كثيرا ما أتهيب الحديث عن الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، فالحديث عنه وعن أمثاله ليس بالأمر السهل، لأنه ببساطة عميقة رجل اسثتنائي في زمن اسثنائي. فالرجل كما عرفته وتتبعت سيرته ومسيرته تجمّع فيه ما تفرق في غيره. فشكل حالة فريدة في الزعامات الإسلامية والوطنية والإنسانية، فإن تحدثنا عنه من زاوية نجاحه الشخصي فهو المثل حيث بدأ موظفا بسيطا فتدرج في أسلاك الوظيفة العمومية حتى بلغ قمتها فصار مخططا تربويا يضع البرامج والمناهج في “الزمن الذهبي” للتعليم المغربي. بل كان ممثلا للمغرب في العديد من المنتديات التربوية الإقليمية والدولية فشرف المغرب خير تشريف.
وإن تحدثنا عن الرجل السياسي فهو ذرة سنام المعارضة السياسة الجذرية والرقم الصعب الذي يصعب تجاوزه، فقد عارض نظام الحسن الثاني زمن الرصاص ناصحا بموقف ناصع قوي بغير عنف. فالرجل جمع في مشروعه السياسي ما صار أحجية في التغيير الاجتماعي والسياسي وهو الجمع بين التغيير الجذري ونبذ العنف، أي الجمع بين القوة الأخلاقية السياسية والسلمية إلى الحد الذي وصفه العديد من الدارسين الغربيين بـ”غاندي المغرب”. ورسائله إلى ملوك المغرب من رسالة “الإسلام أو الطوفان” إلى “رسالة القرن.. الملكية في ميزان الاسلام” إلى “مذكرة لمن يهمه الأمر” سنة 2000 بداية حكم محمد السادس. رسائل كانت نقدا للوضع القائم وموقع النظام السياسي ونخبته، وهي نصيحة وقوة اقتراحية للخروج من أعراض “السكتة القلبية” للمغرب.
وإن تحدثنا عن الرجل من جانبه الدعوي التربوي فقد كان مثال الزاهد والعالم الرباني فلا يفتر عن الذكر والخلوة، وهو الذي فرضت عليه الإقامة الإجبارية في بيته عشر سنين قضاها صائما عابدا متعبدا متبتلا متأملا. اجتاز المحن كلها؛ محن السجن والإقامة الإجبارية والإيداع في مستشفى الأمراض الصدرية كسجن قسري. فكان مثالا للثبات عند الابتلاء فلم يعط الدنية في دينه ولا ساوم على ظهر الشعب ولا خنع ولا ركع ولا قبل “الأعتاب الشريفة”. فكان مجاهدا مجتهدا.
أما إن تناولنا سيرة الرجل الفكرية والعلمية فهو صاحب مشروع إسلامي وإنساني أصيل، تفاعل بكل ما أوتي من قدرات معرفية، فهو رجل العلم؛ وتتلمذ على أيدي أهله أمثال المختار السوسي رحمه الله، وهو الرجل الذي انفتح على علوم عصره وفلسفات الغرب والشرق بلغاتها الأصلية، وهو المتقن للعديد من اللغات الحية. فأورثه ذلك عمق النظر في العديد من إشكاليات هذا العصر، فخرج بـ“نظرات في الفقه والتاريخ” و“حوار الماضي والمستقبل” كاشفا أصول “القومية العلمانية”، ومحاورا الفضلاء في قضايا “الشورى والديمقراطية” وفي قضايا وطنية في “حوار مع صديق أمازيغي”، مناقشا الآخر في “الإسلام والحداثة” وفاتحا “حوارا مع النخبة المغربة”، عارضا عليها ميثاقا جامعا في “العدل”، متأملا في قضايا التزكية والسلوك لبلوغ “الإحسان” على ضوء “المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا”، تبيانا لموقع “الإسلام بين الدعوة والدولة” واستشرافا لـ“الإسلام غدا”.
الإمام عبد السلام ياسين وقد أفضى إلى ربه، هو ملك لكل المغاربة؛ فقد تختلف معه في أفكاره ومشروعه لكن من الصعب أن يختلف عليه منصفون على وطنيته وإنسانيته وأنه لم يبع ولم يشتر في قضايا وطنه ولم يهرب من أرض الوطن ليقصفه من منفى اللجوء السياسي. كان مجاهدا بنفسه ومجاهدا جهاد بناء وتعبئة وكلمة ومجتهدا في المعرفة والعلم. كان “ثوريا” في ثوب “صوفي رباني” بهامة وهمة “معارض سياسي” بأفق إنساني. لهذا فهو ليس وراءنا بل هو أمامنا لأنه إمام مجدد.