تعد شخصية الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله (1928- 2012) نموذجا جليا لعالم الشريعة الفاعل بحضوره ورمزيته في النسق السياسي المغربي المعاصر، نظرا لثراء وتنوع مساره العلمي، إذ تلقى تكوينا فقهيا تقليديا في معهد ابن يوسف في مراكش، ثم ولج التعليم النظامي الحديث الذي ختم به مسيرته كمفتش مركزي في المناهج البيداغوجية. هذا، بالإضافة إلى اطلاعه الجيد على الفكر الغربي ومدارسه الفلسفية الكبرى 1 ، بشكل قلما نجده لدى العلماء خريجي المعاهد الشرعية العتيقة، و لنهجه مسارا نضاليا معارضا للسلطة السياسية من خلال تأسيسه وقيادته لجماعة “العدل والإحسان” كمرشد روحي لها، ومنظر فكري مرجعي لأدبياتها إلى حين وفاته في 13 دجنبر من سنة 2012 .
وقد اشتهر المسار السياسي للإمام عبد السلام ياسين بتمثله الصادق لوظيفة العالم الناصح للملوك) 2 ، الشهيرة في التاريخ السياسي العربي والإسلامي، وتجلى ذلك في توجيهه لرسالة الإسلام أو الطوفان) سنة 1974 إلى الملك الراحل الحسن الثاني، وبعثه لمذكرة لمن يهمه الأمر سنة 2000 للملك محمد السادس 3 ، التي تعد أول فعل سياسي 4 ، قام به الأستاذ ياسين مع بداية الحديث الإعلامي الرسمي عن العهد الجديد في توصيف حكم الملك محمد السادس، بل إن المذكرة/النصيحة أسهمت بوضوح في تحديد الموقع السياسي لجماعة العدل والإحسان ضمن بنية “المعارضة” في المغرب باعتبارها معارضة موجهة “للحكم” وليست معارضة للحكومة 5 .
وقد قوبلت مذكرة المرشد الراحل لجماعة العدل والإحسان بمعارضة سياسية وفقهية تقليدية للمجالس العلمية وفروع رابطة علماء المغرب وغيرها من مؤسسات “الإسلام الرسمي”- تمتح كلها من معين الفقه السلطاني التقليدي المبرر للحكم الاستبدادي الفردي- وفي هذا السياق أصدر رئيس جمعية خريجي دار الحديث الحسنية وقتئذ محمد يسف، الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى حاليا رسالة “فقهية” وسياسية، تضمنت نقدا حادا للخطاب الديني والسياسي المصرف في المذكرة، بلغة افتقدت في بعض ثناياها للآداب الحوار والمناظرة، جاء فيها: […] وددنا ونحن نتابع السيد ياسين في مذكرته ذات الاثنتين وثلاثين صفحة، ألا تقع عيننا منها إلا على حكمة أو ما يشبه الحكمة، أو على نصيحة، أو ما يشبه النصيحة، أو حتى ما يدخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بشروطه وآدابه، ووفق المنهج القويم والشرط المستقيم، الذي درج السلف الصالح من رواد الإصلاح، والخلف من بعدهم على انتهاجه، ولكن، واأسفاه. لقد أصبنا بالإحباط، وبخيبة الأمل وفارقتنا ما كان يحدونا من رغبة صادقة في العثور على شيء نعهد به، كالإشارة للتواضع وحسن النية، وكمنطلق لفتح باب المصالحة مع النفس، ومع الآخر. فإذا بنا أمام تصلب وعناد وصلف وكبرياء) 6 .
ساهمت محددات التجربة الروحية السابقة للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في الزاوية البوتشيشية في عهد شيخها المربي الحاج العباس القادري رحمه الله، ثم تحريره لرسالتي “النصيحة” لملكي المغرب، وما عاناه طيلة حياته الدعوية والسياسية من حصار وقمع سياسي، وغزارة كتاباته الفكرية التي قاربت حوالي ثلاثين مؤلفا ونيف، والتي تضمنت مظاهر التمكن العميق من أسس العلم الشرعي والفكر الحديث، في تبوئه لمكانة دينية سامقة صارت تتجاوز اليوم حدود جماعة العدل والإحسان، حيث صار يعترف بها مناضلو كل المنظمات الإسلامية المغربية، وتؤثر على جمهور واسع من المتعاطفين، كما أن العاملين السياسيين المدنيين يقرون لياسين بزعامته في المجال الإسلامي 7 .
وبكلمة، يبقى الإمام الراحل عبد السلام ياسين رحمه الله بمساره التربوي المستند على محورية صحبة الأولياء رجال التربية، ولالتزامه النضالي المبدئي في معارضة الحكم الفردي وذهنية “دين الانقياد” نموذجا فريدا للعالم الحركي في المغرب المعاصر، الذي استطاع بسلوكه الدعوي والسياسي الإسهام بحظ وافر في إغناء الحياة الدينية والسياسية المغربية، من خلال مركزه المرجعي الروحي والفكري بجماعة العدل والإحسان 8 ، وتأثيره التربوي والفكري في شرائح واسعة من المجتمع المغربي، وهو ما كان له أثر ايجابي في التقليل من مخاطر مسلكيات الانغلاق والتطرف الديني الموسوم بـ”السلفية الجهادية” 9 ، في البيئة المغربية، وخاصة بين أبناء جماعة العدل والإحسان والمتعاطفين معها الذين استفادوا بحظ وافر من أخلاق اللاعنف، التي أثل لها الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله بحاله ومقاله طيلة حياته الدعوية والسياسية.
[2] للاطلاع بشكل أعمق حول التصور “الياسيني” لعلاقة العالم بالحاكم و لسلوكه السياسي “المثال” القائم على خيار النصيحة للملك، والتي تتأسس على مساري التعاون والطاعة في المعروف أو المعارضة على أساس ديني وشرعي، انظر الكتاب القيم للباحث المغربي يوسف بلال وبالأخص في الفصل الثالث منه:_Yousef Bilal ; Le Cheikh et le calife sociologie religieuse de l’islam politique au Maroc. Ens. édition coll. sociétés espaces temps. Lyon 2011.\
[3] تباين تعامل الملكين الحسن الثاني ومحمد السادس مع الإمام عبد السلام ياسين بين الحزم والمرونة والتجاهل، إذ سبق للراحل رحمه الله أن قضى ثلاث سنوات وستة أشهر من الاعتقال دون محاكمة على إثر كتابته لرسالة الإسلام أو الطوفان، الموجهة للملك الحسن الثاني سنة 1974، كما تم وضعه في الإقامة الجبرية منذ دجنبر سنة 1989 إلى سنة 2000. وبعد أشهر من تولي الملك محمد السادس الحكم، نابت عنه المؤسسة الرسمية للعلماء في مهاجمة الرجل واتهامه ب”المروق عن جماعة المسلمين بقيادة أمير المؤمنين” بعد صدور “مذكرة إلى من يهمه الأمر”.\
[4] كتبت هذه المذكرة باللغة الفرنسية ثم ترجمت الى اللغة العربية، وقد تضمنت مواقف معارضة لنمط الحكم واَلياته، ومنها البيعة والدستور الممنوح، كما حوت اقتراحات سياسية في مجالات الصحراء والمخدرات وتدبير الثروة الملكية.\
[5] محمد ضريف: الدين والسياسة في المغرب، من سؤال العلاقة الى سؤال الاستتباع، منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، التي في الجديدة، الدار البيضاء 2000، ص133.\
[6] تذكرة من جمعية العلماء خريجي دار الحديث الحسنية لصاحب مذكرة “إلى من يهمه الأمر” جريدة التجديد، عدد 63، 5 أبريل 2000.\
[7] محمد العيادي: عبد السلام ياسين أو وزن النماذج (الباريديغما) في مسار رجل الدين الجديد، مجلة نقد للدراسات والنقد الاجتماعي، الجزائر، العدد 11، ربيع 1998 ص64.\
[8] قبل أسبوعين من وفاة الشيخ عبد السلام ياسين، نظم المركز الدولي للأبحاث التربوية والعلمية بباريس، والمعهد الأوربي للعلوم الإسلامية ببروكسيل بتنسيق مع مركز وقف لدراسات العلوم الإسلامية باستنبول مؤتمرا أكاديميا دوليا حول فكر عبد السلام ياسين في اليوم الأول والثاني من دجنبر 2012 بمدينة استنبول التركية، وقد شكل هذا المؤتمر فرصة محورية لجماعة العدل والإحسان للانتقال بفكر مرشدها من طور القطرية الى فضاء التداول الدولي والعالمية.\
[9] Mohamed Tozy préface de livre. le Mouvement yasiniste de l’auteur Mohsine El Ahmadi.Impremeirie Fedala. El Mohamadia 1er edition 2006. p : 7\