رحم الله الإمام المجدد عبد السلام ياسين كان قبل إحدى عشر سنة هنا، واليوم يقف عند مَن أحَبّ.
ذهب عند ربه ذاك القلب المشتعل، والروح المتوقّدة، والعابد المُحِبّ، والمجاهد الثابت، مُعلّم النّاس الخير؛ القدر الكريم الذي ساقته الألطاف الإلهية لهذه الأمة في هذا العصر.
رجل سيظل على ألسنة العباد ذكره، بعد أن ظنّ الظالمون أنهم أطفأوا نورًا أبى الله إلّا أن يتمّ ويظهر. جدد الإيمان في قلوب لا تعرف التثاؤب وأرواحٍ لا تُرهقها حياة فارغة.. فقد كان روحا فسيحة ورحمةً لا ممسك لها..
رحل وقد ترك فينا مشروعا تجديديا كبيرا يتجاوز القطرية والحاضرية. هذا المشروع نذر له عمرا طويلا، وبنى جزئياته على أرض الواقع لبنة لبنة، اجتهادا علميا وجهادا عمليا بثه في كتبه وفي قلوب تلامذته، فأسس منذ البداية جماعة العدل والإحسان التي تعتبر وعاء هذا المشروع ومشتله ووسيلة نشره رحمة ورفقا وحكمة وقوة.
لقد كانت مجالسته رحمة للقلوب، والحضور معه يعني أن تعيش مغمورا في بحر من السعادة والنور..
كان الإمام عبد السلام ياسين رجلا نحيلا وطويلا، خفيفا ورقيقا، يبتسم برقة وسهولة.. رقيق القلب حلو المعشر ﻻ يتعالى على مشاعره.. قالت عنه مرة زوجه لالة خديجة رحمهما الله: “كان سيدي عبد السلام إنسانا حنونا رحيما ودودا لطيف المعشر، يُذكّر دائما بالموت واليوم الآخر، كان يذكر الله تعالى في كل أوقاته، وكان يملأ أجواء البيت عبقا بروحانيته الفذة. كان لا يخاف في الله لومة لائم…”.
فقد كانت ابتسامته تدفئ كل من في البيت مثل شمس مشرقة.. وحين تجلس هي وأبناؤها إلى جانبه وهو غارق في جلسة ذكر تحمل سبحتها وتكرر وراءه الكلمة الطيبة، كانت تحس كأن رذاذا من النور ينهمر عليها ويغمرها. فقد كان زوجا دافئا وأبا محبا..
لقد تعود الناس أن يذكروا سير العظماء ويغفل معظمهم عن علاقتهم في أسرهم ومع زوجاتهم وأبنائهم ووالديهم، رغم أن هذه العلاقة هي الركن الذي يأوي إليه العظماء حين ينفض الناس ويختلون برب الناس.. ولنا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي فزع إلى حضن زوجه خديجة مأخوذًا ترعد فرائصه، ويرجف فؤاده، وقد امتقع لونه فما كان منها إلا أن ضمته إلى صدرها، ووضعت يدها على جبينه، وهي تهدئ من روعه حين أخْبَرَها الخَبَرَ: لقَدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي فقالَتْ خَدِيجَةُ: “كَلّا واللَّهِ ما يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوائِبِ الحَقِّ”.
وكما كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم رائعة في بشريتها، فياضة محبة وحسن معاشرة، فإن من تبعه بإحسان إلى يوم الدين حرصوا أن يستنوا بسنته فنهلوا من المنبع العظيم..
لذلك كانت علاقة الإمام بأسرته علاقة محبة وتقدير ورحمة.. يلاعب الصغير ويسائله عن لعبه، ويستقبل الكبير يوجهه ولا يلزمه. يحتضن الصغيرات ويقص لهن الحكايات، ويساعد الأطفال على إنجاز فروضهم المنزلية. يعدل في كل شيء بين أفراد اﻷسرة ويحسن أكثر إلى اﻹناث منهم.
اهتم بالمرأة والأسرة في مشروعه التجديدي، وقدم معالجة تنويرية شاملة شكلت ثورة عميقة في الفكر الإسلامي الحديث. ألف كتاب “تنوير المؤمنات” تنويرا لأفهام الرجال والنساء على حدٍّ سواء؛ طرح فيه قضية المرأة بشجاعة نادرة، تتحدى قرون الانحطاط، وأزمنة القهر والحيف والاستبداد.. تستقي من معين الرحمة المهداة نورانية تحرير المرأة في زمن النبوة..
قدم رؤية تجديدية لموقع المرأة تكريما ودورا ورسالة وتحريرا من قيود التاريخ ومن قيود الواقع الذي مسخ شخصيتها وشيأها وحولها إلى سلعة في سوق العرض والطلب.
احتفى بصدور الطبعة الأولى للكتاب وسط أسرته صبيحة عيد فطر؛ كان جوا استثنائيا، وكان حفلا استثنائيا. فكُلّ الذين غيّروا التاريخ كانوا بشرًا، كانت لهم أسرة تساندهم طوال رحلتهم على هذه الأرض..
يحكي صاحبه الأستاذ عبد الكريم العلمي عضو مجلس الإرشاد قائلا: “كان دائم الدعاء لأصحابه ولآبائهم وأزواجهم وذرياتهم… وكان رحمه الله دائم النصح وبلطف وانشراح نادرين؛ ليُقبل المؤمن والمؤمنة على ما ينفعهما عند الله بالجوارح والقلوب، بالعمل والمعاملة، ولعل من بين عناوين هذا الحرص وصيته الدائمة بالوالدين والأزواج والأبناء، وصلة الرحم وحسن الخلق مع القريب والبعيد، والحرص على ألا يحمل القلب غلا لأحد بل ينبض بالحب للجميع”.
رحم الله الإمام وآل بيته الصابرين، أولهم أمه لالة رقية بما صبرت وصابرت وربت يتيمها، وجزى الله خيرا زوجه لالة خديجة صاحبة القلب الكبير الذي كان مفتوحا كبيتها.. زيارات لا تنتهي لكل من علم بالإمام ياسين من شباب وكهول في كل الأوقات، تبتهج بكل طارق أو صاحب حاجة، فتمر الأيام والشهور ومعظم وقتها في المطبخ تهيء أو في السوق تتمون. كانت لا تشتكي بكلمة ولا بإشارة، بل تعمل وتعمل وتعمل بغير منّ أو حساب، تحب المؤمنين، تطعمهم وتسقيهم، وتعين على نوائب الحق..
وجزى الله أسرته الصغيرة والكبيرة بما آوت ونصرت وناصرت، فقد كانوا نعم الحُضن والحاضن، تَسكُن أرواحهم ولا يهدأ عملهم، هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّـهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّـهُ عَلِيمًا حَكِيمًا.