الابتلاء في القرآن

Cover Image for الابتلاء في القرآن
نشر بتاريخ

قبل البدء.. سنة الابتلاء في القرآن الكريم

الابتلاء سنة رافقت الخلق من بدايته، فالله تعالى ابتلى الملائكة والشيطان بالسجود لآدم عليه السلام، فنجح الملائكة في الامتحان، وسجدوا، بينما امتنع الشيطان عن السجود تكبرا فعصى ربه، فخسر الرهان ورسب في الامتحان، ثم ابتلي آدم ومنع من شجرة واحدة وسط الجنة فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (طه، من الآية 115)، لكنه تاب بعد أن عصى، ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ (طه، من الآية 122).

وكذلك نحن في هذه الحياة خلقنا سبحانه ليبتلينا، قال تعالى في سورة الإنسان: إنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ (من الآية 2).

وقال أيضا سبحانه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (الملك، من الآية 2).

قال الإمام عبد السلام ياسين رحمة الله عليه: “مرور الفرد من هذه الدنيا له مغزى ومعنى هو الابتلاء بالشـر والخير، والعرض على مِحَكِّ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (الملك، 2). ودار الابتلاء هذه الدنيا قاعدتُها وشرطها التناقض والتدافع والسببية والمسؤولية. ثم الانتقال بالموت، وبعد الموت الدار الآخرة دار الجزاء” (1).

فحقيقة هذه الحياة هي كونها ابتلاء من الله عز وجل ليعلم الصادق من عباده من الكاذب، وليخبر القادر على تحمل مسؤولية الاستخلاف في الأرض من الدعي. قال الله تعالى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (العنكبوت، 2-3).

وهذا ما علمه الرسول صلوات الله وسلامه عليه أصحابه حينما جاءه بعضهم يطلبون النـصر ويـشكون إليه تعذيب قريش لهم، ففي الحديث الشريف: “شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا، فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديـد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يـسير الراكـب مـن صنعاء إلـى حـضرموت لا يخـاف إلا الله والـذئب علـى غنمـه ولكـنكم تـستعجلون” (2).

سنتعرف في هذا الموضوع على مفهوم الابتلاء من خلال آيات القرآن: معناه، مرادفاته في القرآن، أنواعه، على من يقع، الحكمة من وقوعه، وكيف ربى الله به عباده.

معنى الابتلاء

لغة: جاء في (لسان العرب): “بلا: بلوت الرجل بلوا وبلاء وابتليته اختبرته، وبلاه يبلوه بلوا إذا جربه واختبره” [مادة: بلا].

قال ابن منظور: «بلوت الرجل بلوًا وبلاءً، وابتليته: اختبرته، وبلاه يبلوه بلوًا، إذا جربه واختبره، وابتلاه الله: امتحنه… وبلي بالشيء بلاءً وابتلي، والبلاء يكون في الخير والشر، يقال: ابتليته بلاءً حسنًا وبلاءً سيئًا” (3).

الابتلاء في الاستعمال القرآني:

وردت مادة (بلو) في القرآن (36) مرة، يخص موضوع البحث منها (34) مرة بصيغ مختلفة، فجاءت:

– بصيغة الماضي: 7 مرات إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (القلم، 17).

– بصيغة المضارع:  20 مرة وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ (الأنعام، 65).

– بصيغة الأمر: مرة واحدة وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ (النساء، 6).

– اسم: مرتين إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (الصافات، 106).

– اسم فاعل: ست مرات إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (المومنون، 30).

كلمات مرادفة للابتلاء في القرآن

التمحيص: التمحيص تخليص الشيء مما يخالطه مما فيه عيب له فهو كالتزكية. جاء في التحرير والتنوير لابن عاشور في تفسير قوله تعالى: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (آل عمران، من الآية 154) “والقلوب هنا بمعنى العقائد، ومعنى تمحيص ما في قلوبهم؛ تطهيرها مما يخامرها من الريب حين سماع شبه المنافقين التي يبثونها بينهم .وأطلق “الصدور” على الضمائر لأن الصدر في كلام العرب يطلق على الإحساس الباطني، وفي الحديث “الإثم ما حاك في صدرك”. وأطلق القلب على الاعتقاد، لأن القلب في لسان العرب هو ما به يحصل التفكر والاعتقاد. وَعُدِّيَ إلى الصدور فعل الابتلاء لأنه اختبار الأخلاق والضمائر: ما فيها من خير وشر، وليتميز ما في النفس. وَعُدِّيَ إلى القلوب فعل التمحيص لأن الظنون والعقائد محتاجة إلى التمحيص لتكون مصدر كل خير”.

المحنة: جمعها محن، ومحنته وامتحنته خبرته واختبرته، منها قوله تعالى: أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى (الحجرات، من الآية 3)، معناه خلص االله قلوبهم وصفاها وهذبها. والمحن تأتي بمعنى الاختبار لتخليص قلوب المومنين وتصفيتها وتنقيتها من الشوائب حتى تصير نقية طاهرة.

الفتنة: يقول أهل اللغة: مادة (فَتَنَ) تدل على الابتلاء والاختبار، تقول: فتنت الذهب بالنار، إذا اختبرته وميزته. يقول الطبري في تفسيره لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ (البروج، من الآية 10): إن الذين ابتلوا المومنين والمومنات بالله بتعذيبهم وإحراقهم… زمنه أيضا قوله تعالى في سورة الزمر: فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ۚ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (الزمر، 49) جاء في تفسيرها: “بل ذلك فتنة يبتلي الله بها عباده، لينظر مَن يشكره ممن يكفره”.

البلاء: إنّ البلاء والابتلاء في اللغة يأتيان من جذر واحد، ومعناه الاختبار والتجربة، وقد فصّل الإمام البخاريّ ومن جاء بعده من العلماء كالإمام ابن حجر العسقلاني بين معنى ومفهوم الكلمتين، فقال ابن حجر بأنّ الابتلاء هو الاختبار، وهو من قولهم بلاه إذا استخرج ما عنده، وأمّا البلاء فيُقصد به الإنعام والامتحان معًا، فهو بذلك من ألفاظ الأضداد ويُقصَد به النقمة والنعمة في آنٍ معًا. وقد وردت في القرآن الكريم آيات تحمل المعاني السابقة لكلا الكلمتين، فجاء في سورة الأنفال لفظ البلاء بمعنى النعمة في قوله تعالى: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا (الأنفال، من الآية 17) وفي سورة البقرة يقول تعالى: وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (من الآية 6) ومعناه الاختبار أو النقمة، وكذلك في قوله تعالى في سورة محمّد: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (الآية 31).

يرى الإمام الطاهر بن عاشور أنّ البلاء هو الاختبار، لأنّه يوجب الضّجر والتعب، وشاع هذا اللقب -أي البلاء- عند الحديث على الاختبار بالشر، لأنّه أشدّ على النّفس، فإذا أرادوا الحديث على البلاء بالخير فإنّهم يحتاجون لإضافة قرينة توضّح الكلام، وأمّا الابتلاء فهو صيغة مبالغة من البلاء، وبالتالي هو أشدّ من البلاء.

الاختبار: الفرق بين الابتلاء والاختبار: الابتلاء لا يكون إلا بتحميل المكاره والمشاق. والاختبار يكون بذلك وبفعل المحبوب، ألا ترى أنه يقال: اختبره بالإنعام عليه، ولا يقال: ابتلاه بذلك. ولا: هو مبتلى بالنعمة.

ومن أفضل وأجمع ما قيل في ذلك، ما ذكره الراغب في (المفردات) فقال: يقال: بلى الثوب بلى وبلاء أي خلق .. وبلوته: اختبرته، كأني أخلقته من كثرة اختباري له.

أنواع الابتلاء

الابتلاء المنصوص عليه في القرآن الكريم أنواع متعددة نذكر منها:

1- الابتلاء بالتكاليف

يقول الشاطبي: “الابتلاء لازم للتكاليف كلها وللمكلفين أجمعين” (4).

قال الراغب في المفردات، وسمي التكليف بلاء من أوجه:

– أحدها: أن التكاليف كلها مشاق على الأبدان فصارت من هذا الوجه بلاء.

– والثاني: أنها اختبارات، ولهذا قال الله عز وجل: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (محمد، 31).

 ومن آيات الابتلاء بالتكليف قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (المائدة، 94).

ومنه أيضا: قوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ (المائدة، من الآية 48).

قال ابن كثير: “.. أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة، ليختبر عباده فيما شرع لهم، ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله”.

ومنها أيضا قوله تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (الصافات، 106)، قال ابن عاشور في تفسيره: “أي هذا التكليف الذي كلّفناك هو الاختبار البيّن، أي الظاهر دلالة على مرتبة عظيمة من امتثال أمر الله”.

2- الابتلاء بالبأساء والضراء

بيّن الله سبحانه سنته في الخلق والابتلاء، فقال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ۖ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولُ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (البقرة، 214).

قال المفسرون: همزة الاستفهام هنا تعني التقرير والإنكار: أي أحسبتم دخولكم الجنة واقعاً، ولم تمتحنوا بمثل ما امتحن به من كان قبلكم، فتصبروا كما صبروا؟! (5).

ومعنى الكلام: أم حسبتم أنكم أيها المؤمنون بالله ورسله تدخلون الجنة ولم يصبكم مثل ما أصاب من قبلكم من أتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والاختبار، فتبتلوا بما ابتلوا واختبروا به من البأساء: وهو شدة الحاجة والفاقة، والضراء: وهي العلل والأوصاب، ولم تزلزلوا زلزالهم، يعني: ولم يصبكم من أعدائكم من الخوف والرعب شدة وجهد (6):

وقد نصت الآيات الكريمة ووجهت المؤمنين إلى المجالات التي يقع فيها الابتلاء:

الابتلاء في المال والنفس والدين: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (آل عمران، 186).

وقال تعالى: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (الفجر، 16).

3- الابتلاء باليسر والسراء

إن الله سبحانه وتعالى يبتلي الإنسان بالسراء مثلما يبتليه بالضراء، قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلً﴾ (الكهف، 7) ذكر القرطبي في تفسير هذه الآية: “… وقالت فرقة أراد النعم والملابس والثمار والخضرة والماء ونحو هذا مما فيه زينة، فابتلى الله بها عباده لينظر أيهم أحسن عملا، أي من أزهد فيها وأترك لها.. وأحسن العمل أَخْذٌ بحقٍ، وإنفاقٌ في حقٍ مع الإيمان، وأداء الفرائض، واجتناب المحارم، والإكثار من المندوب إليه” (7) .

وكذلك قوله تعالى: فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (الفجر، 15) منكراً على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله تعالى عليه في الرزق ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له، وليس كذلك، بل هو ابتلاء وامتحان، كما قال تعالى: أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون (المؤمنون، 55-56)، فالإمداد بالمال والبنين لا يعني هنا دلالة خير وإكرام للإنسان، بل هو ابتلاء كما تقدم.

إن الابتلاء بالخير أشد وطأة، فكثيرون يصمدون أمام الابتلاء بالشر ولكن القلة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير .

كثيرون يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف، وقليلون هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة.

قال الإمام عبد السلام ياسين: “.. الابتلاء على نوعين: إكرامٌ وإهانة. فكل بلاء يقربك من المولى فهو في الاسم بلوى وفي الحقيقة زُلْفَى. وكل بلاء يبعدك عن المولى فهو في الحقيقة بلوى. ألا ترى أن الله تعالى ابتلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان عاقبة ابتلائه الخُلَّةَ والقُرْبَةَ، وابتلى إبليس وكان عاقبة ابتلائه اللعنة والفضيحة» (8).

وأحسن مثال يضرب هنا هو موقف سيدنا سليمان وموقف قارون.

قال سيدنا سليمان: قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (النمل، 40)، شكر سليمان نعمة ربه عليه فزاده من فضله ووهب له ملكا لا ينبغي لأحد من بعده.

مقابل موقف قارون وقوله حين نصحه قومه وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ.. (القصص، من الآية 77): قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (القصص، 78)، وجحد قارون نعمة ربه عليه ونسب العلم لنفسه وعتى وتكبر فخسف الله به وبداره الأرض.

على من يقع الابتلاء

باستقراء آي القرآن يظهر لنا جليا أن الابتلاء شامل لكل العباد، فقد أصاب الأنبياء والمرسلين كما أصاب المومنين والكافرين، وأصاب به الله الأمم قبل الإجابة وبعدها، وإنما الاختلاف بينهم في أثره عليهم ومقصد الله منه.

– ابتلاء الأنبياء: قص علينا القرآن الكريم العديد من قصص الأنبياء، التي توضح أنه ما من رسول ولا نبي إلا ابتلاه الله سبحانه وتعالى بصنوف من الابتلاءات، شأنه في ذلك شأن البشر أجمعين.

قال ابن القيم: “الطريق طريقٌ تعِب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، وأُضْجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضرَّ أيوب… وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم” (9).

وأما الحكمة في ابتلاء الأنبياء فقد قال فيه ابن القيم: “فإنه سبحانه كما يحمي الأنبياء ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم:

– ليستوجبوا كمال كرامته.

– وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضوا وتأسوا بهم.

– ولتمتلئ صاع الكفار فيستوجبون ما أعد لهم من النكال العاجل والعقوبة الآجلة فيمحقهم بسبب بغيهم وعداوتهم فيعجل تطهير الأرض منهم” (10).

– ابتلاء عامة الخلق: وهو ما يصيب الإنسان في نفسه أو فيمن حوله من أفراد أسرته من السّرّاء والضّرّاء، وإلى هذا النوع من الابتلاء أشارت الآية الكريمة إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعًا بَصِيرًا . إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (الإنسان، 2 – 3).

– ابتلاء الناس فيما بينهم: يبتلي اللّه الناس بعضهم ببعض، وذلك إما برفع بعضهم فوق بعض درجات مصداقا لقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ (الأنعام، 165) قال عبد السلام ياسين رحمه الله “الفتنة الابتلائية تتمثل في ابتلاء بعض الناس ببعض، وفي تمتيع الله عز وجل بعض الناس بزينة الحياة الدنيا، وفي قبضه سبحانه عن البعض وامتحانهم بالشدة، وفي عدوان الكافرين على المومنين، وفي نزغات الشيطان، وفي فتنة الحاكم المستكبر للناس، وفي إغراء الماكرين وتخويف المعتدين” (11).

هنا يشمل الابتلاء الصنفين جميعا: المفضّلون والمفضّل عليهم؛ فالأول ما لم يعتصم بالإيمان فيستسلم لغريزة الأنانية، وحب التكاثر والطمع، وينقاد للظلم والفساد وينسى حق اللّه في ماله فلا يعطف على الفقير أو المسكين، والثاني ما لم يتمسك بأهداب التقوى ويصبر على البلوى، فإنه قد يحتال لفقره بالكذب والنفاق و…

– ابتلاء المومنين: في القرآن آيات كثيرة تبين وقوع الابتلاء على المومنين:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ (المائدة، من الآية 94).

هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (الأحزاب، 11).

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُم (محمد، 31).

– ابتلاء الكافرين: قال تعالى: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا ۖ مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ ۖ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الأعراف، 168) قال الطبري: “وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون”، يقول: واختبرناهم بالرخاء في العيش .. والسعة في الرزق، وهي “الحسنات” التي ذكرها جل ثناؤه ويعني بـ”السيئات”، الشدة في العيش والشظف فيه والمصائب والرزايا في الأموال، “لعلهم يرجعون”، يقول: ليرجعوا إلى طاعة ربهم وينيبوا إليها، ويتوبوا من معاصيه.

ابتلاء المؤمن وابتلاء الكافر

ولابد هنا من وقفة صغيرة لنتبين الفرق بين ابتلاء المومن وابتلاء الكافر.

“يشير القرآن إشارة لطيفة إلى الفرق الهائل بين ابتلاء العصبة المؤمنة وابتلاء العصابة الكافرة: إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (النساء، 104)، فإن كان ألم المعركة الحسي والمعنوي للمؤمنين كذاك للكافرين فالمآل ليس كالمآل، فالمؤمنون يرجون ما عند الله تعالى من الخير والنعيم والرضا، لذا أمر نبينا صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه أن يرد على أبي سفيان صياحه عندما قال: “يوم بيوم بدر والحرب سجال”، أمرهم الحبيب أن يقولوا: “لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار”. فشتان شتان بين الفريقين في الحال والمآل .

ومما يزيد هذه الفكرة وضوحا حديث صح عن عائشة رضي الله عنها: أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرها أنه “عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحدٍ يقعُ الطاعونُ فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد” (12).

بل حسم الحبيب صلى الله عليه وسلم الأمر حسما حينما بيّن أن أحوال المؤمن كلها خير إذا ما التزم ما يريده الله تبارك وتعالى في تلك الأحوال من الهدي، فإذا كانت السراء كان الشكر، وإذا كانت الضراء كان الصبر، فكان معهما وفيهما الخير كل الخير للمؤمن في الدنيا والآخرة، وليست تلك المنة العظيمة من الله تعالى لأحد إلا لعباده المؤمنين الموحدين. قال صلى الله عليه وسلم: “عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له” (13).

وذلك أيضا من الوضوح بمكان في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: “مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع من حيث أتتها الريح كفأتها، فإذا اعتدلت تكفَّأُ بالبلاء، والفاجر كالأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء”، وهذا لفظ البخاري، وفي مسلم: “ومثل الكافر كمثل الأرزة”، قال ابن بطال رحمه الله “يعني من حيث جاء أمر الله انطاع له، ولان ورضيه، وإن جاءه مكروه رجا فيه الخير والأجر، فإذا سكن البلاء عنه اعتدل قائما بالشكر له على البلاء والاختبار، وعلى المعافاة من الأمر والاجتياز، ومنتظرًا لاختيار الله له ما شاء مما حكم له بخيره فى دنياه وكريم مجازاته في أخراه، والكافر كالأرزة صماء معتدلة لا يتفقده الله باختبار، بل يعافيه فى دنياه وييسر عليه فى أموره ليعسر عليه في معاده، حتى إذا أراد الله إهلاكه قصمه قصم الأرزة الصماء فيكون موته أشد عذابًا عليه وأكثر ألما في خروج نفسه من ألم النفس الملينة بالبلاء المأجور عليه” (14).

فوائد وحكم الابتلاء

لله تعالى في إنزال البلاء بعباده حِكَم عديدة، منها: الابتلاء لتمحيص المؤمنين ورفعِ درجاتهم، أو تكفير سيئاتهم، أو استعتاب العباد لعلّهم يرجعون، أو معاقبتهم وإهلاكهم بمعاصيهم، ولا يكون ذلك إلّا بعد إمهاله إيّاهم والحِلم عليهم، فإذا تمادَوا في غيّهم استدرجهم إلى العذاب من حيث لا يشعرون.

– إنزال البلاء لرفع درجات المؤمنين الصابرين الصادقين:

فمن ذلك ابتلاء الله تعالى عباده المؤمنين الصادقين بالجهاد في سبيله، وفيه صنوف من الأذى والابتلاء بالقول والفعل، وأذى في الأموال بنقصها وهلاكها، وفي الأنفس بالجراحات والأسقام والأوجاع والقتل، قال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (آل عمران، 186).

وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: “ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه” (15).

– تمييز الصفوف وبيان حقيقة الإيمان: خالف الله تعالى بين الشـرائع ليختبر المطيع من العاصي، قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ (المائدة، 48). إنّ الله تعالى لا يقبل من العباد أن يكون إيمانهم مجرّد دعوى فارغة من الدليل والبرهان، فلا بد لكلّ ادّعاء من بيّنة على صحته، قال تعالى: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (آل عمران، 154).

وقال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (آل عمران، 179).

والابتلاء هو الذي يميز الخبيث الذي يَكْفُر ويسخط ويقنط، من الطيّب الذي يؤمن ويرضى ويصبر. وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (محمد، 31)، فالمؤمنون الصادقون هم الذين يجتازون اختبارات الإيمان دون شكّ أو ارتياب، مع الثبات والمجاهدة.

ولنعرض هنا نموذجين من السيرة النبوية ابتلى الله سبحانه وتعالى فيهما المسلمين فلم يثبت إلا المومن الصادق حقا؛ حدث الإسراء والمعراج وحدث تحويل القبلة.

– حادثة الإسراء والمعراج: من طريق محمد بن كثير الصنعاني، عن معمر بن راشد، عن ابن شهاب الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: “لمّا أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتدّ ناسٌ ممن كانوا آمنوا به وصدّقوه…” الحديث؛ قال الحاكم: “هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه”.

– تحويل القبلة: أنزل الله سبحانه قوله وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ (البقرة، من الآية 143).

وقد استجاب غالبية المسلمين للأمر الرباني، ونجحوا في هذا الاختبار، “عن البراء رضي الله عنه أن رسول الله صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أو صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون، قال أشهد بالله لقد صليت مع النبي قِبل مكة، فداروا كما هم قِبل البيت…” (16). ومع ذلك فإن بعض المسلمين قد فشل في هذا الامتحان؛ جاء في تفسير البغوي إن القبلة لما حولت ارتد قوم من المسلمين إلى اليهودية، وقالوا: رجع محمد إلى دين آبائه (17).

إنذار شديد من الله سبحانه وتعالى لمـن أعـرض عن اتباع الحق من الكفرة، أو لمن عصى من المسلمين، فيبتليهم الله بصـنوف شـتى مـن العذاب، علهم يعودون عن غيهم، أو ينتبهون من غفلتهم، قال تعالى: وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الأعراف، 168).

كيف ندفع الابتلاء

– بالدعاء والتذلّل وإظهار الحاجة إلى الله: قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا (الأنعام: 42 – 43).

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تبين تذلل الأنبياء والرسل ليكشف الله عنهم ما مسهم من ابتلاء، منها دعاء يونس عليه السلام ودعاء أيوب وغيرهما من الأنبياء؛ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ (الأنبياء، 83 – 84).

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (الأنبياء، 87 – 88).

وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ (الأنبياء، 89 – 90).

– الاستغفار والتوبة والإنابة والرجوع إلى الله: وذلك أنه إذا كان نزول البلاء عقوبة لذنب ألمَّ به العباد، فلا شك أن الاستغفار والتوبة خير وسيلة لرفع تلك العقوبة والبلاء، قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (الأنفال، 33). ولنا في رسل الله الأسوة الحسنة قال تعالى: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ. فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ (ص، 24 – 25).

– بالصبر والثبات والرضا بالقضاء: قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (آل عمران، 142). إذا كان من أسباب نزول البلاء هو تمحيص المؤمنين واختبار إيمانهم وصبرهم وثباتهم فلا شكّ أن عباد الله إذا ما أذعنوا لله ورضوا بقضائه وصبروا على بلائه ولم يرتابوا في دينهم علم الله تعالى صدق إيمانهم، فكشف الله عنهم البلاء ورفع عنهم الوباء. وفي الحديث الذي أوردنا أعلاه عن عائشة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنها أخبرتنا: أنها سألت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرها نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان عذابًا يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمةً للمؤمنين، فليس من عبدٍ يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرًا، يعلمُ أنه لن يصيبه إلّا ما كَتب الله له، إلّا كان له مثلُ أجرِ الشهيد.

عن شداد بن أوس، “أنَّ اللهَ يقول إني إذا ابتليتُ عبدًا من عبادي مؤمنًا فحمدني على ما ابتليتُه فإنه يقومُ من مضجعِه ذلك كيوم ولدتْه أمُّه من الخطايا، ويقولُ الربُّ عزَّ وجلَّ للحفَظةِ أنا قَيَّدتُ عبدي هذا وابتليتُه ، فأَجْروا له كما كنتُم تجْرونَ له وهو صحيحٌ” (18).

– دفع البلاء: إذا كان الألم خارجاً عن ماهية التكاليف وليس ناتجاً عن القيام بها، فللمكلف دفعه، وهو غيـر متعبد به، وإنما هو من العنت الذي يبتدعه بعضهم، ولا أجر له عليه، بل عليه دفعه إن نـتج عنه ضرر. من ذلك دفع ألم الجوع والعطش في غير وقت الصيام، ووقاية نفسه مـن الحـر والقر، وما عليه من التداوي عند وقوع المرض، والتوقي من كل مؤذٍ، آدميـاً كـان أوغيره، وله أن يتحرز من الخطر المتوقع ويعد العدة له. ونجد الأمثلة التطبيقية من واقع الشريعة؛ فالرسول نهى عن الوصال في الصـوم، كما أمر من نذر أن يصوم ويقف في الحر أن يصوم ويستظل.

قال الإمام الغزالي: “كل بلاء يقدر الإنسان على دفعه فلا يؤمر بالصبر عليه، فلو ترك الإنسان الماء مع طـول العطش حتى عظم تألمه فلا يؤمر بالصبر عليه، بل يؤمر بإزالة الألم، وإنما الصبر على ألـم ليس إلى العبد إزالته” (19).

– عدم طلب البلاء: لأنه قد لا يطيقه، فيكون قد أوقع نفسه في حرج، قال الغزالي: فهل لنا أن نسـأل الله الـبلاء؟ أقول: لا وجه لذلك، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يستعيذ في دعائه من بـلاء الـدنيا. وكان رسول الله يأمر أصحابه أن يسألوا الله العافية، لأنه لم يؤت أحد بعد اليقـين أفضـل من العافية. قال مطرف بن عبد الله: لأن أعافى فأشكر، أحب إلي من أبتلى فأصبر.

– تقوى الله تعالى في جميع الأمور: قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (الطلاق، 2 – 3). وقال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (الطلاق، 4 – 5).

– الاجتهاد في العبادة: قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (الشرح، 5 – 8). فقد وعد الله تعالى باليُسر بعد العُسر، ولكنه جعل شرط ذلك نصب العبدِ وتعبه واجتهاده بالسجود بين يدي ربه متضرعًا متذللًا، قال ابن كثير رحمه الله: «أي: إذا فرغتَ من مهامِّك فانصَبْ في طاعته وعبادته، لتكون فارغ البال». وقد أكّد الله تعالى مجيء اليُسر بعد العُسر، وأتى باليُسر منكّرًا مكررًا مرّتين، والعسر معرفة، ومن ثم فالعسر واحد، واليسر متعدد. ولذا ورَد عن الحسَن قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يومًا مسرورًا فرحًا وهو يضحك، وهو يقول: لن يَغلِب عسرٌ يسرَيْن، لن يَغلِب عسرٌ يسرَيْن: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.

في الختام.. الابتلاء تربية للمومنين (20)

لما كان كتاب االله هادياً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ومربياً، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (الجمعة، 2) فإننا ننظر إلى الابتلاء الذي حدّثنا عنه القرآن الكريم على أنه مدرسة تربوية متكاملة قد احتوت كامل أبعاد مثلث عملية التربية: وقايةً وإعداداً – وبناء وتوجيهاً – ومحاسبةً وتقويماً.

الابتلاء للوقاية والإعداد

إن القيام بأي عملٍ، مهما كان نوعه، ومهما كان صغيراً، يحتاج إلى إعداد وتأهيل، فكيف بمن أراد له حمل أمانة الله في الأرض؟! فكان إعداد الله تعالى تربية بالابتلاء لرسله وأنبيائه والصالحين من بعدهم، ممن أوكل إليهم مهمة القيام بأمر دينه، ونشر دعوته.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي سئِل: “أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل” (21).

وسأل رجل الشافعي فقال: يا أبا عبد الله، أيهما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى؟ فقال الشافعي: لا يمكن حتى يبتلى؛ فإن الله ابتلى نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم (22). وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال: “وما باالله –حاشا الله– أن يعذب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة، ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة، فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق، وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام، وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله وثوابه على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء، والنفس تصهرها الشدائد، فتنفي عنها الخبث، وتستجيش كامن قواها المذخورة، فتستيقظ وتتجمع، وتطرقها بعنف وشدة، فيشتد عودها ويصلب ويصقل، وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات، فلا يبقى صامدا إلا أصلبها عوداَ وأقواها طبيعة، وأشدها اتصالاً بالله، وثقة فيما عنده من الحسنيين النصر أو الأجر، وهؤلاء هم الذين يسلمون الراية في النهاية مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار” (23).

وقد ذكر القرآن الكريم عدداً من تجارب الابتلاء والإعداد، فكان منها الناجح، ومنها من فشل في الاختبار، وسنكتفي بذكر نموذج لمن نجح في الابتلاء وآخر لمن فشل.

المثال الأول الذي نجح في الاختبار هو سيدنا إبراهيم؛ قال تعالى: وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (البقرة، 124).

وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فأتمهن هي: فراق قومه في الله حين أُمِر بمفارقتهم، ومحاجته نمرود في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر، الأمر الذي فيه خلافهم، وصبره على قذفهم إياه في النار ليحرقوه في الله، والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده حين أمره بالخروج عنهم، وما أمره به من الضيافة والصبر عليها، وما ابتلي به من ذبح ولده، فلما مضى على ذلك كله، وأخلصه البلاء، قال الله له: “أسلم، قال: أسلمت لرب العالمين”.

فلما أدى إبراهيم عليه السلام ما طُلب منه، ونجح في الامتحان، كانت له المكافأة بالإمامة، قال ابن كثير: جزاء على ما فعل؛ كما قام بالأوامر وترك الزواجر، جعله الله للناس قدوة، وإماماً يقتدى به ويحتذى حذوه (24).

المثال الثاني الذي فشل في الاختبار وهم قوم طالوت:

ليس كل من يدخل اختبار ينجح فيه! فقد أورد القرآن الكريم قصة قوم أراد الله لهم أن ينتصروا، فابتلاهم ليعدهم للنصر فما أفلحوا، قال تعالى: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (البقرة، 249).

يتجلى في هذه الآيات مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل (طالوت)؛ إنه مقْدِم على معركة؛ ومعه جيش من أمة مغلوبة، عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة. وهو يواجه جيش أمة غالبة، فلا بد إذن من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف به أمام القوة الظاهرة الغالبة، هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة. الإرادة التي تضبط الشهوات والنزوات، وتصمد للحرمان والمشاق، وتستعلي على الضرورات والحاجات، وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها، فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء، فلا بد للقائد المختار إذن أن يبلو إرادة جيشه، وصموده وصبره؛ صموده أولا للرغبات والشهوات، وصبره ثانيا على الحرمان والمتاعب.. واختار هذه التجربة وهم كما تقول الروايات عطاش؛ ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه، ويؤثر العافية، وصحت فراسته: “فشربوا منه إلا قليلا منهم”.

شربوا وارتووا، فقد كان أباح لهم أن يغترف منهم من يريد غرفة بيده، تبل الظمأ ولكنها لا تشي بالرغبة في التخلف! وانفصلوا عنه بمجرد استسلامهم ونكوصهم، انفصلوا عنه لأنهم لا يصلحون للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم، وكان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن الجيش الزاحف، لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة، والجيوش ليست بالعدد الضخم، ولكن بالقلب الصامد، والإرادة الجازمة، والإيمان الثابت المستقيم على الطريق. ودلت هذه التجربة على أن النية الكامنة وحدها لا تكفي، ولا بد من التجربة العملية، ومواجهة واقع الطريق إلى المعركة قبل الدخول فيها. ودلت كذلك على صلابة عود القائد المختار الذي لم يهزه تخلف الأكثرية من جنده عند التجربة الأولى.. بل مضى في طريقه. وهنا كانت التجربة قد غربلت جيش طالوت -إلى حد- ولكن التجارب لم تكن قد انتهت بعد (25).

الابتلاء للبناء والتوجيه

يقرر المولى عز وجل أن الأمة المسلمة ستبتلى بأنواع من الصعوبات: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (البقرة، 155).

وجاء في تفسير هذه الآية:

يقول سيد قطب: لا بد من تربية النفوس بالبلاء، ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد، وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات.. لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف، والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها، لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى، فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها، قبل أن تعز في نفوس الآخرين؛ وكلما تألموا في سبيلها، وكلما بذلوا من أجلها.. كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها، كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها.. إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم: لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيرا مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء، ولا صبروا عليه، وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها، مقدرين لها، مندفعين إليها.. وعندئذ يجيء نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجا… ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى، فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة، وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد. والقيم والموازين والتصورات ما كانت لِتَصِح وتَدِق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون، والران عن القلوب (26).

الابتلاء للمحاسبة والتقويم

من أبرز نماذج الابتلاء للمحاسبة والتقويم، ما حدث من توجيه قرآني عقب غزوة أحد، روى ابن هشام: “قال ابن إسحاق: كان يوم أحد يوم بلاء ومصيبة وتمحيص، اختبر االله به المؤمنين، ومحن به المنافقين، ممن كان يظهر الإيمان بلسانه وهو مستخف بالكفر في قلبه، ويوما أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته… فكان مما أنزل الله تبارك وتعالى في يوم أحد من القرآن ستون آية من آل عمران، فيها صفة ما كان في يومهم ذلك، ومعاتبة من عاتب منهم…” (27).

وفي هذه الآيات قام القرآن الكريم بـ(مراجعة شاملة) لهذه الغزوة، موضحاً مواقف كل الأطراف، ومبيناً أسباب النصر والهزيمة، ومواسياً للمؤمنين في مصابهم، ومستخلصاً العِبر للمؤمنين؛ لئلا يقعوا فيما وقعوا فيه. ومن هذه المشاهد بين القرآن الكريم للمؤمنين كيف انقلب نصرهم إلى هزيمة: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ ۚ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (آل عمران، 152).

يقول الواحدي في تفسيره: {ولقد صدقكم الله وعده} بالنصر والظفر، {إذ تحسونهم} تقتلون المشركين يوم أحد في أول الأمر، {بإذنه} بعلم الله وإرادته، {حتى إذا فشلتم} جبنتم عن عدوكم، {وتنازعتم} اختلفتم في الأمر؛ يعني: قول بعضهم: ما مقامنا وقد انهزم القوم الكافرون، وقول بعضهم: لا نجاوز أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الاختلاف كان بين الرماة الذين كانوا عند المركز، {وعصيتم} الرسول بترك المركز، {من بعد ما أراكم ما تحبون} من الظفر والنصر على أعدائكم، {منكم من يريد الدنيا} وهم الذين تركوا المركز، وأقبلوا إلى الذهب، {ومنكم من يريد الآخرة} أي: الذين ثبتوا في المركز، {ثم صرفكم} ردكم بالهزيمة، {عنهم} عن الكفار، {ليبتليكم} ليختبركم بما جعل عليكم من الدبرة؛ فيتبين الصابر من الجازع والمخلص من المنافق، {ولقد عفا عنكم} ذنبكم بعصيان النبي والهزيمة، {واالله ذو فضل على المؤمنين} بالمغفرة (28).

الخاتمة

– الابتلاءُ سنةٌ من سنن الله عز وجل، وقد ابتلي الأنبياء والمرسلون وصالحُ المؤمنين على مرِّ التاريخ.

– الابتلاءُ والمحنُ والشدائدُ قد توالت على الأمة الإسلامية منذ البعثة المحمدية، فحلقاتها متشابهةٌ تاريخياً، فالمحنة الحالية التي يعيشها المسلمين من هوان وضعف وتكالب الأمم عليهم ليست أول المحن، فإذا قلَّبنا صفحات التاريخ نجد أن الابتلاءَ والمحنَ والشدائدَ رافقت المسلمين في مواقف عديدة، ففي غزوة أُحد تألم الصحابة وامتحنوا فكان فيهم الشهيد وفيهم الجريح، واستشهد من خيارهم سبعون رجلاً، وكان منهم حمزة بن عبد المطلب عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي غزوة الأحزاب بلغت الشدةُ مبلغاً عظيماً وصفها الله تعالى بقوله: إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (الأحزاب، 9 – 11). ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرضت الأمةُ لفتنةٍ عظيمةٍ، إذ ارتدت معظم قبائل العرب، فتصدى أبو بكر والصحابة رضوان الله عليهم لهذه الفتنة حتى قمعها الله تعالى وعاد الناس إلى الحق، وثبَّت اللهُ أركانَ دولة الإسلام. ولما سقطت بغدادُ عاصمة الدولة العباسية في شهر صفر سنة 656 هـ على يد المغول وارتكبوا مجازرهم الشنيعة، ظن بعض الناس أن راية الإسلام قد سقطت، حتى إن بعض المؤرخين قد نعوا الإسلام، ولكن لم تمض سنتان اثنتان حتى كانت معركة عين جالوت التي وقعت في 25 رمضان سنة 658 هـ، فاندحر المغول وهُزموا شرَّ هزيمةٍ وأعز اللهُ الإسلامَ وأهلَه، ولما سقطت دولة الخلافة الإسلامية في بداية القرن العشرين على يد أتاتورك، وتمددت دول الاستعمار في بلاد الإسلام، ظن بعض العلمانيين وأفراخ المستشرقين أن الإسلام قد أصبح من الماضي ولا سبيل لعودته إلى الحياة، ولكن الله قيض للإسلام صحوةً كبرى في أنحاء العالم الإسلامي، أرجعت الإسلام إلى صدارة الأحداث.

– إن الخروج من هذه الذلة والمهانة لن يكون إلا بالرجوع إلى الله وترك ما نحن فيه من معاص وآثام، فما نحن فيه إنما هو بما كسبت أيدينا قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ” (الشورى، 30)، وقال عليه الصلاة والسلام: «يا معشر المهاجرين، خمس خصال أعوذ باللّه أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء فلولا البهائم لم يمطروا، ولا خفر قوم العهد إلا سلط اللّه عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل اللّه عز وجل في كتابه إلا جعل اللّه بأسهم بينهم» (29). والحمد لله رب العالمين.


(1) عبد السلام ياسين، العدل: الإسلاميون والحكم، ط 1 – 2000، مطبوعات الأفق – الدار البيضاء،  ص 262.

(2) رواه البخاري.

(3) لسان العرب، 14/ 83.

(4) الشاطبي، الموافقات، 2/125.

(5) الشوكاني، فتح القدير، 1/238.

(6) تفسير الطبري، 353/2.

(7) تفسير القرطبي: 10/307.

(8) عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 2، ط 1 – 2018، دار لبنان للطبع والنشر – بيروت، ص 255.

(9) ابن قيم الجوزية، الفوائد، ص 42.

(10) ابن قيم الجوزية، بدائع الفوائد 2/452.

(11) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ج 1، ط 1 – 1996، مطبوعات الأفق – الدار البيضاء، ص 149.

(12) البخاري، 5734.

(13) مسلم، 2999.

(14) ابن بطال، شرح صحيح البخاري، ج 9، ص 373.

(15) البخاري، 3477 – مسلم، 2573.

(16) البخاري، 4/1631.

(17) تفسير البغوي، 1/158.

(18) صحيح الترغيب، 3423.

(19) الغزالي، إحياء علوم الدين، 4/127.

(20) عن مقال التربية بالابتلاء، د.حمدي سلمان معمر، مجلة جامعة الأقصى، سلسلة العلوم الإنسانية، المجلد 13، العدد 2، ص 94-121 يونيو 2009.

(21) الترمذي، 4/601.

(22) ابن القيم، الفوائد، 1973، 208.

(23) سيد قطب، في ظلال القرآن، 6/388-383.

(24) تفسير ابن كثير، 1/227.

(25) سيد قطب، في ظلال القرآن، 1/393.

(26) نفسه، 1/203.

(27) ابن هشام، الروض الأنف في شرح السيرة النبوية، 4/57.

(28) تفسير الواحدي، 237/1.

(29) رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.