الأطفال ومواقع التواصل.. العمر المناسب والمخاطر المحتملة

Cover Image for الأطفال ومواقع التواصل.. العمر المناسب والمخاطر المحتملة
نشر بتاريخ

مع اتساع استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، يزداد الجدل حول العمر المناسب لولوج الأطفال إلى هذه الفضاءات المفتوحة. فالطفل الذي لم يكتمل وعيه بعد قد يتعرض لمخاطر نفسية واجتماعية أكبر من قدرته على الاستيعاب، وهو ما يجعل المسألة تربوية قبل أن تكون تقنية.

 وهذا ما نلمسه في ديننا الحنيف، حيث ينطلق في تناوله لهذه المسألة من قاعدة أساسية هي أن التكليف والقدرة مرتبطان بالنضج والوعي. فالإسلام لا يحمّل الطفل ما لا يطيق قبل أن يبلغ سن الرشد، بل دعا إلى التدرج في تحميله المسؤوليات. قال النبي صلى الله عليه وسلم، “رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل” (رواه أبو داود).

وبالقياس على هذا الأصل، فإن تسليم الطفل فضاء مفتوحا مثل مواقع التواصل قبل أن يبلغ من النضج ما يحميه من الانحرافات والمخاطر، يُشبه تسليمه أمانة أو مالا لا يحسن تدبيره. وهنا تبرز دلالة قوله تعالى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء: 5].

مخاطر مواقع التواصل الاجتماعي

يمكن إجمال هذه المخاطر في الآتي:

1. المخاطر النفسية والاجتماعية

تشير الدراسات والأبحاث الحديثة إلى أن تعرض الأطفال لمواقع التواصل في سن صغيرة قد يؤدي إلى:

– القلق والانعزال بسبب المقارنات الدائمة بالآخرين.

– ضعف التركيز الدراسي نتيجة الانشغال المستمر بالإشعارات والتصفح العشوائي.

– تعرض مبكر للتنمر الإلكتروني أو لمحتويات غير مناسبة للسن.

وهذا يوافق التحذير النبوي من الانجرار وراء كل ما يُنشر دون تمحيص، حيث قال صلى الله عليه وسلم: “كفى بالمرء كذبًا أن يُحدِّث بكل ما سمع” [رواه مسلم].

2. المخاطر الفكرية والدينية

الولوج المبكر لمواقع التواصل الاجتماعي يجعل الطفل عرضة لأفكار ومضامين قد تتعارض مع قيمه وهويته الدينية، مثل:

– التطبيع مع السلوكيات المنحرفة نتيجة التكرار والمشاهدة المستمرة.

– زعزعة الثوابت العقدية بسبب انتشار الإلحاد أو الشبهات الفكرية.

– ضعف الانتماء للأسرة والمجتمع تحت تأثير النماذج الغربية في الحياة.

وقد وجَّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهمية التربية على مرجعية صحيحة فقال: “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه” [رواه البخاري].

توصيات المؤسسات العالمية

ولحماية الطفل من هذه المخاطر في سن مبكرة، لا بد من اعتماد عدة إجراءات وقائية وتربوية تضمن سلامته النفسية والاجتماعية والأمنية. وتوصي معظم المنظمات التربوية والصحية العالمية، مثل منظمة الصحة العالمية (OMS) واليونيسف (UNICEF)، بعدم إتاحة مواقع التواصل الاجتماعي للأطفال قبل سن 13 عاما على الأقل، إذ تكون القدرة على التمييز والمساءلة في بداياتها. بل إن بعض الخبراء يفضلون أن يكون سن الانخراط بين 15 و16 عامًا، مع متابعة ومرافقة الأهل لضمان استخدام آمن ومسؤول للتكنولوجيا.

بدائل مناسبة وآمنة

إن حماية الأطفال في الفضاء الرقمي مسؤولية دينية وأخلاقية واجتماعية، تعكس حرص الشرع على سلامتهم النفسية والفكرية والأمنية. ومهما توفرت الوسائل التقنية، يبقى التوجيه الأسري المبكر والوعي بالقيم الدينية والأخلاقية هما الدرع الأقوى في حماية الطفل من الانحرافات والمخاطر، لتنشئته على الفطرة السليمة والقدرة على استخدام التقنية بما ينفعه ويعود بالنفع على مجتمعه.

وقد جاء في الحديث النبوي الشريف، “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف” [رواه مسلم]، وهذا يشمل القوة النفسية والاجتماعية التي تُبنى عبر بدائل تربوية صحية، بعيدا عن الاعتماد المبكر على الفضاء الرقمي. فكل نشاط مفيد، وكل لعبة تعليمية، وكل تجربة جماعية، تسهم في بناء شخصية الطفل القوية، القادرة على مواجهة تحديات الحياة بثقة وحكمة. وعليه يمكن للأسرة أن تقدم بدائل تعليمية وترفيهية تناسب أعمار أطفالهم، مثل:

– منصات تعليمية (Khan Academy Kids)، أو تطبيقات تعلم اللغات.

– منصات ترفيهية آمنة للأطفال، مثل YouTube Kids مع الرقابة الأسرية.

– أنشطة جماعية مباشرة: النوادي الرياضية، ورش القراءة، الفعاليات الثقافية.

خاتمة

السؤال عن العمر المناسب لانخراط الأطفال في مواقع التواصل الاجتماعي ليس مجرد نقاش تقني، بل هو مسؤولية تربوية وأخلاقية. فالتسرع في فتح هذه الأبواب قد يعرض الطفل لمخاطر نفسية واجتماعية يصعب تداركها، بينما الانتظار مع توفير بدائل تعليمية وترفيهية آمنة يسهم في بناء شخصيته المتوازنة.

وعلى الوالدين أن يقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يحرص على تنشئة الأطفال وفق قدراتهم وطاقاتهم، فلا يحملهم ما لا يطيقون، ويعمل على مرافقتهم خطوة بخطوة حتى يبلغوا النضج الكافي الذي يؤهلهم لاستخدام واع ومسؤول لمواقع التواصل.

فلنجعل إذن من التربية الرقمية رحلة واعية، نرشد فيها أبناءنا، ونزرع فيهم القيم، لننمي أجيالا مؤمنة، قوية، ومسؤولة، تساهم في خير مجتمعها، وتكون قدوة حسنة في عالم يتغير بسرعة.