الإسلام دين الله الخالد للبشرية جمعاء، جاء تشريعا لمكارم الأخلاق، ومحاسن العادات.
شريعة بلغت درر الكمال، لقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (المائدة، من الآية 3)، وذروة سنام الأخلاق مع رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم، 4).
نعم صنعته العناية الربانية في أبهى صورة خَلقا وخُلقا، لتأتمّ وتقتدي وتهتدي به البشرية، قال تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (الأحزاب، 23).
احتفظت لنا كتب مناقب السيرة العطرة، والأحاديث النبوية الشريفة، بالشمائل المحمدية، والخصال النبوية لنهتدي بها في معاملاتنا، ونهذب بها أخلاقنا. وما أحوجنا اليوم لتمثل سيرته ومناقبه الحميدة، لبناء أواصر الود والرحمة والحب في علاقاتنا الأسرية، أو المجتمعية عامة.
رسول الله ﷺ ضرب المثل الأعلى في رحمته، ورفقه، ولين جانبه، وحسن مواساته، وحنوه، وعطفه، ورقته على الصغير والكبير، والقريب والبعيد، والصديق والعدو.
فكان لذلك أبلغ الأثر في تأليف القلوب، وتعميق أواصر المحبة، والإقبال الكبير على الدين الجديد.
كما كانت لهذه الرحمة النبوية، والأبوة الحانية، أبلغ الأثر في تربية جيل من الشباب.
تربية نبوية ربانية، رفيقة وحكيمة.
في موضوعنا هذا، سنعرض لبعض النماذج المشرقة، لنجلي عبرها كمال أبوته صلى الله عليه وسلم، وحسن تربيته لأبناء المسلمين، قبل أبناء آل بيته الأطهار المسلمين، لنجلي مكامن الحكمة، وأثر الرفق النبوي، في بناء الشخصية الإسلامية المتوازنة.
نماذج مشرقة للأبوة الحانية للرسول ﷺ
قبل الدخول في صميم الموضوع نقف هنيهة مع كلمة مفتاح جاء ذكرها، وهي كلمة أبوة، فماذا تعني لغة واصطلاحا؟
الأب لغة: النهوض والقصد، يقال: أب الرجل إذا تهيأ للذهاب والقصد (الكليات: الكفوي).
إذا الأبوة كلمة تحمل معاني النمو، والقصد، والتهيؤ للاحتضان الاجتماعي والتربوي والتعبدي، وكافة معاني الاحتضان، وإن كان أخص خصوصية النبوة هو الدم.
أما اصطلاحا: “إنسان يولد من نطفته إنسان آخر” (مفردات المعاني: الأصبهاني).
هذا الاحتضان الأبوي بكل أبعاده، نجده ماثلا في أخلاق النبي صلى الله عليه، وقد أشار إليه القرآن الكريم من خلال قوله تعالى: ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمْ (الأحزاب، من الآية 6).
عن أنس رضي الله عنه قال: “ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان ابنه مسترضَعا في أعالي المدينة، وكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت، فيأخده، فيقبله، ويرجع” (رواه مسلم في صحيحه).
هذه الرحمة نلمسها من خلال الحب النبوي الحاني لسبطيه الحسن والحسين رضي الله عنهما، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “قبل النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما، وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “من لا يَرحم لا يُرحم” (متفق عليه).
ولم تمنع الرسول صلى الله عليه وسلم إمامته للمسلمين في الصلاة، أن يحمل ويرتحل أحفاده، ويطيل سجوده حتى يجبر خاطرهم، فيعطينا درسا عمليا في ملاطفة الأبناء.
فعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي العاص بن الربيع بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها” (رواه البخاري ومسلم).
وروى النسائي عن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: “خرج علينا رسول لله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حسنا أو حسينا، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه، ثم كبر للصلاة، فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي، وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الناس: يا رسول الله إنك سجدت بين صلاتك سجدة أطلتها، حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك؟ قال: كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته” (رواه النسائي وصححه الألباني).
أما عن علاقته صلى الله عليه وسلم ببناته، فنجد تفاصيلها الرائعة في كتب السيرة.
نكتفي بذكر مشاهد من محبته، وتكريمه لسيدتنا فاطمة الزهراء رضي الله عنها، التي كان يكنيها بأم أبيها توددا واعترافا ببرها وعطفها، ونصرتها له في أشد مواقف البلاء.
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها” (الترمذي 3872).
خص رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وزوجها وأبناءها بالدعاء، فعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه أنه قال: “لمَّا نزلت هذِهِ الآيةُ على النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا في بيتِ أمِّ سلمةَ فدعا فاطمةَ وحَسنًا وحُسينًا فجلَّلَهم بِكساءٍ وعليٌّ خلفَ ظَهرِهِ فجلَّلَهُ بِكساءٍ ثمَّ قالَ اللَّهمَّ هؤلاءِ أَهلُ بيتي فأذْهِب عنْهمُ الرِّجسَ وطَهِّرْهم تطْهيرًا قالت أمُّ سلمةَ وأنا معَهُم يا نبيَّ اللَّهِ قالَ أنتِ على مَكانِكِ وأنتِ على خيرٍ” (صحيح الترمذي، 3205).
لم تقتصر أبوته الحانية على آل بيته الطاهرين، بل شملت جميع أبناء المسلمين، بحسن رعايتهم، واحتضانهم، والفرح بمواليدهم وتكريمهم، كما تحكي لنا السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق عن قصة مولودها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: “.. فَوَلَدْتُهُ بقُبَاءٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَوَضَعَهُ في حَجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا، ثُمَّ تَفَلَ في فِيهِ، فَكانَ أَوَّلَ شيءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ حَنَّكَهُ بالتَّمْرَةِ، ثُمَّ دَعَا له وَبَرَّكَ عليه، وَكانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ في الإسْلَامِ” (صحيح مسلم، 2146).
أما عن حسن معاملته لسيدنا أنس رضي الله عنه، فنتركه يروي لنا قصته: “ما مسستُ بيدي ديباجًا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألْينَ مِن كفِّ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ، ولا شممتُ رائحةً قطُّ أطيبَ من ريحِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ولقد خدمتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عشرَ سنينَ فواللَّه ما قالَ لي : أُفٍّ قطُّ ، ولا قالَ لشيءٍ فعلتُهُ : لمَ فعلتَ كَذا ولا لشيءٍ لم أفعلْهُ ألا فعلتَ كَذا” (متفق عليه).
وقال أيضا رضي الله عنه: “كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأخُذُني فيُقعِدُني على فخِذِه ويُقعِدُ الحسَنَ بنَ علِيٍّ على فخِذِه الأخرى ثمَّ يقولُ: اللَّهمَّ إنِّي أرحَمُهما فارحَمْهما” (رواه البخاري).
ويبقى السؤال المحوري: كيف نجتهد في دراسة السيرة النبوية العطرة، ونستخلص منها الدروس، والطرائق التربوية الرفيعة، ونوظفها في مجال التربية، لتستفيد منها أجيال المسلمين؟
كيف نترجمها سلوكا عمليا نرقى به في معاملتنا مع أبنائنا؟
الاحتضان النبوي وأثره في بناء الشخصية الإسلامية المتوازنة
يتفق علماء النفس وخبراء التربية أن مرحلة الطفولة أهم المراحل العمرية التي تطبع شخصية الإنسان، وتؤثر تأثيرا بالغا في اتسامها بالسواء، أو اللاسواء.
فهي مرحلة عمرية تتميز بالهشاشة والضعف، كما وصفها الله تعالى في الآية الكريمةّ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (الروم، 54) صدق الله العظيم.
والطفل له حاجات عديدة، تتنوع بين ما هو بيولوجي، ونفسي، واجتماعي.. كما عبر عنها العالم أبرهام ماسلو في نظرية نفسية، قدمها للعالم في ورقته البحثية: “نظرية الدافع البشري” عام 1943، تتبع نظريته فرع علم النفس التربوي الذي يدرس تطور نمو الإنسان خلال مراحله العمرية، وترتب حاجات الإنسان في خمسة أصناف مرتبة هرميا، تتلخص هذه الحاجات في: الاحتياجات الفسيولوجية، وحاجات الأمان، والاحتياجات الاجتماعية، والحاجة للتقدير، والحاجة لتحقيق الذات (ويكيبيديا).
تتفاوت هذه الحاجات من حيث أهميتها، وتتفاوت آثارها الصحية، فعدم إشباع الحاجات الفسيولوجية، يمكن قياسها وملاحظتها من خلال عدم اكتمال نمو الطفل، لكن الخلل الذي يستتبع الحرمان من باقي احتياجات، لن يظهر إلا في مراحل عمرية متقدمة، قد يستشكل علاجها.
عندما نتكلم عن الاحتضان التربوي، لا نعني فقط تلبية الحاجات المادية للطفل، وإن كانت ذات أولوية، ومن واجبات الرعاية، لكن نقصد أيضا إشباع حاجات الطفل النفسية، والاجتماعية، التي تنمي لديه الإحساس بالأمان والثقة بالنفس، وتمكنه من الاندماج في المجتمع، وتحقيق حياة مستقرة آمنة، وهذا هو مفهوم التربية.
باستقرائنا للنموذج النبوي الخالد، نلمس بوضوح مراعاته صلى الله عليه وسلم لكل هذه الجوانب، والتفاصيل تنم عن خبرته صلى الله عليه وسلم بالفطرة الإنسانية واحتياجاتها، لم تمنعه صلى الله عليه وسلم عظم المسؤوليات التي كانت على عاتقه، فهو نبي أمة وإمامها وقائدها، على إعطاء كل ذي حق حقه.
هذا الحدب النبوي على الأبناء، لا يتعارض مع توجيه النصح والإرشاد وتهذيب للفطرة، فهذه من مقتضيات المسؤولية التربوية للآباء.
فالتربية لغة: التنمية والزيادة، والتقويم والإصلاح، وإيصال الشيء إلى كماله.
التربية هي الحفاظ على الفطرة السليمة، وهي مسؤولية الآباء اتجاه الأبناء، وهذا ما يعضده رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِن جَدْعَاءَ” ثُمَّ يقولُ أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا (الروم، 30).
كان هذا مضمون الرسالة النبوية، والذي لمسناه في كثير من المواقف، منها ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: “أَنَّ فَاطِمَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ خَادِمًا: وَشَكَتْ الْعَمَلَ: فَقَالَ مَا أَلْفَيْتِيهِ عِنْدَنَا، قَالَ: أَلَا أَدُلُّكِ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْ خَادِمٍ؛ تُسَبِّحِينَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتَحْمَدِينَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتُكَبِّرِينَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ حِينَ تَأْخُذِينَ مَضْجَعَكِ”.
قال القرطبي: “إنما أحالها على الذكر ليكون عوضا عن الدعاء عند الحاجة، أو لكونه أحب لابنته ما أحب لنفسه من إيثار الفقر وتحمل شدته بالصبر عليه تعظيما لأجرها”.
من خلال النماذج التي سبق ذكرها، يمكن حصر ملامح التربية النبوية الحكيمة للنشء فيما يلي:
1- تربية رفيقة رحيمة: وهذا مبدأ أصيل من مبادئ ديننا الحنيف، ففي الحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: “إن الله يحب الرفق في الأمر كله” (متفق عليه).
2- تربية متدرجة وحكيمة: وهي شريعة ربانية، تراعي خصوصية الطبيعة البشرية.
3- تربية متوازنة ومتكاملة: تلبي كل حاجات الإنسان؛ القلبية، والعقلية، والنفسية، والفسيولوجية.
هذه التربية هي التي صنعت شبابا قويا، مقتحما، قياديا، استطاع حمل الرسالة الإسلامية، ونشرها في الآفاق، وبعدة قوامها رجولة ربانية، قوية، وفاعلة.
ما أحوجنا اليوم لإحياء النموذج النبوي في التربية الربانية، الرفيقة، المتوازنة، ليستفيد منها الآباء في تربية جيل من الشباب، نؤهله ليستطيع مواجهة تحديات عصره، فتكون الأسرة ملاذا آمنا، وحضنا رفيقا، ومشتلا حيويا، لتأهيلهم لاكتساب شخصية متوازنة، قوية، قادرة على تحقيق آمالها، والمساهمة في بناء غد أمتها.