ما عهد الناس في المصايف الدافئة إلا مواسم يستجيب فيها الخلق للنداءات الباطنة بالتعري وغشيان الشطوط والمسابح والميادين العامرة تَكشّفا وغفلة. ولئن أجمع الناس على ذلك فَهُم على إلْفِهم القديم الذي ما عهدوا غيره فيما انتهت إليه الغفلة القرونية المتجذرة. ذاك ما عمت به البلوى بين الناس حتى خلدوا إليها وأيسوا من مسارب الرحمة المنزلة.
هذا وإن من الرحمة ما يسع عموم الخلق، وإن منها لما يختص به المولى صفوة من خلقه كرما منه وفضلا، وإن منها لما يرفع عنك بلوى المصايف وتَكَشّفَها، فيأخذ بيدك ويحدوك بندائه الرحيم ليقذف بك في مصيف نبوي لا عهد للناس به ولا خبر. يكفي أن تكون حرفا من حروف الجماعة؛ حرفا ساكنا أو متحركا، حرف علة أو صحة، لا بأس عليك ما دمت منسلكا بصدق في زمرة “مَنْ صَحِبَ”. حسبك ذلك لتُفتح لك أبواب رباط الأربعين دون الخلق أجمعين.
على العتبات تعتريك رعشة الاصطفاء إلى مقام كنت تحسبه رفع عن عالم شهودك، حتى ما عادت تستوعبه إلا مطولات العاشقين من أهل العرفان وأرباب التجربة. وها أنت الآن تعالج دهشتك وترتب نوبات فرحك الزاحف نحوك على أبواب مقام التجريد وهو لك عين التجربة.
على العتبات المطهرة تبادرك فروض الأدب لهذا المقام وتدعوك كي تطرح عنك أصنام حسك وأرباب شهوتك، وتنسف بين يدي إخوتك دولة نفسك وتهدر شوكتها حتى يصح لك الانتساب لمقام الأربعين. إثر ذلك جِدَّ في تخففك حتى لا تكاد تستشعر لذاتك وزنا وسط من جمعك بهم مقام الاصطفاء على محك التجربة.
في ذَيَّاكَ المقام، لا حدّ لدهشتك وأنت ترقب العمر منك يخفف ركضته فيطول بك ليله ونهاره حتى لكأنه يستلذ جوارك وأنت تَسْتفُّ منه النفحات ذكرا وفكرا وتسبيحا وتحنثا. لا حدّ لدهشتك وأنت تتحسس خيوط السكينة وهي تنسج ثوبك من جديد، تعالج منك الفتوق الفادحة وتشد على ظهر سفينِكَ أشرعة التوبة السانحة رويدا رويدا حتى تستفيق على عطاءات الكريم عليك وقد فارقت لجج غفلتك وهَدهدَتْك كفوف الصالحين وهي تمضي بك على أثر الرائد المهدي قبلك ببركة من صحب.
وأنت في معترك التجربة لا تقوى على دفع ذاك الشعور الداهم بالضآلة والقصور. تلاقي وجهك القريب من العدم. تستفيق كل صباح على حقيقة أنك، دون الفضل من صاحب الفضل، هَمَلٌ متناه في خوائه إلا أن تتوسد الرضا تحت ميزاب القدر الحكيم. وما أن تبلغ منتهى غيابك حتى تستأنفك النشأة الأخرى على غير منوال ورودك. تلم شعثك من فوضى. تحاصر أحرف استعلائك حتى تستوي جملك على خط العبودية الصاغرة على باب الله. إذاك، وبعد أن تستوفي فصول التجربة عودا عودا، وتثمر فيك بركاتها تتهيأ كي تخرج لتستعيد جلوتك وتستأنف دعوتك وقد وافقت تمام البصيرة على هدى من صحب. تلكم بعض فصول التجربة، لمن شاء منكم أن يستقيم.