خصص الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله هذا المجلس المنعقد يوم الأحد 08 محرم 1425هـ/29 فبراير 2004م لمدارسة أبيات شعرية عبر ثلاثة مقتطفات شعرية، فذكر أهمية الشعر وما يعنيه للغة العربية، إذ هو ديوان العرب.
ومن خلال هذه الأبيات الشعرية ذكّر رحمه الله بلقاء الله تعالى واليوم الآخر، ودعا للاستعداد ليوم النبأ العظيم والاستكثار من أعمال الخير، عسى الله أن يتغمدنا جميعا برحمته ويجعلنا في عباده الصالحين.
في المقتطف الأول، يقول الشاعر مذكرا بالموت راجيا لطف مولاه:
أَزِفَ الرَّحِيلُ إِلى دِيارِ الآخِرَه
.فَاجعَل إلهي خيرَ عُمري آخِرَه
فَلَئِن رَحِمتَ فَأَنتَ أَكرَمُ رَاحِمٍ
.وَبِحارُ جُودِك يا إِلهي زاخِرَة
آنِس مَبيتي في القُبورِ وَوِحْدَتي
.وَارحَم عِظامي حينَ تُمسي ناخِرَه
فقال الإمام معلقا، إن الآخرة موعد قريب من كل قريب، والموت لا يختار الشيوخ ولا العجائز، بل للرضع والشباب والكهول معه موعد أيضا. والسعيد من ألهمه الله عز وجل الإكثار من ذكر الآخرة. والائتمار بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أكثِرُوا من ذِكر هادِمِ اللذَّاتِ”، حتى لا تستبد بنا الدنيا فتبتلعنا.
فإذا صرنا إلى القبر يقول الأمام؛ فهل هناك من يؤنسنا أم لا؟ قبل أن يجيب؛ “نعم يوجد وهو عملكَ وعملكِ، فإذا كان عملا صالحا فإنه يأتيك بسورة جميلة، بريح طيبة، بصورة مؤنسة، فيقول أنا عملك. وإذا كان عمله وعملها سيئا يأتي في صورة مفزعة قبيحة خبيثة، يقول من أنت أيها الوارد علي. يقول أنا عملك الذي كنت تعمل”.
واسترسل الإمام قائلا: “ويأتيه في القبر إذا كان بخيلا ولا يؤدي الزكاة، يأتيه شجاع أقرع. والشجاع الأقرع هو ما يكون من أعظم الحيات والأفاعي التي لا تشبه أفاعي الدنيا والعياذ بالله فيقول أنا مالك الذي لم تزكيني”.
ودعا الإمام رحمه الله من لم يزك أمواله إلى تزكيتها، وذكر بقول الله سبحانه وتعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون (التوبة: 34، 35).
وتساءل الإمام في المجلس حول ما إذا لم نكن نملك الذهب والفضة، ونملك النقود فقط كما قد يقول بعضهم. لأن القرآن خاطب من يملك الذهب والفضة؟ فأجاب رحمه الله قائلا: “هذا الفهم يفهمه المسَطَّحون المسطِّحون وبعض الناس لهم حظ قليل لا يكاد يذكر من الفهم ومن العلم فيفهمون هذا الفهم السطحي”.
وقال رحمه الله إن هذا الفهم يذكر بما ذكره أحد الصالحين في قصة واقعية لشخص ضرب أمه ضربا، فلما سئل عن فعله الآتم هذا قال إن الله نهانا أن نقول لوالدينا أف وأنا لم أقل أف، مصداقا لقوله تعالى إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا(سورة الإسراء: 23) فهذا الفهم السطحي شبيه بفهم أولئك الذين يملكون الأموال لكنهم لا يزكونها بذريعة أنهم لا يملكون الذهب والفضة.
وتحدث الإمام رحمه الله في هذا الشريط عن أهمية مدارسة الشعر، وذكر أن لمدارسة الشعر وفمهمه وحفظه فائدتين؛ أولهما أنه ديوان العرب ويحمل مفاتيح العربية، ومعرفة العربية تعين على فهم القرآن، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب الشعر ويحب أن يسمعه، وليس شاعرا، وكان يقول لأمنا عائشة رضي الله عنها أنشديني ويطلب ذلك أيضا إلى بعض الناس ويقول أسمعني، كما كان يقول لسيدنا عبد الله بن أوفى الذي كان يسافر معه؛ قل لي من شعر العرب فقال له مائة بيت.
أما الفائدة الثانية فقد خاطب بها الحاضرين موضحا أن كل واحد وواحدة منكم مدعو ومدعوون لكي تخطبوا في الناس، وإذا كنتم لما تستعدوا لذلك فاستعدوا له لمستقبل الأيام، والوعظ بالقرآن وبالحديث جميل وجيد ومطلوب، ولكن إذا لزم أحدكم من البداية إلى النهاية قال الله وقال الرسول فهو يحتاج في حديثه إلى التنفيس عن الناس ومن يستمعون له، ولذلك سيدنا عبد الله بن عباس كان يقول “أحمضوا”، أي أفيضوا فيما يؤنس من الحديث.
ووقف رحمه الله في المقتطف الثاني على أبيات يقول فيه شاعر آخر:
وإذا رُميتَ من الزمانِ بِشدةٍ
وَأَصابَكَ الأمـرُ الأشـقُّ الأصعـبُ
فَاضرَع لِرَبِّكَ إِنَّهُ أَدنى ِلمنْ
يَدعـوهُ مِـن حَبـلِ الوَريـدِ وَأَقـرَبُ
وفي تعليقه تساءل إذا ضاق علينا أمر من أمور الدنيا ماذا نفعل؟ هل نبكي ونحزن وننوح والنائحات في جهنم نعوذ بالله؟ ثم قال نعم نبكي قليلا إذا مات قريب من أقربائنا انسجاما مع الطبيعة البشرية لكن نرجع ونقول إنا لله وإنا إليه راجعون، فمن ماتوا ليسوا لنا بل هم لله وكلنا لله.
وأما معنى رميت بشدة من الزمان، أي أصابك ما يصيب من مصائب الدنيا. واضرع فعل أمر من فعل ضَرَعَ، وحبل الوريد هو الشريان الذي يضخ الدم من القلب.
وقال الشاعر في المقتطف الأخير الذي انتقاه الإمام:
اللهُ يدري كُلَّ ما تُضمِرُ
يَعلَمُ ما تُخفي وَما تُظهِرُ
وَإِن خَدَعتَ النَّاسَ لَم تَستَطِع
خِداعَ مَن يَطوي وَمَن يَنشُرُ
وهي أبيات من البحر المديد، وقال في شرحه لها من يطوي وينشر هو الله تعالى، أي يطوي الأيام وتذهب كأنها لم تكن، وينشر رحمته مصداقا لقوله تعالى: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء.