تتأسس الكرامة الإنسانية في المفهوم الإسلامي على عدة مبادئ جوهرية، نذكر منها:
الحرية
الحرية في الإسلام وصف فطريّ وخلق كريم ووصفة أساسية في الإنسان، وقد خلقه الله تعالى على هذه الصفة الكريمة تكريما له، وتهيئة له لحمل الأمانة الكبرى المتجلية في ثلاث غايات كبرى: أولها عبادته تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ 1، وثانيها الإعمار في الأرض هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا 2، وثالثها الاستخلاف وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً 3. وهذه “الحرية لا تعني أن يفعل الإنسان ما يشاء ويترك ما يريد، فذلك ما يتفق مع طبيعة شهوته، ولا يتفق مع طبائع الوجود كما رُكِّب عليه، ولكنها تعني أن يفعل الإنسان ما يعتقد أنه مكلف به، وما فيه الخير لصالح البشر أجمعين. وإيمان الإنسان بأنه مكلف هو أول خطوة في حريته” 4. ومن الأمثلة التطبيقية لمبدأ الحرية نذكر:
1. حرية الاعتقاد
فقد كفل الإسلام حرية الاعتقاد للإنسان، فللمرء أن يعتنق ما يشاء من العقائد والأديان، ولكن الله لم يتركه هباءً، بل منحه العقل ليفكر ويتدبّر ما في الكون وفي نفسه من آيات، وأرسل له الرسل لهدايته، وليعلم بعد ذلك أنه سيحاسب على كل ما فعل. فقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ 5.
2. حرية الاختيار
خلق الله سبحانه الإنسان حراً مختاراً لفعله، وهو مسؤول عنه، ولهذا تترتب الآثار الجزائية في الدنيا والآخرة على فعله لتمام مسؤوليته عنه، وحرية الإنسان في الاختيار ضرورة فطرية يشعر بها الإنسان ولا يستطيع إنكارها، ونفس تكليف الله له أمراً ونهياً يدل على أنه مختار، وإلا لم يبقَ للتكليف معنى لو كان مجبراً. فقال تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا 6.
3. حرية التفكير
حرية الفكر تعني: “أن يكون للإنسان الحق في أن يفكر تفكيرًا مستقلًّا في جميع ما يكتنفه من شؤون، وما يقع تحت إدراكه من ظواهر، وأن يأخذ بما يهديه إليه فهمه، ويعبِّر عنه بمختلف وسائل التعبير” 7. ومن هنا أتى الإسلام معلنا حرية التفكير، فدعا الإنسان إلى التأمل والتفكر، والنظر إلى ما وراء الأشياء وإلى غايتها لاستكشاف الحقائق. فقال تعالى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ 8.
المسؤولية
المسؤولية في الإسلام تعني تحمل الإنسان حصيلة التزاماته وقراراته واختياراته العملية من الناحيتين الإيجابية والسلبية. فهي بهذا المفهوم: صفة تلازم صاحبها في فترة ممتدة ذات طرفين: بداية ونهاية، فالمسؤولية تبدأ حين يطالب بأداء واجب وتنتهي بعد أن يقدم حسابه عما صنعه في سبيل ذلك، وبينهما برزخ هو العمل. ومن هنا، يمكن القول بأن المسؤولية قبل العمل تنظر إلى المستقبل فهي مسؤولية تكليف، والمسؤولية بعد العمل تلتفت إلى الماضي فهي مسؤولية محاسبة على ما فات. وهذا ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وعن علمه ما عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟” 9. ومن الأمثلة التطبيقية لمبدأ المسؤولية نذكر:
1. المسؤولية تجاه الله سبحانه
تقتضي هذه المسؤولية تمتين علاقة الإنسان بربه، وتقوية ملكة الإيمان لديه، والاستعانة به والاستسلام الكلي بين يديه. فوفق الرؤية الإسلامية، فإن الماهية الإنسانية تقوم على أساس اعتراف الإنسان المطلق بألوهية الخالق ووحدانيته. من هنا، حث الإسلام الإنسان وقبل كل شيء على إحياء تلك الفطرة المجبول عليها المغروسة في أعماق نفسه، فخاطبه بوصفه صاحب عقل لا صاحب إرادة فقط، لذا لا بد له أن يكون عابدا لله ومخلصا له سبحانه، يأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه. والإنسان حين يكون متصلا بالله تعالى، وملتزما بشريعته، فهو يتحرر من كل الضغوطات الداخلية والخارجية، ويصبح رأسماله الحقيقي هو كرامته الإنسانية.
2. المسؤولية تجاه الذات
تتمحور هذه المسؤولية حول تزكية النفس، وحملها على امتثال شرع الله عقيدة وعبادة وأخلاقا، فإن الشعور بهذه المسؤولية يكون باعثا لها على التخلق بالأخلاق الإسلامية والتأدب بآدابها الرفيعة، وهي تعني بذلك ما يسأل عنه الفرد ويحاسب عليه. كما أنها لا تعني انفراد الفرد بالمسؤولية عن نفسه دون غيره، فثمة صلة معتبرة في الشرع بين الفرد ومحيطه. ومن دلائل المسؤولية عن النفس: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ 10. ومن دلائل المسؤولية عن الغير: ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ 11. وعليه فالكرامة الإنسانية تنبع من إحساس المرء بالمسؤولية التي تترتب عليها تبعات، إن نهض بها صاحبها على النحو الذي يرضي الله أولا ثم يرضي ضميره، كان موفيا لها حقها من المراعاة والاعتبار.
3. المسؤولية تجاه المجتمع
تقتضي هذه المسؤولية التزام المرء بقوانين المجتمع ونظمه، والعمل على إصلاحه إذ لا يستقيم حال المجتمع إلا إذا قام الإنسان بتحمل مسؤولياته كاملة. “إن غاية الشريعة هي مصلحة الإنسان كخليفة في المجتمع الذي هو منه، وكمسؤول أمام الله الذي استخلفه على إقامة العدل والإنصاف، وضمان السعادة الفكرية والاجتماعية والطمأنينة النفسية لكل أفراد الأمة” 12. وهذا ما يشير إليه الحديث النبوي: “مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَة فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِن الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: “لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقاً وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا!”، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعاً” 13. هذا المَثَل الذي ضَربه المصطفى صلى الله عليه وسلم يبين عاقبة الإنسان إذا لم يأمر بالمعروف وكره ما صنع المفسدون، فالمعصية يعم شؤمها على الجميع، من تعاطاها ومن رضيها، وفي ذلك يقول الحقّ سبحانه: وَاتّقُوا فِتنَةً لا تُصِيبَنَّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً 14.
المساواة بين الناس
لقد وضع الإسلام المساواة كمبدأ عام بين الناس جميعا، وجعل روحه تسري كدعامة لجميع ما سنه وقضى به من نظم وأحكام تضبط علاقات الأفراد رجالا ونساء، وكان من تقديره لقيمة الإنسانية المشتركة بين الجميع تكريم الجنس البشري بنوعيه دون تمييز بين رجل وامرأة. وجاءت الشريعة الإسلامية منذ نزولها بنصوص صريحة تقرر مبدأ المساواة وتفرضه بصفة مطلقة، فلا قيود ولا استثناءات، وهذا هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس من آدم، وآدم من تراب” 15. ومن الأمثلة التطبيقية لمبدأ المساواة نذكر:
1. المساواة بين الرجل والمرأة
ساوت الشريعة الإسلامية بين الرجل والمرأة في قضايا كثيرة وميزت بينهما في قضايا أخرى قليلة، إذا ما قارناها بقضايا المساواة بينهما، فالشريعة الإسلامية تساوي بين الجنسين في الحقوق والواجبات والمزايا والعقوبات وأشياء أخرى كثيرة، لكن عظمتها تكمن في كونها لا تلغي الفروق الذهنية والنفسية والجسمية والتركيبية بين الجنسين. وتتجلى أهم مظاهر المساواة فيما يلي:
– الإقرار بوحدة الأصل في الخلق بين الذكر والأنثى، من حيث الانتماء إلى الطبيعة البشرية، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً 16.
– التكامل الفطري بين الرجل والمرأة من أجل القيام بوظيفتهما في الاستخلاف، فقال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 17.
2. المساواة بين كافة الناس
لا يخفى على أحد أن من بين الحقوق الأساسية التي شرعها الإسلام، وقررها للناس، وأوجب تطبيقها، والعمل بها، هو حق المساواة الذي يُعد في شريعة الإسلام أساساً لعلاقات الناس فيما بينهم، ومظهرا من مظاهر العدالة الاجتماعية، وركيزة لكرامة الشخص، واعتبار قيمته الإنسانية. فالناس جميعا منحدرون من أب واحد وأم واحدة، وأن تقسيمهم كذلك ليتعارفوا ويتمازجوا، وليتكاملوا لصالح الجماعة كلها والبشرية كلها. وقد عمل الرسول صلى الله عليه وسلم، بقوله وفعله طوال حياته، على تطبيق هذا المبدأ الإسلامي العظيم، باعتباره أصلا من أصول الإسلام، وأساسا من الأسس التي يقوم عليها مجتمع المسلمين. وقد أبى في خطبة الوداع إلا أن يؤكد ذلك، ويدعو الأمة إلى التمسك بهذا الحق واعتباره، فقال: “أيها الناس إن ربكم واحد، وإن آباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب” 18.
3. المساواة في الحقوق والمسؤولية والجزاء
تقوم هذه المساواة على أساس أن العدل الإسلامي له تطبيق واحد على جميع الناس، في جميع شؤون الحياة؛ حقوقا، ومسؤولية، وجزاء. ويؤكد هذا المعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله: “إنما أهلك الذين من قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وآيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها” 19. وهو ما ذهب إليه عمر بن الخطاب في رسالة القضاء إلى أبي موسى الأشعري قائلا: “آس بين الناس في وجهك ومجلسك، وعدلك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك”. كما يحرص على تأكيد ذلك في وصيته للخليفة من بعده بقوله: “اجعل الناس عندك سواء، لا تبال على من وجب الحق، ثم لا تأخذك في الله لومة لائم، وإياك والمحاباة فيما ولاك الله”.
[2] سورة هود، الآية 61.
[3] سورة البقرة، الآية 30.
[4] علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص 248.
[5] سورة الكافرون، الآية 1/6.
[6] سورة الكهف، الآية 29.
[7] علي عبد الواحد وافي، حقوق الإنسان في الإسلام؛ ص: 229.
[8] سورة يونس، الآية 101.
[9] صحيح الترمذي.
[10] سورة الطور، الآية 21.
[11] سورة النحل، الآية 125.
[12] علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص11.
[13] صحيح البخاري.
[14] سورة الأنفال، الآية 25.
[15] مسند الإمام أحمد.
[16] سورة النساء، الآية: 1.
[17] سورة التوبة، الآية 71.
[18] رواه الإمام أحمد.
[19] أخرجه البخاري.