اقتضت حكمة الله عز وجل رحمة ورأفة بعباده، وابتلاء واختبارا لمن يؤمن بغيبه، أن يرسل رسلا إلى الناس من بني جنسهم، فيكونوا مبشرين بجنة الله ورضوانه لمن اتبع هديهم، ومنذرين لمن أخذته العزة بالإثم تكبرا واستكبارا على رُسل الله وخَلقه بالعذاب الشديد يوم ترفع حجب الغيب وترى الحقائق رأي العين.
وفضل الله عز وجل الأنبياء والرسل على سائر البشر، وفضل الرسل والأنبياء بعضهم على بعض، فكان سيدنا محمد عليه أزكى الصلاة والسلام أفضلهم وسيدهم وخاتمهم، ورسالته ناسخة لرسالاتهم، وأمته مفضلة على سائر الأمم، قال صلى الله عليه وسلم: “أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر..” 1.
أخرج الله عز وجل بالنبي محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التحيات أُمما شتى من ظلمات الكفر والشرك والضلالة إلى أنوار التوحيد والإيمان والهداية، قال الله تعالى: رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ (الطلاق)، ورفع الله المؤمنين برسالته من بعد الذل والخزي والمهانة إلى ذروة العزة والمكانة والسؤدد، قال تعالى في سورة المنافقين: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، كما حققت رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم للإنسان سعادته الفردية بأن وازنت له بين حاجات جسده وحاجيات روحه، وحققت له أيضا سعادته الجماعية بأن جعلت العدل أساس الحكم، والمساواة ركيزة المجتمع، والتكافل قاعدة الاقتصاد، والتسامح والسلم منهج العلاقات الخارجية.
وبذلك وصلت الأمة، لما اتبعت سنة أبي القاسم صلوات الله عليه، إلى القمة رقيا وعزة وعدلا، وسادت أمما أخرى رحمة وتنويرا وتحريرا من ظلمات الطغيان والشرك والجهل، لكن الأمة سرعان ما بدأت تنقض عرى الإسلام الذي شيده الرسول الكريم، قال عليه السلام: “لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها وأولهن نقضاً: الحكم، وآخرهن الصلاة” 2، فتمزقت وحدة الأمة وفشا الظلم وحل الشقاق، وساد العنف وتفشت الطبقية، وأصبحت الأمة في ذيلية الأمم تابعة خانعة خاضعة. فما هي حاجة الأمة اليوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الوحدة بدل الفرقة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت” 3. في هذا الحديث العظيم تلخيص للأسباب التي أدت إلى فرقة الأمة، عوامل داخلية سهلت مأمورية العوامل الخارجية. وهنُ قلوب أفراد الأمة جعل أمرها الجماعي غثاءً كغثاء السيل رغم العدد والعتاد، ونزعٌ للمهابة من صدور الأعداء جعلهم يتداعون على الأمة استعمارا عسكريا واستنزافا اقتصاديا واحتلالا للعقول وتدميرا للقيم والأخلاق النبوية.
فلن يرتفع تكالب الأعداء إلا بارتفاع الغثاء والتفرقة، ولن تزول الفرقة والغثاء إلا بزوال الوهن من القلوب، ولن يكون كل ذلك إلا بالعودة إلى منهج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي علمنا كيف يُجدد الإيمان في القلوب والدين في الأمة.
العدل بدل الظلم
شيد رسول الله عليه وسلم مبادئ الحكم العادل وأرسى أسسه وحافظ عليه الخلفاء الراشدون فسمي باسمهم: الخلافة الراشدة، لكن هذا الصرح السياسي لم يدم سوى ثلاثين سنة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كما تنبأ بذلك في قوله: “الخلافةُ في أُمّتي ثلاَثُونَ سنةً، ثُمّ مُلْكٌ بعد ذلك. ثُمّ قال سفينَةُ: امْسِكْ عليكَ خلافةَ أَبي بَكرٍ، ثُمّ قال: وخلافةَ عُمَرَ وخلافةَ عُثْمانَ، ثُمّ قال لي: امسِكْ خلافةَ عَلِيّ قال: فوجدنَاها ثلاثينَ سَنَةً” 4.
وهكذا فارق السلطان القرآن، وتولى مقامَ النبوة والخلافة الراشدة ملوكٌ حكموا الأمة بالوراثة عوض الشورى، واستبدلوا الحرية بالسيف، وأحلوا الظلم محل العدل، وقربوا السفهاء وأبعدوا العلماء، ونزل خلفهم دركات عن سلفهم، فنراهم اليوم يبيعون الأمة لأعدائها، ويخربون قيمها تقربا وتزلفا للمستكبر العالمي والمغتصب الصهيوني. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا إن كتاب الله والسلطان سيختلفان، فلا تفارقوا الكتاب. ألا إنه سيكون عليكم أمراء يرضون لأنفسهم ما لا يرضون لكم، إن أطعتموهم أضلوكم، وان عصيتموهم قتلوكم “قالوا:” وما نفعل يا رسول الله؟” قالّ: “كما فعل أصحاب موسى، حملوا على الخشب، ونشروا بالمناشير، فو الذي نفس محمد بيده لموت في طاعة خير من حياة في معصيته” 5.
وصية نبوية واضحة إذن أن ندور مع الكتاب لا مع السلطان حتى يحقق الله وعده للمؤمنين بالنصر والتمكين والاستخلاف.
العزة بدل التبعية
في مشهد فتح بيت المقدس الجليل، وبعد رفض حاكمها البطريرك تسليم مفاتيح القدس لأي من قادة الجيوش الإسلامية الثلاثة (عمرو بن العاص، شرحبيل بن حسنة وأبو عُبيدة عامر بن الجراح) لأن أوصافهم لا تتفق مع أوصاف الفاتح الذي قرأ عنه البطريرك في كتبهم، ولم تكن تلك الأوصاف تنطبق سوى على سيدنا عمر بن الخطاب الذي تنقل إلى بيت المقدس رفقة غلامه متناوبين على الدابة، وعندما قاربا على مشارف بلاد الشام وقريباً من القدس، قابلتهم مخاضة من الطين فقال له أمين هذه الأمة أبو عُبيدة عامر بن الجراح: “أتخوض الطينَ بقدميك يا أمير المؤمنين وتلبس هذه المُرقعة وهؤلاء القوم قياصرة وملوك ويُحبون المظاهر، وأنت أمير المؤمنين فهلا غيرت ثيابك وغسلت قدميك؟ وهذا مقام عزة وتشريف للمسلمين بتسلم مفاتيح القدس”، فقال عمر رضي الله عنه: “لقد كنا أذلاء فأعزنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله. والله لو قالها أحد غيرك يا أبا عُبيدة لعلوت رأسه بهذه الدِّرة”. وركب سيدنا عمر وسار الغلام، ثم تناوب معه حتى تمنى الجند المسلمون أن تكون نوبة عمر على الدابة حينَ يدخل على حاكم القدس، وأن لا تكون نوبة الغلام، فحصل ما كانوا يحذرون، ودخل الغلام راكباً وأمير المؤمنين يمشي على قدميه، ولما وصلوا نظر البطريرك إلى عمر وثوبه وهو يقودُ الدابة لغلامه فسلمهُ مفاتيح القدس. وقال له: “أنتَ الذي قرأنا أوصافه في كتبنا يدخلُ ماشياً وغلامهُ راكباً وفي ثوبه سبعة عشرة رقعة” (وفي رواية أربعة عشر رقعة)، وعندما تسلم عمر المفاتيح خرَّ ساجداً لله، وقضى ليلتهُ يبكي وما جفت دموعه، ولما سُئلَ عن سبب بكائه قال: “أبكي لأنني أخشى أن تـُفتحَ عليكم الدنيا فينكر بعضكم بعضاً، وعندها يُنكركم أهل السماء”.
وقد صدق خليفة رسول الله؛ فتحت الدنيا أبوابها على أمة المعصوم صلى الله عليه وسلم فأنستهم الأصول، وانتشر التحاسد والتناجش والتباغض والتدابر بين أبناء الأمة. ولهث المسلمون وراء عزة مطلوبة مفقودة، فجربوا الرأسمالية والاشتراكية والقومية والعلمانية وكل صنوف أبواب النهضة، فلم يفتح لهم أي باب، ناسين قولة الفاروق أن العزة في الإسلام وليس في غيره.
فالحل كله إذن في العودة إلى جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى شريعته، وإلى سنته، بدل التشرذم القائم، والعنف الطاحن، والشقاق المفرق، والهوان المذل.
صلى الله عليه وسلم ورد بأمته إليه ردا جميلا.