تعتبر الأسرة من أهم خلايا المجتمع ولبناته الأساسية؛ فهي النقطة الأولى التي يبدأ منها التطور، وهي الوسط الطبيعي الذي يترعرع فيه الفرد ويحيا 1.
وعند الحديث عن الأسرة اللبنة، ودورها الاستراتيجي في صناعة التطور والازدهار المجتمعي ومجد الأمة، يجب تسليط الضوء على مدى اهتمامها بأفرادها وخاصة الأطفال منهم. فأين يتجلى اهتمام الأسرة السوية في صناعة طفل سوي؟
إن الحديث عن الطفل السوي، هو حديث عن تربية سليمة، وصحة نفسية متوازنة. وإدماجه واندماجه داخل المجتمع بطرق غير منافية لفطرته؛ تضمن له أسرة، مكونة من أب وأم جمع بينهما ميثاق غليظ أساسه المودة والرحمة؛ فضاء يعمه التفاهم والوئام، وحسن التخطيط والتدبير لاستقباله، خاصة من جهة الأم؛ فهي التي تحمله بين أحشائها، ويتغذى من غذائها، ويأخذ من صفاتها وسلوكياتها، يحمل عنها مشاعرها، سواء كانت سلبية أم إيجابية، لذا وجب رعاية تلك الأم أيما رعاية، لا من حيث الصحة الجسدية ولا من حيث الصحة النفسية، حتى تتمكن من استقبال ذلك الطفل في بيئة سليمة.
لذلك؛ وجب الحفاظ على تلك البيئة السليمة، وتنشئته بطرق غير منافية لفطرته، والاهتمام بمرحلة طفولته؛ باعتبارها مرحلة مركزية في نموه، ومهمة من أجل تحديد هويته وبناء شخصيته؛ فهي تمتد منذ لحظة الولادة إلى سن الثانية عشرة، وضمن هاته المرحلة توجد مراحل مصغرة، تتميز كل واحدة منها بخصائص عن الأخرى، وكل واحدة لها الفضل على سابقتها، وكل واحدة لها ظروفها ومؤثراتها التي تؤثر بها على نمو الطفل.
فمرحلة الطفولة المبكرة (من سنتين الى خمس سنوات) مثلا؛ تتميز بنمو خلايا الدماغ بشكل أسرع، وخلالها يتمكن الطفل من التعرّف على أفراد عائلته، ويزداد نموه الجسمي؛ فيصبح قادراً على المشي، والحركة بسرعة، واللهو مع الأطفال الآخرين أو بالألعاب لوقتٍ أطول. فهي مرحلة أساسية ومهمة؛ لأن من خلالها تتشكل نفسية الطفل وهويته، لذلك فإن دور الوالدين معا داعم وقوي لبناء نفسي سليم؛ سيما وأن الأم تعتبر المؤثر الأول في الطفل؛ بحكم احتكاكه بها بشكل دائم في الخمس سنوات الأولى من عمره، فيما يعتبر الأب في بنائه النفسي الرمز والقدوة.
بيد أن تكامل أدوار كل من الأم والأب، هو بالضمن تكامل في بناء فضاء أسري قوي ومتين، وإسهام في بناء متين لشخصية الطفل. وفي ظل ذلك الفضاء الأسري المتين، يتمكن وبقدرة عالية على اكتساب اللغة، وتعلم المهارات وتأديتها بشكل دقيق.
كما يساهم حضور الوالدين معا في حياة الطفل، ومحاورتهما ومناقشتهما له، من تنمية قدراته على التواصل والتفاعل الاجتماعي، وذلك من خلال محاورته ومناقشته داخل البيت.
أما بالنسبة للصحة النفسية للطفل، فإنها تتأثر بصحة الأم، ومن خلال فترة الرضاعة، كما تتأثر أيضا بعدم الاستقرار الأسري، وعدم تفاهم وتوافق الوالدين؛ لأن كثرة الخلافات والمشاحنات بين الزوجين أمام الطفل تعرقل نموه السوي، وهو ما يتنافى مع حاجاته التربوية. ولضمان صحة نفسية سليمة للطفل يجب أن تحقق له بيئته الأسربة:
1- إشباع الحاجات النفسية، خاصة الحاجة إلى “الانتماء والأمن والأهمية والحب والاستقرار والقبول”.
2- تنمية القدرات الخاصة به؛ ويكون ذلك عن طريق اللعب والخبرات البناءة والممارسة الموجهة من الوالدين.
3- الاهتمام بتعليمه التفاعل الاجتماعي، واحترام حقوق الآخرين، والتعاون معهم فى الخير.
4- اهتمام الوالدين بتعليمه التوافق النفسي.
5- تكوين الاتجاهات السليمة نحو الوالدين والإخوة ومن حوله.
6- تكوين العادات السليمة الخاصة بالتغذية والكلام والنوم والتعامل مع الآخرين.
7- تكوين الأفكار والمعتقدات السليمة.
وفي ظل غياب البيئة الضامنة لتلك الشروط فإن ذلك يؤثر حتما بالسلب على الصحة النفسية فينتج عن ذلك:
1- الإهمال ونقص الرعاية، مما يحدث الشعور بعدم الأمان، وبالوحدة، ومحاولة جذب انتباه الآخرين، والسلبية، والشعور العدائي، والتمرد، وعدم القدرة على تبادل العواطف، والخجل، والعصابية، وسوء التوافق النفسي.
2- الحماية المفرطة، فتسبب له عدم القدرة على مواجهة الضغوط البيئية ومواجهة الواقع، والخضوع، والقلق، وعدم الأمن، وكثرة المطالب، وعدم الاتزان الانفعالي، وقصور النضج، والأنانية.
3- التدليل، وهو ما يؤثر على الطفل بأن تجعله يرفض السلطة، ويحس بعدم الشعور بالمسؤولية، والإفراط في الحاجة إلى انتباه الآخرين.
4- التسلط والسيطرة وآثار ذلك؛ هو إما استسلام الطفل وخضوعه، أو التمرد وعدم الشعور بالكفاءة، ونقص المبادأة، والاعتماد السلبي على الآخرين، وقمع وكبت استجابات النمو السلبية، وسوء التوافق مع متطلبات النضج.
5- فرض النظم الجامدة؛ ومن مظاهر تأثيرها المغالاة في اتهام الذات، والسلبية، وعدم الانطلاق، والتوتر، والسلوك العدائي.
6- مشكلات النظام والتضارب، ويكون آثار هذا هو عدم تماسك قيم الطفل، وتضاربها، وعدم الثبات، والانفعال، والتردد في اتخاذ القرارات.
7- انفصال الوالدين أو الطلاق؛ يحدث عدم الشعور بالأمن، وعدم الاستقرار والعزلة، وعدم وجود من يتمثل قيم الطفل وأساليبه السلوكية، والخوف من المستقبل.
8- اضطراب العلاقات بين الإخوة؛ وآثاره العداء والكراهية، والشعور بعدم الأمن، وعدم الثقة بالنفس.
9- الوالدان العصابيان؛ وهو ما ينعكس على نفسية الطفل بالخوف، والشعور بعدم الأمن، واستخدام الحيل العصابية التي يستخدمها الوالدان.
10- المثالية وارتفاع مستوى الطموح؛ وهو ما قد يولد لدى الطفل الإحساس بالإحباط، والشعور بالإثم، وامتهان الذات، والشعور بالنقص.
11- التدريب الخاطئ على عملية الإخراج؛ ويكون آثاره الشعور بالعجز والخوف والعناد والشقاوة. 2
إجمال القول؛ إن بناء الصحة النفسية السوية لدى الطفل رهين ببناء أسرة متينة ورصينة، يحكمها البعد التفاضلي الإحساني، قبل البعد العدلي الحقوقي.