البغض في الله: صوت الحق وميزان القضايا

Cover Image for البغض في الله: صوت الحق وميزان القضايا
نشر بتاريخ

مقدمة

في زمن تداخلت فيه الشعارات، وتاهت الموازين بين ركام المصالح وتقلبات الأهواء، يصبح التمسك بضوابط الوحي فريضة قلبية لا غنى عنها.

في زمن تتلون فيه الولاءات كألوان الخريف، ويُخدش فيه وجه الحقيقة بأقلام المداهنين، نحتاج إلى ميزان رباني نزن به حبنا وبغضنا، قربنا وبعدنا.

ذلك الميزان، الذي يثبت القلب كما تثبت الجبال الراسيات، هو: الحب في الله والبغض في الله، أوثق عرى الإيمان، ومفتاح الثبات على طريق الحق.

روى أحمد عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ: أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ» 1.

وفي كتاب الله تعالى، رسم لنا هذا الأصل العظيم بقوله عز وجل: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22].

تأصيل البغض في الله

البغض في الله عبادة قلبية جليلة، لا يلوثها هوى، ولا تشوبها عصبية. هو ولاء للحق خالص، وبراءة من الباطل صادقة. قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، موضحًا سر هذا المسار الروحي في كتابه جماعة المسلمين ورابطتها: “إذا كنتُ أوفي بالوَلاية لله فإنني أحب ما يحبه الله، وأحب من يحبهم الله، وفي البغض كذلك. وقد ورد في القرآن الكريم أن الله يحب الأذلة على المؤمنين الأعزة على الكافرين المجاهدين في سبيل الله، ويحب التوابين والصابرين والمتوكلين، والذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص. وورد أنه عز وجل لا يحب الكافرين ولا الظالمين ولا المفسدين ولا المختالين المتكبرين الفخورين” 2.

هكذا، بتوجيه الوحي، تتجه بوصلة القلب: حبٌّ لمن أحبهم الله، وبغضٌ لمن أبغضهم الله. لا تشوبه حزازات نفسية، ولا تذكيه نار الحقد الجاهلي.

ضوابط البغض في الله

لكن البغض في الله، وإن كان جهادًا قلبيًا، فهو منضبط بشريعة العدل، لا ينفلت إلى جور ولا ظُلم. يقول الإمام عبد السلام ياسين: “البغض في الله هو غير الكراهية الجاهلية، فإننا نحب لكل من نبغضهم في الله أن يهديهم الله فيتوبوا” 3.

يبغض المؤمن الظلم والكفر والطغيان، لكنه يظل مشرق القلب بالدعاء بالهداية، موقنًا أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. وتبقى ضوابط الشرع حاكمة لهذا المسار؛ لا يُفسده تحزبٌ قبلي، ولا تحكمه موازين المصلحة العارضة.

ومن تجليات ذلك في الواقع، أن يبغض المؤمن نظامًا يظلم شعبًا، أو إعلاميًا يروّج للباطل، أو مطبعًا يمد يده لعدوٍ غاصب، لكنه لا يعتدي على أحدٍ بلسانه ولا بقلمه، ولا يشتغل بتشويه الأشخاص بل بتعرية المواقف. يرفض الظلم، ويعارضه، لكن قلبه لا يتمنى الهلاك لظالمٍ إن تاب، ولا يحجب رحمة الله عن أحد.

فالبغض في الله لا يُطلق يد الانتقام، بل يضبطها بشرع الرحمن. قال تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ [المجادلة: 22].

فما أعظم أن يكون القلب معلقًا بالميزان الرباني، لا تميله عاطفة القرابة، ولا يزحزحه هوى الصداقة، ولا تشتريه الدنيا الفانية بثمن بخس.

البغض في الله والقضية الفلسطينية

وإذا كان البغض في الله ميزان الإيمان، فإن فلسطين اليوم ميزان البغض الحق. ففي دموع غزة، وفي صمود القدس، وفي حصار المكلومين، يُختبر صدق القلوب، وتُمحص ولاءات النفوس.

أين البغض في الله حين تهدم البيوت على رؤوس ساكنيها؟

أين صوت الولاء للحق حين تُحاصر المساجد وتدنّس الساحات؟

كيف يرضى قلب مؤمن أن يوالي من ينتهك حرمات الله وحرمة مساجده، أو يمد يده لقاتل الأطفال والنساء والشيوخ؟

إن بغض الكيان الصهيوني المعتدي وبغض كل من سارع إلى التطبيع مع مغتصبي الأرض فريضة، ليست شعارًا سياسيًا، بل فريضة شرعية نابعة من نور الكتاب والسنة. قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51].

وإن القلب المؤمن، حين يبغض الظلم، يبغضه بميزان العدل: لا يظلم بريئًا، ولا يتجاوز حدود الله. لكنه لا يسكت عن الحق، ولا يصافح أيدي الغدر الملطخة بالدماء.

خاتمة

في زمان تميع فيه المواقف، وتُداس فيه القيم تحت أقدام المصالح، يبقى ميزان الحب في الله والبغض في الله هو سفينة النجاة. نحب المؤمنين المظلومين، ونناصرهم بكل ما أوتينا من قوة. ونبغض المعتدين والغاصبين والمطبعين، مع رجائنا أن يهدي الله الضالين.

قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، مصورًا صفاء قلب المؤمن: “فنود أن نؤكد أن قلوبنا لا يملأها بحمد الله إلا الصفاء والمحبة لأهل الإيمان إخواننا، مهما كانت الفوارق بيننا في الفكر والأسلوب، لا يملأها إلا البغض في الله الخالص لأهل الشقاق والإلحاد، والبغض في الله هو غير الكراهية الجاهلية، فإننا نحب لكل من نبغضهم في الله أن يهديهم الله فيتوبوا” 4.

ورغم كل هذا، فإن باب التوبة لا يُغلق، وقلوبنا لا توصد. فمن كان بالأمس في غفلة أو ممالأة، فإن الرجوع إلى الله ولاءً ونصرةً هو شرفٌ لا يفوت، وفضلٌ لا يُمنع. إننا لا نحكم على مصائر الناس، بل نقيم المواقف ونرد الباطل، مع رجائنا أن يهدي الله من ضل، ويجمع الكلمة على الحق.

وها هي فلسطين، اليوم، تختبر حرارة القلوب، وتكشف صدق الدعاوى: فمن لم يغضب لفلسطين، فمتى يغضب؟ ومن لم يبغض الظلم فيها، فمتى يبغض؟

فلنجدد ولاءنا لله، ولنرص صفوفنا على حب في الله لا تشوبه مصلحة، وبغض في الله لا تعكره الأهواء. وليبقَ شعارنا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]، ورايتنا: ولاء لله ورسوله وللمؤمنين، وعداوة للظالمين والغاصبين والمفرطين.

“وما بيننا وبين النصر إلا أن نؤمن بالله ونصلح العمل، ليفيَ الله بوعده فيمنّ على المستضعفين ويستخلفهم. ما بيننا وبين النصر إلا أن ننصر الله على أنفسنا وننصره على الناس، فنغضب لحُرَمه التي تهتك ولا نغضب حمية وتنافسا على الرئاسة، ونغضب أن يكون حزب الله مقهورا في دار الإسلام ويتحكم الطاغوت، ونتبع بعد ذلك شرع الله في إعداد القوة كما أمرنا حتى يُمسك الله بالزمان ويكون ولينا ووكيلنا. وإن موكبا تقوده يد الله القوية وتنصره لبالغ مداه” 5.


[1] أحمد بن حنبل، المسند، تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1421هـ/2001م، رقم الحديث 18524. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم 3030.
[2] عبد السلام ياسين، جماعة المسلمين ورابطتها، دار الباشورة، الطبعة الثالثة، 2015م، بيروت، ص 48.
[3] عبد السلام ياسين، مجلة الجماعة، منشورات الجماعة، العدد الأول، 1399هـ/1979م، ص 49.
[4] المصدر نفسه، ص 50.
[5] عبد السلام ياسين، الإسلام غدًا، دار إقدام للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة، 1444هـ/2023م، إسطنبول، ص 184.