الإفتاء في فقه الإمام الشاطبي.. الأحوال والأقسام والأحكام (1)

Cover Image for الإفتاء في فقه الإمام الشاطبي.. الأحوال والأقسام والأحكام (1)
نشر بتاريخ

أولا: تاريخ الفقه

مرت أطوار ومراحل على الفقه الإسلامي، حتى استقرت قواعده، واتضحت معالم ضوابطه، وصار فرعا مستقلا من فروع الشريعة الإسلامية، وانقسم الفقه بعد مرحلة التدوين إلى فقه واقعي (بعدي) يتعامل مع الوقائع بعد حدوثها. وفقه فرضي (تقديري) هو افتراض وقوع مسائل عملية للناس في المستقبل (قبلي) يضع لها الفقيه أحكاما قبل حلولها.

وبالنظر إلى المراجع التي دونت لتاريخ الفقه الإسلامي، يمكن إجمالا تقسيمه كالآتي:

الدور الأول: دور التأسيس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

وهذا الدور هو أهم العصور الفقهية على الإطلاق، لأن التشريع الإلهي اكتمل في هذا العصر، لأن هذا العصر كان عصر فقه الوحي وحده، وهو أساس التشريع كله، لأن الحكام الشرعية كانت تتنزل باللفظ والمعنى متمثلة في آيات القرآن الكريم، أو بالمعنى وحده متمثلة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – هو المرجع الأول والأخير في الفتيا وإليه يرجع الصحابة في الفهم والبيان.

وأما اجتهاد الصحابة فيرجع فيه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يقره أو ينكره، فالصحابة يعرضون اجتهادهم على النبي – صلى الله عليه وسلم – عند لقائه، وهو يفصل في صحته أو فساده.

الدور الثاني: دور البناء في عصر الراشدين

انقسم هذا الدور بقلة الخلاف بين الصحابة، ومرد ذلك إلى أن الاجتهاد في عهدهم كان يأخذ شكل الشورى وبخاصة في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وهو ما ضيق شقة الخلاف.

ومن أسباب ذلك كذلك، تيسر الإجماع، وظهوره كأصل ثالث في هذا العصر، وذلك لاجتماع أكثر الصحابة في المدينة المنورة، معقل الخلافة، وقلة رواية الحديث.

هذا إضافة إلى واقعية الفقه وقلة النوازل، فلم يكن الصحابة يفرضون المسائل مقدما ويبحثون عن حكمها قبل وقوعها، وكان الناس في هذا العصر يسألون عن واقع الحادثة فعلا، والحاجة إلى معرفة حكمها، وهذا أدى الى قلة الخلاف بسبب قلة الإفتاء لقلة الحوادث.

الدور الثالث: دور إكمال البناء من سنة 41 من الهجرة إلى أوائل القرن الثاني

تطور اتجاه الفقه في هذا العصر بتطور التحديث بالسنة، وشيوع رواية الحديث، وهذا العصر، وإن كان عصر التابعين، الذين ساروا على نهج الصحابة – عليهم الرضوان – في الفقه وسيرهم على مناهجهم في الاستنباط من حيث الرجوع إلى الكتاب والسنة ثم إلى الاجتهاد بالرأي، بعد النظر إلى علل الأحكام ومراعاة مقاصد التشريع وجلب المصالح ودرء المفاسد، إلا أن الخلاف بينهم اتسع، لأسباب نجملها في الآتي:

1- اتساع دائرة الفقه وكثرة مسائله والاختلاف فيها، وذلك لتفرق الفقهاء في الأمصار وظهور الفرق كالخوارج والشيعة وغيرهم.

2- شيوع رواية الحديث وكثرتها، وما صاحب ذلك من ظهور الوضع والوضاعين، والتحفظ والتشدد في قبول الحديث.

3- انقسام العلماء إلى أهل الرأي وأهل الحديث وعلاقته بظهور ما يسمى بالفقه الفرضي في الدور الرابع التالي لهذا الدور.

علمنا أن الصحابة – رضوان الله عليهم – كانوا يجتهدون إذا لم يجدوا نصا من كتاب الله أو سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من خلال اجتماعهم وإبداء كل رأيه ثم التوافق بعد التشاور فيكون الرأي إجماعا، وإن لم يكن، كان اجتهادهم يقوم على النظر في علل الأحكام ومقاصد التشريع ودرء المفاسد وجلب المصالح. ويعملون رأيهم في المسائل المعروضة عليهم وفق هذه القواعد، وكان فقهاء الصحابة فريقان: فريق يتهيب من الرأي ولا يلجأ إليه إلا قليلا، كالعباس والزبير وعبد الله بن عمر، وفريق لا يتهيب الرأي ويتوسع فيه، كعمر وعبد الله بن مسعود، ومن هنا تأسست مدرسة تقف عند النصوص ولا تتجاوزها إلى إبداء الرأي احتياطا وورعا وتمسكا بالآثار، ومدرسة لا تقف عند النصوص، بل يغوص أصحابها في فهم معانيها ومقاصدها واستنباط عللها وحكمها.

أساس الخلاف بين مدرسة الحديث ومدرسة الرأي

الاختلاف الذي اشتد بين المدرستين في العصر التالي لعصر الصحابة، كان محوره أمران: الأول: الأخذ بالرأي، والثاني: تفريع المسائل بناء على الرأي .

أ- الأخذ بالرأي

أهل الحديث يقفون عند النصوص والآثار والمعاني الواضحة منها، ولا يميلون إلى الرأي إلا نادرا، وربما توقفوا عن الفتوى فيما لا نص فيه، وكانوا يذكرون الوقوف عند النصوص والآثار لا يتجاوزونها.

أما فقهاء مدرسة الرأي، فلا يتهيبون الفتوى بالرأي، مادام النص غير موجود في الكتاب أو السنة فيما يجتهدون فيه، ولذا توسعوا في استعمال الرأي، وحجتهم معقولية معنى أحكام الشريعة، وأنها ترمي إلى مصلحة الناس، وأنه لابد من بحث العلل والأحكام التي من أجلها شرعت النصوص، حتى يمكن للفقيه استنباط الأحكام الجديدة.

ب- تفريع المسائل

فقه أهل الحديث فقه واقعي، فهم لا يفرعون المسائل ولا يفرضون الوقائع ثم يبحثون عن أحكامها، ولا يفتون إلا فيما وقع من نوازل بالنصوص والآثار لا بالرأي، وإن لجأوا إلى الرأي فمكرهين وفي أضيق الحدود.

أما فقه أهل الرأي فلم يتوقفوا عند المسائل الواقعية يستنبطون أحكامها وإنما تجاوزوا ذلك إلى مسائل يفرضونها لم تقع، ويستخرجون لها الأحكام بآرائهم وفق القواعد سابقة الذكر، وإن كانت أصول مدرسة الرأي واقعية من حيث النشأة، إلا أنها اتجهت نحو الفرض والتقدير بعد استخلاص فقهائها علل الأحكام وقعدوا المسائل ووضعوا الضوابط.

فوقف الفريق الأول عن الإفتاء إذ لم يجدوا نصا، متمسكين بظاهر قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم (الإسراء 26).

والفريق الثاني رأى أن الأحكام معللة بعلل، وشرعت لغايات، فتتبعت علل الأحكام وتوسعت في استعمال الرأي، مستندين في ذلك لفعل كبار الصحابة، ولذا كان فقه مدرسة الحديث واقعيا، فلم يفرضوا المسائل ويقدروا لها أحكامها، وفي مدرسة الرأي، كان الفقه واقعيا أول الأمر، ثم اتجه إلى الفرض والتقدير، لما وضعوا القواعد والضوابط و قاسوا عليها، فما وقع من الحوادث أعطوه حكمه وما لم يقع فرضوه وأعطوه من الأحكام ما يتفق مع هذه الضوابط والقواعد.

ولقد شاع في مناقشاتهم أن يقولوا في فروضهم: أرأيت لو كان كذا و كذا، حتى سماهم خصومهم بالأرأيتيين.

ظهور مدرسة الحديث في المدينة ومدرسة الرأي في العراق

قلنا إن الاجتهاد في عهد الخلفاء الراشدين كان يدور على البحث عن أحكام ما يعرض من المسائل في الكتاب، وفي السنة، ثم الرأي إن لم يوجد في المسألة نص من كتاب أو سنة، وفقهاء الصحابة كانوا فريقين: فريق يتوسع في الرأي، ويتعرف إلى العلل والمصالح فيبني عليها الحكم، كعمـر بـن الخطـاب وعبـد الله بن مسعـود رضي الله عنهمـا وفريق كان يتورع عن الرأي ويتهيب اللجوء إليه ويحبذ الوقف عند النصوص والتمسك بالآثار كالعباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وامتد هذا الاختلاف فيما بعد فكانت مدرسة الحديث في الحجاز ومدرسة الرأي في العراق وأسباب ظهور هذين المدرستين يعود إلى:

1: تأثر فقهاء المدرستين بطريقة شيوخهم

فقهاء المدينة تأثروا بالعباس وعبد الله بن عمر من الصحابة المقلين من الرأي أو الكارهين له، الواقفين عند النصوص والآثار لا يتجاوزونها.

أما فقهاء الكوفة فقد تأثروا بطريقة عبد الله بن مسعود، وهو من أكبر مؤيدي مذهب سيدنا عمر بن الخطاب، وكان بن مسعود ميالا للرأي لا يتهيب الأخذ به ولا يهاب حيث لا نص في المسالة.

2: كثرة الأحاديث والآثار في المدينة

فهي مهبط الوحي وموطن الصحابة، وهو ما يعلل قلة الحاجة إلى استعمال الرأي، بخلاف الكوفة حيث تقلل السنة والآثار وهو ما يجعل الحاجة إلى الرأي ملحة، إضافة إلى شيوع الوضع في الحديث في العراق عامة، لكثرة الطرق المختلفة، وهو ما يجعل التشدد في قبول الحديث لا يتم إلا بعد تمحيص دقيق وتشديد في شروط قبوله متنا وسندا، وهذا ما قلل وجود السنة الصحيحة وصعب قبول الأحاديث.

3: بساطة الحياة في الحجاز وقربها من البداوة

وهو ما يقلل الحوادث والنوازل وبطء حركة الحياة، وهذا ما يجعل واقعهم قريب الشبه بواقع الصحابة فلا تظهر الحاجة إلى الرأي إلا بقدر ضئيل، أما في الكوفة فالحياة بالغة التعقيد سريعة الحركة كون العراق تعاقبت عليها حضارات قديمة متنوعة خلفت عادات مختلفة وجماعات وفرق وتيارات سياسية وفكرية غير متجانسة بل متنافسة ومتصارعة فيما بينها وهو ما يجعل الحوادث كثيرة ومتنوعة مما يدفع الفقيه إلى كثرة استعمال الرأي والقول به.

هذا وقد آلت ريادة مدرسة الحديث رئاستها في هذا العصر، إلى الإمـام سعيد بن المسيب (في سنة 94 هـ) وهو أحد الفقهاء السبعة الذين نشروا الفقه في المدينة بعد تلقيه عن الصحابة.

وأما مدرسة الرأي في الكوفة فريادتها ورئاستها آلت إلى الإمام علقمة بن قيس النخعي أستاذ إبراهيم بن يزيد النخعي شيخ حماد بن سليمان (ت سنة 96 هـ) وهو شيخ أبو حنيفة النعمان.