حفظت لنا مصادر السيرة النبوية تفاصيل الهجرة بجزئياتها الدقيقة، منذ أن أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة مع صاحبه أبي بكر إلى أن استقبله الأنصار واستقر في المدينة مع المهاجرين، فكانت بداية إنشاء الدولة الإسلامية على أسس متينة وراسخة، واستنبط العلماء عبرا وعظات من الحدث ووقفوا عند كل تفاصيله، وإن بدت بعض الجزئيات للقارئ أنها ليست ذات أهمية، ليستلهموا منها ما ينفع في بناء الفرد والأمة، لأن “ليس الغرض من دراسة السيرة النبوية وفقهها، مجرد الوقوف على الوقائع التاريخية، ولا سرد ما طرف أو جمل من القصص والأحداث… وإنما الغرض منها؛ أن يتصور المسلم الحقيقة الإسلامية في مجموعها متجسدة في حياته صلى الله عليه وسلم، بعد أن فهمها مبادئ وقواعد وأحكاما مجردة في الذهن” 1.
نقف في هذه المقالة عند موقفين من مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء هجرته نتنسم منهما الأمل واليقين بنصر الله؛ الأول يتعلق بموقفه مع أبي بكر وهما في الغار، والثاني يتعلق بسراقة وهما يكملان سيرهما نحو المدينة.
حاول كفار مكة إطفاء نور الله، واستعملوا من أجل ذلك جميع الوسائل فألحقوا شتى أنواع الأذى برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان آخر مكرهم للقضاء على بذرة الإيمان وقتل الدعوة وهي في مهدها، محاولة قتله صلى الله عليه وسلم وتفريق دمه بين القبائل، فخرج بأمر من الله هو وصاحبه على غفلة من قريش، سارا وهما لا يملكان من حطام الدنيا سوى ما يتزودان به في رحلتهما نحو المدينة، سارا وعيون قريش تترصدهما، فيشتد خوف أبي بكر؛ فيقول وهما متخفيان في الغار والباحثون عنه صلى الله عليه وسلم أسفل الغار: “يا رسول الله! لو أن أحدهم رفع قدمه، رآنا”. قال: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما»؟ 2، وفي ذلك يقول الله تعالى: إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ (الآية) [التوبة: 40]، وفي رواية: “أخاف أن تقتل فلا يعبد الله بعد اليوم”، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تحزن إن الله معنا” 3، هذا ما كان من أمره صلى الله عليه وسلم مع صاحبه في الغار.
“وبعد أن انقطع طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، خرجا من الغار مع دليلهما وأخذا طريق الساحل -ساحل البحر الأحمر- وقطعا مسافة بعيدة أدركهما من بعدها سراقة، فلما اقترب منهما، ساخت قوائم فرسه في الرمل فلم تقدر على السير، وحاول ثلاث مرات أن يحملها على السير جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، عندئذ أيقن أنه أمام رسول كريم، فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعده بشيء إن نصره، فوعده بسواري كسرى يلبسهما، ثم عاد سراقة إلى مكة فتظاهر بأنه لم يعثر على أحد” 4، وهذا ما كان من أمر سراقة.
يحمل الموقفان مجموعة من الإشراقات التي هي بمثابة نبراس في حياة المسلم وفي حياة الأمة، ومن أعظمها؛ الثبات واليقين في موعود الله.
وعد الله نبيه الكريم بالنصر والفتح المبين ولدينه بالتمكين، قال الله تعالى: وَلَقَدۡ سَبَقَتۡ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِنَّهُمۡ لَهُمُ ٱلۡمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ [الصافات]، فأيقن عليه الصلاة والسلام أن ربه ناصره وليس بخاذله، فعبر عن يقينه بجملة تختزل كل معاني التوكل واليقين الصادق بما عند الله؛ لا تحزن إن الله معنا، رغم أن كل المؤشرات المادية تُنْبئ بقرب الهلاك وبظفر العدو. وهذا الشعور اليقيني ما انفك عنه عليه الصلاة والسلام أبدا منذ بعثته، منذ أن سجل التاريخ قول الطاهرة خديجة أم المؤمنين “والله لا يخزيك الله أبدا”، حتى عندما رجع إلى مكة بعد أن أوذي في الطائف وكان من أشد الأيام عليه 5، يجيب زيد بن حارثة رضي الله عنه عندما سأله: “كيف تدخل عليهم وهم قد أخرجوك؟” فقال: «يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله مظهر دينه وناصر نبيه…» 6.
ذاق النبي صلى الله عليه وسلم حلاوة اليقين وحققه في أسمى تجلياته، وعلَّم الصِّدّيق والأمة من بعده في هذا الموقف درسا من أثمن دروس اليقين، فما أحوج الأمة اليوم، وقد كثرت عليها الخطوب وتوالت عليها ضربات الأعداء واشتدت أزماتها فسرى بين أفرادها اليأس والشعور بالانهزامية والنقص، إلى من يجدد ثقتها في ربها ويقوي يقينها بنصر الله وفق سننه التي لا تبديل لها، فتدِبّ الحياة في أوصالها وتستعيد عافيتها، “فمنزلة اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد” 7.
ويعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن اليقين يحمل صاحبه على الصبر، ولا يحمله على الاستعجال، وإن لم تَلُحْ في الأفق بوادر الفرج والنصر، وإن ضاقت به النوازل و”استحكمت حلقاتها” ، “فعن خباب بن الأرت – رضي الله عنه – قال: “شكونا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون» 8، “أي سيزول عذاب المشركين فاصبروا على أمر الدين كما صبر من سبقكم من المؤمنين على أشد من عذابكم لقوة اليقين” 9، فإذا امتزج الصبر باليقين كانت الإمامة كما قال الله تعالى: وَجَعَلۡنَا مِنۡهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا لَمَّا صَبَرُواْۖ وَكَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24].
ويقين الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن معزولا عن اتخاذ الأسباب، وكتب السيرة النبوية تحكي لنا تفاصيل الخطة التي سلكها صلى الله عليه وسلم ليهاجر إلى المدينة دون أن تنتبه قريش إلى خروجه، “فسنة الله أن ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة. إن آمنوا وعملوا الصالحات، لا إن أخلوا بالشرط الجهادي حالمين بالمدد الإلهي الخارق للعادة، وهو مدد لا يتنـزل على القاعدين بل يخص به الله من قام وشمر وتعب في بذل الجهد، وأعطى الأسباب حقها، وأعد القوة وبذل المال والنفس وحزب جند الله وجيشهم وسلحهم وتربص بالعدو وخادعه وماكره وغالبه” 10.
وحادثة سراقة، تعلمنا أن نحمل البشرى لهذه الأمة، وأن نحسن الظن بموعود الله واليقين بنصره وتمكينه مهما اشتدت الخطوب ومهما تقلب العدو في البلاد، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو مطارد، ودولة الفرس آنذاك من أقوى الدول، يبشر بذلك “اليوم البعيد الذي يطأ فيه أتباعه تاج كسرى وعرش قيصر، ويفتحون خزائن الأرض، فتنبأ في هذا الظلام الحالك بهذا النور الباهر، وقال لسراقة: “كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟” … وكان كذلك، فلما أتي عمر -رضي الله عنه- بسواري كسرى ومنطقته وتاجه، دعا سراقة بن مالك فألبسه إياها” 11.
كثيرة هي الأحاديث التي تبشرنا بأن النصر لهذه الأمة، ومن ذلك ما رواه جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا ترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل به الكفر” 12.
“ولا تقعدنا البشارة والثقة بما أوحى الله إلى رسوله عن اتخاذ الأسباب لنخرج بالأمة من الغثائية الموروثة” 13، لأن التعرض لنصره رهين بالأخذ بالشرط الإلهي: “قبول إيماني واحترام عملي… القبول الإيماني يصل دنيانا بآخرتنا ويربط مصيرنا في الآخرة بأعمالنا هنا. والاحترام العملي يثبت أقدامنا على الأرض، ويضع في أيدينا وسائل القوة التي أمِرْنا بإعدادها، ويعطينا مواصفات المؤمنين المجاهدين الذين يستخلفهم الله في الأرض ويمكنهم فيها رغم قوة من يريد أن يستَفزهم ويخرجهم منها” 14.
إن هذه الأمة منصورة بإذن ربها، ولن يتم لها ذلك حتى نغير ما بأنفسنا؛ فالانتصار على الأعداء يبدأ بالانتصار على النفس، بحملها على طاعة الله ورسوله، يقول سبحانه وتعالى: إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ (الآية) [الرعد: 11]، وموكول إليها القيام بمهمة الاستخلاف وحمل رسالة السلام للعالمين وإنقاذ الإنسانية من دركات الشقاء وظلمات الكفر التي تتخبط فيها، وما تعيشه الأمة من تردٍّ وضعف إنما هو سنه الله في الكون ومداولة الأيام بين الناس، وذلك بتعاقب النصر والهزيمة ليمحص عباده ويميز الخبيث من الطيب؛ يقول الله تعالى: إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمۡحَقَ ٱلۡكَٰفِرِينَ [آل عمران].
إذن، تعلمنا الهجرة أن نصل حبل اليقين بالله عز وجل وأن نعمل لديننا ونأخذ بالأسباب ونصْدُق في التماسها، وأن نستحضر سنن الله في كونه وأن نعود للتاريخ نقرأه لكي نربطه ونربط “الواقع الحاضر بالمستقبل المنشود بتعاليم القرآن، بمطلق يعطي معنى واتجاها وترابطا نسبيا لفكرنا وأعمالنا” 15، وألا تأسرنا ظلمة الحاضر فتحول دون التطلع لمستقبل مشرق للأمة، وألا نسمع للمرجفين المشككين في نصر الله، والمساهمين في إحباط الأمة وتخاذلها. وتعلمنا الهجرة ألا نستعجل الثمار فقد نجنيها نحن وقد يجنيها من يأتي بعدنا وحسبنا أن كان لنا يدا في هذا النصر الإلهي.
[2] أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب قوله تعالى: ثاني اثنين إذ هما في الغار، برقم: 3653، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، برقم: 2381.
[3] معاني القرآن وإعرابه، الزجاج، المحقق: عبد الجليل عبده شلبي، الناشر: عالم الكتب – بيروت، ط.1/ 1408ه-1988م، 2/ 488.
[4] السيرة النبوية -دروس وعبر، مصطفى السباعي، الناشر: المكتب الإسلامي، ط 3/ 1405ه-1985م، ص: 63.
[5] عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت للنبي – صلى الله عليه وسلم -: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحُدٍ؟ قال: «لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فرفعت رأسي، وإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل – عليه السلام – فناداني، فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الْأَخْشَبَيْنِ». [متفق عليه].
[6] سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد، وذكر فضائله وأعلام نبوته وأفعاله وأحواله في المبدأ والمعاد، محمد بن يوسف الصالحي الشامي، 2/ 444.
[7] بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، الفيروزآبادي، 5/ 395.
[8] أخرجه البخاري، كتاب: المناقب، باب: علاما النبوة في الإسلام، رقم: 3612.
[9] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، علي الهروي القاري، الناشر: دار الفكر، بيروت – لبنان، ط.1/ 1422ه-2002م، 9/ 3748.
[10] سنة الله، عبد السلام ياسين، ص: 9.
[11] السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي، الناشر: دار ابن كثير – دمشق، ط. 12/1425ه، ص: 244.
[12] رواه من حديث تميم الداري رضي الله عنه مرفوعا الإمام أحمد (4/ 103)، ورواه أيضا عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه مرفوعا (6/4) ولفظه: “لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل، إما يعزهم الله عز وجل فيجعلهم من أهلها، أو يذلهم فيدينون لها”، والحاكم (4/ 430-431) قال الحاكم: (صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)، ووافقه الذهبي، وهو على شرط مسلم وحده.
[13] سنة الله، ص: 320.
[14] سنة الله، ص: 312.
[15] سنة الله، ص: 312.