أجرى موقع “الجماعة نت” حوارا مع الأستاذ والشاعر منير الركراكي، عضو مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان، تناول الجانب الأدبي من شخصية الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله.
وقد تطرق الحوار لدور الأدب في المشروع التغييري، والعناصر الأساسية لطرحه الأدبي، وأهم المدارس الأدبية التي تأثر بها، وحديث عن “شذرات” و”قطوف” و”المنظومة الوعظية”، وأسلوبه في الكتابة وامتلاك البيان الناصع والجمع بين عمق الفكرة ونصاعة البيان، وعاداته في الكتابة رحمه الله، والمراحل الأساسية لإنجاز مكتوباته… فإلى نص هذا الحوار الشائق:
كيف كان ينظر الإمام إلى دور الأدب في سياق مشروعه التغييري؟
في مستهل هذا الحوار حمدا لله على ما أعطى وحمدا لله على ما أخذ، وحمدا لله على كل حال، والصلاة والسلام على من كان مولده عتقا، وكانت سيرته صدقا، وكانت مماته فَرَقا، صلى الله عليه بنفسه وبملائكة قدسه، وبخلقه من جنه وإنسه.
أما بعد
فإن الإمام المرشد المجدد رحمه الله، لم يكن ينظر إلى الأدب بمعزل عن عبوديته لربه، ووظيفته الدعوية التربوية التغييرية العدلية الإحسانية، لأنه يرى أن الأديب قبل أن يكون شاعرا، أو قاصا، أو ناقدا، أو مؤرخا فهو إنسان أراده مولاه أن يكون عابدا له، عارفا به، يلتمس خلاصه الفردي، وداعيا إليه يساهم في خلاص الأمة الجماعي. والأدب عامة، والشعر بوجه خاص لا معنى له إن لم يكن لبنة في بناء تربوي مرصوص، وفنا من فنون الدعوة للعموم والخصوص.
تعتبر المنظومة الوعظية مرجعا تصوريا قيّما لأدب وفن ينتسبان إلى الإسلام انتسابا حقيقيا، ما هي في نظركم العناصر الأساسية لهذا التصور؟
المنظومة الوعظية حلقة من حلقات متصلة في سلسلة نظرية منهاجية كاملة متكاملة تطرح مشروعا فاعلا، ومؤثرا، ومغيرا. مشروعا جادا ومتجددا ومجددا مجديا وجيدا. والأدب والفن الإسلاميان وسيلتان لغايتين: إحسانية واستخلافية لا غاية في حد ذاتهما، وسيلة جميلة ما في ذلك من شك، جمال فكرة، وتعبير بصورة، وعاطفة وخيال…لكن هذا الجمال وجه واحد لعملة رسالة الفن والأدب، إن لم يعاضده وجه آخر يتمثل في جلال الغاية المرجوة وهي التقرب إلى الله، وإرادة وجهه وابتغاء رضاه، وجلال الأهداف المتوخاة وعلى رأسها الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله، والتذكير بالآخرة لم يبلغ الإبداع كماله ومداه لأن الأديب لا يكتب لنفسه وإن عبَّر عنها، بل يكتب ليكون فرطا رائدا منهضا، لا مجرد واصف أو بوق أو مقلد.
الجمال في الأدب والفن مساحيق تُجلي وجه الرسالة ولا تُخفيه، وموسيقى تُقدّم معاني الرسالة في أغلى الأواني التعبيرية وليست جعجعة بلا طحن، ولفظا بلا معنى، ونغما بلا مغزى ولا مرمى.
ولعله تصور وسطيٌّ، متوازن سوي، ينأى بالأدب والفن عن الإسفاف والاستخفاف بالمُتلقين، كما ينزهه عن الغموض والتعقيد والتقعُّر والاستعلاء على المتلقين تحت لافتة أحد الأدعياء القائلين: إذا فَهمْتَ شعري فَلستُ شاعرا)، أو تحت يافطة أحد المدعين العادين المعتدين: إذا فَهِمْت شعري فلستُ شاعرا).
هل نستطيع أن نعتبر أن المنظومة الوعظية هي نواة مشروع للأدب الإسلامي؟
المرشد الإمام رحمه الله، في كل ما كتبه -عدا المنهاج النبوي/ الكتاب- لا يعتبر نفسه في أي من مجالات المعرفة والإبداع متخصصا يُنظّرُ لمشروع بعينه، وهذا من تواضعه رحمه الله، بل من إنكاره ذاته من جهة، ومن جهة أخرى فهو في ما كتبه من مجالات ينظر لمشروع تربوي تغييري عام تام يسمو على النظرة التجزيئية التبسيطية الذرية للدين، ويكتفي في كل مجال على حدة بذكر الضوابط الشرعية، والحوافز الإيمانية، مع استحضار ما يمكن استحضاره، وما ينبغي استحضاره من المعلوم من كل مجال بالضرورة دون الدخول في التفاصيل التي هي من اشتغالات المتخصصين. لهذا فسؤالك نُسجَ بدقة متناهية، فالمنظومة الوعظية نواة مشروع للأدب الإسلامي، وليست مشروعا للأدب الإسلامي. وعلى من يهمهم الأمر أن يعملوا على استثمار النواة في استشراف أفق ذلك المشروع، مع اتخاذ مقدمة المنظومة منارات وصوى خارطة المشروع والتصميم الأساس والنبراس لبناء عُمرانه.
ما هي أهم المدارس الأدبية التي تأثر بها الإمام في كتاباته الشعرية وفي كتاباته النثرية معا؟
التأثر بالمدارس والنسج على منوالها لم يكن حرفة الإمام، ولا ديدن قلمه في ما أبدعه من نثره ونظمه، بل كان رحمه الله ينسج على غير منوال، ما بعث المقرئ أبا زيد حفظه الله، أن يقول: الأستاذ عبد السلام ياسين مدرسة نسيج وحدها بين المدارس الأسلوبية العالمية)، وما جعل الشاعر الراحل علي الريباوي رحمه الله أن يقول: ناذر جدا أن تجد شاعرا يجمع بين الرسالة الدعوية والصناعة الفنية، والأستاذ عبد السلام ياسين من هذا الناذر الذي جمع بينهما في نسيج ومزيج ولا أروع).
والشهادتان هما لعلمين بارزين كل في مجاله، رحم الله من مات، وحفظ الله من تبقى.
لكن المؤمن المحسن مبدع كالنحلة تلتمس الرحيق حيث يوجد الرحيق، وتُلقحُ ما تتناوله، وتُنتج من ذلك المتعدد الطيب الواحد، عسلا شافيا مختلفا ألوانه لذة للشاربين.
ولطالما أشاد الإمام رحمه الله بأساليب دعاة مبدعين، أدباء بارعين من أمثال مصطفى صادق الرافعي، وسيد قطب، ومحمد أحمد الراشد، وعبد الله الطنطاوي، وصالح العشماوي، وأحمد شوقي والكثير الكثير من المفكرين والمُبعدين المُحدَثين، ومن الأقدمين حدّث ولا حرج، فالمرشد الإمام رحمه الله كان قارئا متذوقا، ناقدا سابقا في المضمار، وكاتبا شاعرا متألقا، وفتى العدل والإحسان، وفارسهما المغوار الذي لا يشق له غبار.
من ديوان “شذرات” إلى أجزاء ديوان “قطوف” إلى “المنظومة الوعظية”، ما هو المشترك بينها وما عناصر الاختلاف؟
القاسم المشترك بين كل ما أبدعه الإمام من أشعار هو العروة الوثقى لا انفصام لها : حب الله ورسوله، والوعظ، والدعوة، والجهاد، والتذكير بالعدل والإحسان في العبادة والمعاملة والعمل، والتذكير بالآخرة وما يقرب إلى مقاماتها العلا من شُعب وقُرب.
لكن الاختلاف بين ما يمكن اعتباره دواوين شعرية أسوة في مجالها كاملٌ في أن “الشذرات” ثلاثيات مذيلة لأبواب من فصول الإحسان، تُلخّص ما كان بأروع حكمة وأسحر بيان وهما من الإتقان الذي أُمرنا به بمكان.
وأما القطوف فمقطوعات شعرية من سبعة أبيات -في الغالب- تُعالج قضايا عدلية إحسانية بنَفَس دعوي منهض، وطعم تربوي مُرغب ومُرهب، ونكهة أسلوبية جامعة بين شرف اللفظ ودقته، وشرف المعنى وقوته، وجمال الصور المشرقة، والألحان المموسقة المرنقة.
وأما المنظومة فمقدمتها نواة مشروع فني/أدبي/شعري تجديدي. وقصيدتها مطولة معلقة محبرة اختزل الإمام التعريف بها فأسماها منظومة من النظم، وهذا تواضع منه، وقرنها بالوعظ حيث يخجل الشعراء أن يسموا شعرهم وعظا، أو أن يُسميَ نقاد شعرهم ما نظموه وعظا، ويُشرفُ الإمامَ أن يتشبه بالقرآن الذي شُبّهَ بالشعر وهما، وبالسحر زعما وظلما، وأسماه من لا ينطق عن الهوى موعظة ناطقة، وقال في حقه من لقبوه بعميد الأدب العربي: ليس شعرا ولا نثرا، بل هو كلام الله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى).
شرف أن يكون شعرك وعظا نُسبَ إليه ما نسب إلى القرآن الكريم، وأين كلام البشر من كلام رب العالمين، والتشبه بالرجال رَبَاح، فكيف إذا تشبَّهَ العبد في كلامه بكلام مولاه، فما شئت من نجاح وصلاح وفلاح.
يلاحظ القارئ لكتب الإمام أسلوبه الخاص في الكتابة، ما هي أهم خصائص هذا الأسلوب؟
أسلوب الإمام كما سبقت الإشارة مدرسة فريدة من نوعها، نسيج وحدها. مزيج هي بين نفحات من طيب كتاب الله المبين، وقبسات من نور حديث سيد المرسلين، ورشحات من مَعين حكمة السابقين الأوَّلين، وشذرات من بيان المبدعين المحسنين.
وإنه من الإجحاف بمكان أن نقول أن أسلوب المرشد الإمام رحمه الله نسخة طبق الأصل مصورة ومصادق عليها من كتابة فلان، أو علان من أهل الفن والصنعة وسحرة البيان، بل إنني أجد أصدق وصف وسمة نسم بها أسلوب الرجل أنه مرآة تعكسُ ذاته كما يقول الإنجليز: الأسلوب هو الرجل). أسلوبه هو ذاته في نظافته ونضارته، هو هو في عمقه ودقته، هو هو في سَعته وقوته، هو هو في يقظته وفطنته، هو هو في رحمته وحكمته، هو هو في جلاله وهيبته، هو هو في خُلُقه وذوقه، هو هو في سلاسته وطلاقته، هو هو في حلاوته وطراوته، هو هو في نباهته ونزاهته، هو هو في طيبته وخيريته، هو هو في شرفه وسمو فكرته، هو هو في شفافيته ورقة حاشيته، هو هو في رقة جسده وعظَم رسالته، أكثرت عليكم، وأقللت من شأنه مهما تكلمت في أسلوبه وشخصيته، فإن أردتم جامعا من القول، مختزلا من الوصف قلت هو أسلوب من نضر الله وجهه أن أوجز في كلامه واقتصر على حاجته.
فما هي نصائحه رحمه الله من أجل امتلاك البيان الناصع؟
نصائح المرشد الإمام رحمه الله من أجل امتلاك زمام البيان أنْ تحفظَ القرآن، وتسمع القرآن، وتتلو القرآن، وتتعلم القرآن وتُعلمه، وتزكي به نفسك، وتُرهفَ به حسك، وتقتبس من نوره ما يضئ لكلامك الطريق في ظلمة القلوب، ومن رحمته ما يُلين لك قسوتها، ومن دوائه ما يشفي أدواءها، ومن هُداه ما يخرجها من ضلالها، ومن فرقانه ما يُلهمها موازين رشدها، ومعاييرَ تمييز الحق من الباطل، والمعروف من المنكر، والخير من الشر.
ومع القرآن لابد من ورد من الصحاح يُصحح لك عُجمةَ الجَنان، قبل ومع تصحيح عُجمة اللسان، ومن كلام أهل الله، العارفين به ما يُسلس لك قياد الحكمة، ومن كلام أهل الفن والصناعة والبيان والبديع والمعاني ما يُمكنُك من أواني الأوان، ويُحين لك حسن الكلام في ما يُلائم ذوق الوقت بلا إسفاف ولا ابتذال، وما لا يكون رهينةَ الماضي، وصدى الماضين، دون أن يَفقدَ الكلام أصالته، أو يُضيِّع في مهامه الخيال، ومتاهات سحر الجمال رسالته.
البيان سحر حلال إن كان غير مَهِين بل عن البلاغ الأمين يُفصحُ ويُبين، وإلا فهو مجرد طلاء، وزبد يذهبُ جفاء، وأين ما ينفعُ الناس إن لم يكن وراء جمال الخلقة والصورة لحمٌ ودمٌ من حلال، وعقل ينشد الكمال، وقلبٌ معلق بما عند ذي الجلال، بل بحب ذي الجلال.
نصحنا الإمام رحمه الله بعد القرآن والحديث، وكلام أهل الله، وكلام أهل الفن والصناعة بأن لا نقلد، بل نستفيد ونُجدد، ونكون مثل خلق الله المبدع الذي يأكل من متعدد، ويُخرج الواحد المختلف المتفرد.
كيف استطاع الإمام الجمع في كتاباته بين عمق الفكرة وأصالتها ونصاعة البيان وسداده؟
يا أخي قل كلٌ من عند الله، هو من يُلهمُ عباده المتقين الفكرة الأصيلة النبيلة التي تتخذُ من آيات الله القرآنية، وآياته الآفاقية والأنفسية خير مَعين، وتستلهمُ من آيات الجمال أفضل مُعين. جمال الكون وجلاله من الخالق المصور كمالٌ ما بعده من كمال، عملَ الإمام على محاكاته إحسانا في العبادات، والمعاملات، والأعمال، قبل أن يُحَاكيَهُ في ما يَندُّ عنه من أقوال يجريها الله حكمة من الجَنان على اللسان في أجمل بيان.
للإمام عشرات الكتب والمؤلفات والرسائل. ما كانت عاداته في الكتابة رحمه الله؟ وما المراحل الأساسية لإنجاز مكتوباته؟
كُتب المرشد ورسائله غيض من فيض ما أنعم الله عليه به من صنائع هي الرجال الذين ربَّى وزكَّى، والأعمال التي قام بها، ما ظهر منها وما خفي، ومُؤَلّفات ألف بها أرواحا، ووحد قلوبا، ورسائل مكتوب بعضُها، ومشافهٌ أكثرها، ومُمَررّ عبر قنوات عَصيَّة على كل مداد، أبية على كل قلم مما يُحَسُّ ولا يُلمَس، ويكتب في جذر قلوب الرجال لا في أوراق، ولا عبر آلات. لم يكن للرجل عادات في ما كتب، بل كان يعبد الله في كل ما سطرت يمينه، وهو القائل: كتبت ما سطرت من دواة قلبي وروحي، وبمداد همي ودمي).
ما كتبه الرجل جزء من ذاته، وعُصارة من تجربته، وترجمان عن همته، وإفصاحٌ عن مكنوناته. لهذا قال كتيباتي وليداتي غير واحد منكم يْشَدْ كتاب ويقراه وأنا معاه).
إنها كتابات ذاكرة مذكرة من ذاكر مذكر، قائمة شاهدة من قائم شاهد.
مراحلها إلهام نابعٌ من قلب خاشع ، نجمَ عنه علمٌ لدنيٌ نافع، نتج عنه فهم رباني لامع، تمخَّضَ عنه همٌّ جامع، تولد عنه إبداع مُقنع ماتع.
لكن هذه المراحل قد تسبقها خبرات وتجارب ومراتع، وفد تستفزها، أو يستنفرُها وقائع أو دوافع أو نوازع، وقد يُصاحبها الاطلاع على مصادر ومراجع ليكون المكتوب أو المؤلفُ أو المرسل المصدق لما بين يديه من المكتوبات في الموضوع المُعالج، والمهيمن عليه بما يضيف إلى المنهجية العلمية الأكاديمية قراءةً واقعية غير سطحية، وعلما منهاجيا ربانيا نبويا، وعدليا إحسانيا، وتذكيرا بالله واليوم الآخر مسك الختام. إنها كتابات إمام مجدد رائد مُؤيد، لا كتابات بوق مُقلد، ولا مفكر منظر حلسَ أوراق ومداد، لا مُلْهَم رشاد وسداد.
رحم الله الإمام فقد أدَّبَهُ ربه فأحسن تأديبه اقتداءا بإسوته، فكان أدبه بالله لله في الله. نفعنا الله بذكره وعلمه وأدبه، وجزاه الله عنا خير الجزاء، وجعلنا على الأثر، وعلى عهد الوفاء، لا مُبدلين ولا مُغيرين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.