سيظن بعضكم أنني أتطرف بطُرفة مختلفة ولكن هذا ما حدث .. وأترك لكم مهمة تقديره وتفسيره ..
ولا ريب أن من دلالات هذه الواقعة فرحي الكبير بحياتي الجديدة، وتقديسي كل مُفرداتها .. ولئن تمثَّلت بدايتها في هذه اللفتة العزيزة، فإن مسيرتها ستنتظم من عظائم الأمور وجلائلها ما يجعلها حياة جديرة بأن تكون موضع حفاوتي .. ولقد أعطيتها من الحفاوة فعلا قدرَ ما أعطتني هي من غبطة الروح، وذكاء القلب وسعادة الأيام وسكينة الضمير ..
عشت في شوق حميم إلى الله، إلى طاعته .. إلى عبادته .. إلى نوره .. إلى محبته ..
وصارت الدنيا كلها في خاطري مجرد طيف باهت ..
أما الآخرة التي هي خير وأبقى فقد جذبتني إليها جذبا حانيا رفيقا شغوفا..
وفي وقت وجيز تعلمت لغتها، ومنحتني ثقتها، وصارت لي مبعث طمأنينة لا تنفذ ولا ينصل بهاؤها..
وأحسست بروح التصوف والصوفية تتقمَّصني وتتملَّكني.
كان شعوري بالآخرة عجيبا..
أهي صديق؟ بل أكثر من صديق .. أهي حبيب؟ .. بل أكثر وأبر من حبيب .. لقد قهر حُبُّها ميراث الطفولة، ومحا من الذاكرة -تماما- تلك المخاوف التي كانوا يملئون بها روعنا خوفا من الآخرة وجزعا وفزعا، بدءا من القبر حتى يوم البعث المشهود حتى جهنم ذات الأخاديد ..
أصبحت الآخرة عشقي وهواي ..
أتسألونني: كيف؟؟
أجيب: لا أدري ..
فعندي الهوى موصوفة لا صفاته
إذا سألوني: ما الهوى؟ قلت مليا
وجاء اليوم الذي تمضي فيه تجربتي مع التصوف في بعدها الجديد .. والذي من حقكم أن تنادوني اليوم قائلين:
مَشَّاء هذا العصر قِفْ
حدِّث عن العصر القديم
كان فضيلة الإمام الشيخ “أمين محمود خطاب السبكي” قد ورث أباه الإمام في رئاسة الجمعية الشرعية ورعاية أبنائها.
وكان كعادة أبيه يجلس كل يوم بعد العصر بجوار المسجد، ويحُفُّ به بعض تلاميذه ومُريديه، يسألونه ويستفتونه .. ويحادثهم ويحادثونه .. فإذا جاء ذكر والده الشيخ ولو مائة مرة بكى وبللت الدموع عينيه ..
وكان أخي “الشيخ حسين” رحمه الله تعالى يأخذني بين الحين والحين إلى هذا المجلس المبرور فنجلس مع الآخرين بين يدي الشيخ الإمام حتى يُؤذَّن للمغرب فنصليه مع الجماعة ثم نقفل راجعين..
وذات يوم غادرنا مجلس الشيخ مُبكرّين ولم نكد نبلغ باب الجمعية حتى جاء في أثرنا من يدعونا للقاء الشيخ من جديد.
عُدنا وجلسنا بين يديه واستهل حديثه لأخي قائلا:
يا حسين .. لمَّا أخوك بيعرف يخطب كويس ما قلتش لي ليه؟؟
ثم أمر من ينادي الشيخ “أحمد الفار” وكان موظَّفا بالجمعية .. ومن اختصاصه الإشراف على حركة اختيار خطباء الجمعية بمساجد الجمعية المنتشرة في كل مكان داخل القاهرة وخارجها ..
وحين جاء وبيمينه “دفتر” الخطباء قال له الشيخ: اكتب .. ثم التفت ناحية أخي وسأله: أخوك اسمه إيه؟؟ ثم استأنف حديثه مع الشيخ الفار: اكتب خالد مع خطباء الجمعة القادمة.
ولا أذكر هل تلقَّيت هذا الأمر بفرح أو بخيفة، أم بهما معا ..
على أية حال، لم يكن من الاستجابة بُد .. ولكن أنى للشيخ العلم بأنني أصلح للخطابة؟؟
لم يكد أخي وأنا نبلغ باب الجمعية حتى لحق بنا أحد الذين كانوا في مجلس الشيخ وصافحنا، ثم قال لي: مبروك هذا خير وأبقى من خُطب السياسة .. وعرفنا أنه الأستاذ “رستم” .. موظف بإحدى الوزارات .. وأنه كان قد استمع في الحفل الانتخابي الكبير الذي حدثتكم عنه من قبل، كان مقاما مكان نفق شبرا .. وعندما رآني مع أخي في حضرة الشيخ أخبره على أثر انصرافنا أنني خطيب بارع تستطيع الجمعية أن تنتفع به حين تضمني إلى وعاظها ..
وهكذا استدعانا فضيلة الشيخ، وأمر منظم حركة الخطباء والوعاظ أن يضيفني إليهم ..
وبهذا صرتُ واحدا من أبناء الجمعية ووعاظها..
ومن هنا، دخلت رحاب التصوف من باب وسيع ..
ذلك أن فضيلة الإمام الشيخ “محمود خطاب السبكي” الذي وُلد في يوليه عام 1858 وتوفي في يوليه عام 1933 كان متصوفا في مبتكر حياته ..
وفي أوائل العقد الثالث من عمره المبارك، جاء القاهرة من قريته “سُبك الأحد” منوفية، والتحق بالأزهر على كِبر .. وكان قد حفظ القرآن الكريم على كبر أيضا .. وثابر على الدراسة في الأزهر حتى حصل على شهادة العالمية، في 15 يناير 1896 وفور تخرجه عُيِّن أستاذا بالقسم العالي بالأزهر..
وفي 11 ديسمبر عام 1914 أنشأ الجمعية الشرعية التي ظل يرعاها ويُنفق عليها منذ نشأتها حتى لقي ربه راضيا مرضياً ..
هذا الإمام العظيم كان من الأولياء الكبار، والعارفين المبرورين .. وكان دوره الذي اختاره الله له إحياء السنة، وإماتة البدعة .. أي المضي قُدُما على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات والعادات ..
وكان قبل مجيئه الأزهر وطلبه العلم يشرف في بلده على أرض أبيه الزراعية .. بيد أنه في الوقت ذاته كان قريب الصلة بأهل الله، فأخذ العهد على بعض شيوخهم، وركب ثبج أشواقه العظيمة مبحرا إلى عالم الصالحين والعارفين ..
ولقد سار على الدرب حتى وصل. وغمرته بركات التصوف النقي الصدوق .. من أجل ذلك لم تزايله الأنوار، ولا غابت عنه الأسرار .. حتى بعد أن صار واحدا من كبار علماء الأزهر إذ ظلت روحانيته العالية تلف بضيائها وسناها كل من يتتلمذ عليه ويقترب منه ..
وهكذا صاحبنا ابن الثانية عشرة فبهره نوره .. وكان لا يمل النظر إلى وجهه إذ كان يرى في بهائه وجماله وجلاله وجه سيدنا الرسول عليه السلام..
وحتى اليوم وأنا في السبعين من عمري- كلما اشتقت إلى وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وشغفني الشوق إلى رؤيته، أتذكر وجه الإمام محمود خطاب السبكي وأتملاه وأطيل النظر إليه في تألقه وإشراقه وهيبته ووقاره .. فما أظن أن وجهه في هذا كله كان بعيدا من وجه الرسول عليه صلوات الله وسلامه ..
وعلى الذين قد يرون هذه المذكرات أو الذكريات ضحلة، لأنها لا تجمعهم بالكُبراء والزُّعماء والسَّاسة، ولا تحكي طَرفا ولا طُرفا من نوادرهم ..
عليهم أن يعلموا أن حظوظهم وافية حين تجمعهم هذه الصفحات بهذا الطراز الرفيع من الأقطاب أساتذة الروح، وأساة النفس، وهُداة الضمير ..
كنا أخي وأنا- نستحِثُّ خُطانا يوم الجمعة لنُدرك مكانا في الحشد الهائل الذي يكتظ به المسجد من العابدين والوافدين ..
وكان يخطب الجمعة فضيلة الشيخ “عبد الله العفيفي” فلا ندري أيهْدِر هدير البعير الأصهب، أم يهدل هديل الحمام؟؟ أم يجمع بين الإثنين في إلقاء ساحر، وأسلوب آسر، .. والشيخ الإمام العارف بالله جالس بجوار المنبر رافعا رأسه وشاخصا ببصره إلى وجه الخطيب، لا تغادره نظرة مهما استطالت الخطبة وامتد بها الحديث ..
فإذا قضيت الصلاة بقي الألوف من المصلين في سكونهم وخشوعهم يختمون الصلاة .. وما أ، يفرغوا حتى يولوا جِلستهم ووجوههم شطر “الكرسي” الذي يتوسط المسجد في انتظار الشيخ الإمام ليلقي درس الجمعة .. وبالبهاء الدنيا كلها الذي كأنه اجتمع ليكسو هذه الطلعة، وهذا الوجه، وهذا الجبين .. كان الحضور ينتشون عندما يرون الإمام متجها إلى مقعد الدرس ..
أما صاحبكم فدعوه يبحث عن الكلمات التي يصف بها غبطة الروح التي كانت تغمره حين يطالع الوجه الندي الممتلئ صِباحا وإصباحا .. شروقا وإشراقا، وحين كانت تنشره وتطويه صبابة الشوق، ورقته، وحرارته..
هنا عظمة التصوف يا صحاب .. إذ ترى قلب الأشياء في كل شيء تراه .. فما كانت ملامح وجه الشيخ على ملاحتها وجمالها المستفيض بآخذة القلوب والأبصار إليه .. إنما كان الروح الساري والنور المؤنِّق هذا الوجه، وهذه الشخصية ..
وهكذا يكون الشأن في كل شيء. لا ترى فيه شكله بل قلبه وجوهره ..
في الصلاة .. في ذكر الله .. في تلاوة القرآن .. في الدعاء .. في ممشاك إلى صديق تزوره، أو مريض تعوده، أو رحم تصله، أو علم تطلبه .. في كل الأشياء ترى قلبها، لا شكلها الخارجي .. ذلك أنك مع التصوف الحق النقي تعلم علم اليقين أن لله جل جلاله في كل شيء إنشاءً، ومشيئةً، وعلما وتسييرا وتقديرا .. وإذن فأنت هناك وهنا في النبتة الطالعة، والنسمة الرضيَّة، والقطرة النديَّة ..
وفي الشمس وضحاها .. والقمر إذا تلاها.. والنهار إذا جلاها.. والليل إذا يغشاها ..
وتراه في السماء وما بناها .. والأرض وما طحاها .. ونفس وما سواها ..
كذلك تراه في وجوه الصالحين وقلوب العارفين وسُبحات المتقين ..
كان الشيخ الإمام من هذا الطراز العالي ..
وقبل وفاته بعام تقريبا بدأ يفسّر في درس الجمعة سورة “المزمِّل” .. أما في مساء يومها وبعد صلاة العشاء، فكان يشرح أحاديث سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم، مقدِّما “سنن الإمام أبي داود” .. وفي مساء السبت ليلة الأحد كان موعده مع درس الفقه.
ظل -رضي الله عنه- يفسر سورة المزمل عاما إلا قليلا .. ولعله لقي ربه وهو يتابع آياتها شرحا وتفسيرا ..
ولا تعجبوا متسائلين: وهل تحتاج سورة “المزمل” لأكثر من درسين أو خمسة على الأكثر ليبلغ تفسيرها نهايته ومداه.
وأجيبكم: لا يحتاج تفسيرها لأكثر من ذلك، لو أن فضيلة الإمام كان يفسرها تفسيرا لغويا، أو بلاغيا، أو غير ذلك من أنواع التفسير..