المقدمة
في سياق ما تعيشه الأمة الإسلامية من مآس اجتماعية واقتصادية وسياسية وأخلاقية؛ وفشو اليأس والتيئيس؛ بطول أمد الاستبداد والحكم الفردي، واستفحال الظلم وتغول الظالمين، ورضا العامة بدين الانقياد والاستكانة والرضوخ والعبودية بديلا عن دين العزة والكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية والاستقامة، وفشل خيارات رمي الأمة ظلما وزورا في وحل التطبيع.
نتساءل عما يوقظ هذه الأمة المغلوبة لتقتحم العقبات وتتحرر من ذهنية القطيع وتبث في نفوس أعضائها الوعي الفعال المعتز بالله، ونتساءل عن كيفية إشراكها في تقويض الظلم وبناء الحق باعتبارهما ركنين من أركان العزة، حتى تأخذ زمام أمورها بيدها؛ وتحقق غايتي إقامة العدل في الأرض والسعي الدؤوب لبلوغ مقام الإحسان، وعن دور الفكر الإسلامي القديم والمعاصر وأعلامه ونماذجه من المستقيمين والقائمين في وجه الحكام الظلمة في بناء شخصية مقاومة ممانعة ومستقيمة على أمر الله والدعوة إليه في كنف الصحبة والجماعة، شخصية قادرة على التغيير واستنهاض الهمم انخراطا مسؤولا وفعالا غير راكن للظالمين صدقا ووفاء 1.
خلال هذه الوريقات سنتناول موضوع: “استقامة الفرد والمجتمع أساس ممانعة الاستبداد ودفع الظلم”؛ انطلاقا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما أثله العلماء العاملون والقائمون من آل البيت وتجارب معيشة في الموضوع، بالوصف والتحليل والاستقراء والنقد واقتراح البديل، مرورا بتذليل المفاهيم المؤطرة له؛ بتقسيمه إلى حلقات “إن بقي في العمر بقية”.
الاستقامة لغة واصطلاحا
“(قَوَمَ) الْقَافُ وَالْوَاوُ وَالْمِيمُ أَصْلَانِ صَحِيحَانِ، يَدُلُّ أَحَدهمَا عَلَى جَمَاعَةِ نَاسٍ، وَرُبَّمَا اسْتُعِيرَ فِي غَيْرِهِمْ. وَالْآخَرُ عَلَى انْتِصَابٍ أَوْ عَزْمٍ… وَيَقُولُونَ: قَوْمٌ وَأَقْوَامٌ، وَأَقَاوِمُ جَمْعُ جَمْعٍ” 2.
“والاستقامة: ضد الطغيان، وهو مجاوزة الحد في كل شيء” 3، ومن معانيها كذلك: القصد، والإصابة، والاستواء، والنظام، والاعتدال، والرشد… 4.
وتفيد – كما في لسان العرب لابن منظور – معنى الاعتدال والاستواء يقال: استقام له الأمر، أي اعتدل، ومن ذلك ما ورد في السنة بشأن الاصطفاف في الصلاة، ما روي عن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – “سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة” [متفق عليه]، وفي رواية للبخاري: “فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة” أي جعلها سليمة معتدلة 5.
وكلمة “الاستقامة” مشتقة من مادة “القيام” وفي هذه المادة معنى الملازمة والمحافظة والثبات، وعلى هذا جاء قول الحق سبحانه وتعالى: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا؛ أي ملازما محافظا، وقد تأتي المادة بمعنى الإصلاح والنهوض بالتبعات، ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ 6.
وعموما؛ فإن جذر هذه الكلمة والألفاظ القريبة منها ترجع إلى معنى الاعتدال والتوسط، والسلامة من غضب الله تعالى، وهي شرعا؛ لزوم ما جاء به الشرع أمراً ونهياً، وهي “كلمة جامعة آخذة بمجامع الدين، وهو القيام بين يَدي الله تعالى على حقيقة الصدق، والوفاءِ بالعهد، والاستقامة تعلَّق بالأَقوال والأَفعال والأَحوال والنِّيات، فالاستقامة فيها، وقوعها لله وبالله وعلى أَمر الله” 7، ويضيف آخر: “الاستقامة هي: طاعة الله، وأداء فرائضه، واتباع سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم،” 8 وهي حسب مجلة البحوث الإسلامية “كلمة جامعة للخير، ولجميع السجايا الحميدة، والخلال الكريمة، وأسمى ما يطلبه الإنسان في هذه الحياة أن يوصف بأنه مستقيم…” 9.
الاستقامة في القرآن الكريم والسنة النبوية
وردت الدعوة إلى الاستقامة في كتاب الله في مواطن عدة؛ منها ما ورد في سياق الثناء على أهل الاستقامة، وما وعدهم به من الأجر والعطاء؛ كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (فصلت: 30)، قال الفضيل بن عياض أي: “زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية” 10، وعن أنس رضي الله عنه قال: “قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية قال: قد قالها ناس من الناس ثم كفر أكثرهم فمن قالها حين يموت فهو ممن استقام عليها” 11.
ولقد ورد في قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا، عند صاحب “النكت والعيون” خمسة أوجه 12؛ أحدها: الاستقامة على أن الله هو الرب وحده، الثاني: الاستقامة على طاعته وأداء فرائضه، الثالث: الاستقامة على إخلاص العلم والدين إلى نهاية الأجل، الرابع: الاستقامة في الأفعال كالاستقامة في الأقوال، الخامس: الاستقامة في السر كما كانت الاستقامة في الجهر، ولعل مَن هؤلاء صفاتهم؛ لا شك؛ سينالون “معية الله عز وجل مع الصابرين، وهم الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وخصَّهم بهدايته دون من عداهم” 13.
أما قوله عز وجل: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (هود: 112)، ففيه حَض عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْإِسْلَامِ عَلَى الدَّوَامِ “دَوَام جِمَاعه الِاسْتِقَامَة عَلَيْهِ وَالْحَذَر مِنْ تَغْيِيرِهِ” 14، أو الاختلاف فيه وعليه، لِأَنَّ الاختلاف والِاعْوِجَاجَ مِنْ أسباب ودَوَاعِي اتباع الأَهْوَاء، وبذلك تكون الِاسْتِقَامَةُ عَمَلا بِكَمَالِ الشَّرِيعَةِ وتجنب الوقوع في الاختلاف والاعوجاج.
وهذه الآية؛ أي قوله تعالى: “فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ” جمعت؛ حسب صاحب التنوير؛ “أُصُولَ الصَّلَاحِ الدِّينِيِّ وَفُرُوعه لِقَوْلِهِ: كَما أُمِرْتَ” 15، وفيها قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: “مَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةٌ هِيَ أَشَدُّ وَلَا أَشَقُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ حِينَ قَالُوا لَهُ: لَقَدْ أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ “شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا”، وَسُئِلَ عَمَّا فِي هُودٍ فَقَالَ: قَوْلُهُ “فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ” 16.
و”كما أمرت” هي أمر بالاستقامة التامة الشاملة والالتزام بمقتضاها دون تقصير أو انحراف، بالإضافة إلى حمل تبليغها للأصحاب حالا ومقالا، فعن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قَالَ: “قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ” 17.
أما أنواعها في القرآن والسنة فيمكن إجمالها في: الاستقامة في السر، وفي الدعوة، وفي المنهج والمنهاج، والاستقامة في العهد والميثاق. ولقد عرضت فيهما إما بأسلوب الأمر والترغيب والترهيب أو التأكيد والتنكير، وكذلك ضرب الأمثال، ونماذج السالكين والثابتين على الصراط المستقيم، ولقد أشارا معا إلى أسباب الاعوجاج عن الاستقامة؛ كالجهل والطغيان والركون للظالمين، أو تبرير ظلمهم، وكذلك اتباع الأهواء بالتفريط في الثوابت، وأشارا كذلك إلى طرق علاج الانحرافات، وبسَطا الآثار والثمرات المرجوة من الاستقامة دنيا وآخرة 18.
أقوال مأثورة عن الاستقامة
تعددت أقوال الصحابة والتابعين والمجددين في الاستقامة؛ من ذلك ما نقله سعيد بن منصور في سننه عن سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه قوله: الاستقامة هي ألا تشرك بالله شيئًا 19، يربطها بمقصد التوحيد باعتباره رأس الأمر كله، أو ما ذكره صاحب فتح البيان في مقاصد القرآن عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إشارته إلى أن الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعالب 20، في حين يربطها سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بالإخلاص؛ يقول: استقاموا أي أخلصوا العمل لله، ومن العمل أداء الفرائض، وهذا ما ذهب إليه سيدنا علي بن أبي طالب، وسيدنا ابن عباس رضي الله عنهما 21.
والاستقامة في رأي ابن قيم الجوزية سبيل النجاة، “فمن هُدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسَل به رسله، وأنزل به كتبه، هُدي هناك إلى الصراط المستقيم، الموصل إلى جنته ودار ثوابه 22، وتتحقق بخمسة أمور: “استقامة اللسان على الذكر والثناء، واستقامة النفس على الطاعة مع الحياء، واستقامة القلب على الخوف والرجاء، واستقامة الروح على الصدق والصفاء، واستقامة السر على التعظيم والوفاء” 23، ومن علاماتها لدى أحمد بن إبراهيم السمرقندي أن يكون المستقيم “مثله كمثل الجبل؛ لأن الجبل له أربع علامات أحدها: أنه لا يذيبه الحر، والثاني: لا يجمده البرد، والثالث: لا تحركه الريح، والرابع: لا يذهبه السيل، فكذا المستقيم له أربع علامات” 24.
وبعد هذه الجولة المركزة في مفهوم الاستقامة، نعيد الاستفسار عن أهمية استقامة الفرد والمجتمع في ممانعة الاستبداد ودفع الظلم؛ وعن دور المنهاج النبوي في التنظير والتأسيس والتنزيل وبناء الرجال والنساء لتحقيق ذلك، هذا ما سنراه إن شاء الله “إن بقي في العمر بقية”.
[2] ابن فارس، مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر: 1399هـ/1979م. ج: 5، ص: 43.
[3] ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة، 1416هـ/1996م، ج: 2، ص: 104.
[4] ابن فارس، مقاييس اللغة، ج: 3، ص: 5.
[5] الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، مجلة البحوث الإسلامية – مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، ج: 22، ص: 289.
[6] مجلة البحوث الإسلامية، ج: 22، ص: 289.
[7] بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، ج4، ص313.
[8] أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني، تفسير القرآن، تحقيق: ياسر بن إبراهيم وغنيم بن عباس بن غنيم، دار الوطن – الرياض، 1418هـ- 1997م ج5، ص49.
[9] مجلة البحوث الإسلامية، ج: 22، ص: 289.
[10] أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي (ت 1307هـ)، فتحُ البيان في مقاصد القرآن، عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري، المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر، صَيدَا – بَيروت: 1412 هـ – 1992 م، ج: 12، ص:284.
[11] أخرجه الترمذي والنسائي والبزار وأبو يعلى وغيرهم، فتحُ البيان في مقاصد القرآن، ج: 12، ص: 284.
[12] أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري. النكت والعيون: ، دار الكتب العلمية – بيروت / لبنان. 1992م ج: 5، ص: 179. بتصرف.
[13] محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، دار التراث، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، ط3، 1409هـ/ 1989م. ص24.
[14] محمد الطاهر ابن عاشور، التنوير، الدار التونسية للنشر – تونس: 1984م، ج: 12، ص: 175/176.
[15] محمد الطاهر ابن عاشور، ج: 12، ص: 175/176.
[16] التنوير، ص: 175/176.
[17] مسلم، صحيح مسلم: كتاب: الإيمان – باب: جامع أوصاف الإسلام، ج1، ص47.
[18] رمزي ثابت سليمان يحيى، الاستقامة في القرآن الكريم “دراسة موضوعية”، رسالة ماجيستير 2006م، جامعة آل البيت، كلية الدراسات الفقهية والقانونية، قسم أصول الدين “تفسير”، ص: ز، بتصرف.
[19] سعيد بن منصور (ت 227 هـ)، سنن سعيد بن منصور تحقيق: فريق من الباحثين بإشراف وعناية: أ. د. سعد بن عبد الله الحميد و د. خالد بن عبد الرحمن الجريسي، دار الألوكة للنشر، الرياض – المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1433 هـ – 2012 م، ج: 7، ص: 237.
[20] فتحُ البيان في مقاصد القرآن ، ج : 12، ص: 284.
[21] محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، تحقيق/ محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي – بيروت، ط3، 1416 هـ – 1996م.ج2، ص104.
[22] محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية. تفسير القرآن الكريم: المحقق: مكتب الدراسات والبحوث العربية والإسلامية. دار ومكتبة الهلال – بيروت. ط1، 1410 هـ. ص13.
[23] محمد بن محمد بن مصطفى بن عثمان، أبو سعيد الخادمي الحنفي، بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية، مطبعة الحلبي – القاهرة، 1348هـ (د – ط)؛ ج3، ص154.
[24] أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي، تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، حقَّقه: يوسف علي بديوي، دار ابن كثير، دمشق، ط: 31421 هـ – 2000م ، ص594.