بالأمان.

خاتمة

لا يعتمد التفوق الدراسي على المراجعة والمثابرة والنجاح والحصول على أعلى المراتب فقط، بل أيضا على ربط علاقة قوية بالدراسة وتوظيف استراتيجيات التذكر التي تساعدك على تفعيل عملية التعلم، وتنشيط المعلومات، والمساهمة في ربح الوقت، واكتساب المعارف وفق نسق مرتب بشكل أكاديمي ومعرفي لا يندثر بمجرد الخروج من قاعة الامتحان.

الهوامش:

(1) عدنان يوسف العتوم، (2004)، علم النفس المعرفي: النظرية والتطبيق، ط 1، عمان، دار المسيرة، ص 118.

(2) لبنا عبد الحميد أنشاصي، دور استراتيجيات التعلم في تحسين الذاكرة العاملة لدى الطلبة ذوي صعوبات التعلم”،

https://www.researchgate.net/publication/331822047_dwr_astratyjyat_altdhkr_fy_thsyn_aldhakrt_alamlt_ldy_altlbt_dhwy_swbat_altlm

تمت زيارة الموقع بتاريخ 3 يونيو 2020.

(3) قول لجينيفر زينتز، رئيسة قسم الخدمات السريرية في مركز الصحة العقلية بجامعة تكساس في دالاس، أوردته الكاتبة تينا دونفيت في مقال نشرته مجلة “ريدرز دايجست” الأميركية، ترجمته مواقع عربية.

(4) المقاربات السيكولوجية للاشتغال المعرفي، كتاب جماعي من تنسيق علي أفرفار.

(5) رواه الترمذي وصححه.

(6) أخرجه الحاكم وصححه.