تعريف الورع
جاء في لسان العرب: الوَرَعُ: التَّـحَرُّجُ. تَوَرَّعَ عن كذا أَي تـحرَّج. والوَرِعُ، بكسر الراء: الرجل التقـي الـمُتَـحَرِّجُ، وهو وَرِعٌ بـيِّن الوَرَعِ، وفي مقاييس اللغة: ورع الواو والراء والعين أصلٌ صحيح يدلُّ على الكفّ والانقباض. منه الوَرَع: العِفَّة، وهي الكَفّ عما لا ينبغي.
أما في الاصطلاح: الوَرَع في الشرع ليس هو الكف عن المحارم والتحرُّج منها فقط، بل هو بمعنى الكف عن كثيرٍ من المباح، والانقباض عن بعض الحلال خشية الوقوع في الحرام. وقد وردت تعاريفُ كثيرة عند السلف والعلماء للورع، ومنها قولهم: الوَرَعُ: ترك ما يريبُك، ونفي ما يعيبك، والأخذ بالأوثق، وحمل النفس على الأشق). وقيل: هو تجنب الشبهات، ومراقبة الخطرات). وقال ابن القيم رحمه الله: هو ترك ما يُخشى ضرره في الآخرة). وقيل: هو عبارة عن ترك التسرع إلى تناول أعراض الدنيا). وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: هو ترك كل شبهة). وقال يحيى بن معاذ: الورع على وجهين: ورع في الظاهر وورع في الباطن. فورع الظاهر: أن لا يتحرك الإنسان إلا لله، وورع الباطن: هو أن لا تدخل قلبك سوى الله). وقال يونس بن عبيد رحمه الله: الورع هو الخروج من كل شبهة، ومحاسبة النفس في كل طرفة عين).
وعموما فالورع حالة تقوم بالقلب، تورثه حياء شديدا وخشية بالغة، فيظهر ذلك في صورة حذر ويقظة وتحرج من أي مخالفة كبيرة أو صغيرة.
شرح الحديث الذي يبين حقيقة الورع
الحديث الذي يعتبر بيانا جامعا لحقيقة الورع هو الحديث الذي رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه وقد ورد في الصحيحين، يقول النعمان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغه إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب”.
– لغة الحديث:
«بين»: ظاهر، وهو ما نص الله ورسوله، أو أجمع المسلمون على تحليله بعينه أو تحريمه بعينه.
«مشتبهات»: جمع مشتبه، وهو المشكل؛ لما فيه من عدم الوضوح في الحل والحرمة.
«لا يعلمهن»: لا يعلم حكمها؛ لتنازع الأدلة، فهي تشبه مرة الحلال، وتشبه مرة الحرام.
«اتقى الشبهات»: ابتعد عنها، وجعل بينه وبين كل شبهة أو مشكلة وقاية.
«استبرأ لدينه وعرضه»: طلب البراءة أو حصل عليها لعرضه من الطعن، ولدينه من النقص، وأشار بذلك إلى ما يتعلق بالناس وما يتعلق بالله عز وجل.
«وقع في الشبهات»: اجترأ على الوقوع في الشبهات، التي أشبهت الحلال من وجه والحرام من وجه آخر.
«الحمى»: المحمي، وهو المحظور على غير مالكه. وقيل: هو ما يحميه الخليفة أو نائبه من الأرض المباحة لدواب المجاهدين، ويمنع الغير عنه.
«يوشِك»: يسرع أو يقرب.
«أن يرتع فيه»: أن تأكل منه ماشيته وتقيم فيه.
«محارمه»: المعاصي التي حرمها الله تعالى.
«مضغة»: قطعة من اللحم قدر ما يمضغ في الفم.
قال العلامة ابن دقيق العيد في شرحه لهذا الحديث من كتاب شرح الأربعين النووية: الأشياء ثلاثة أقسام: فما نص الله على تحليله فهو الحلال، وما نص على تحريمه فهو الحرام، والشبهات هي كل ما تتنازع فيه الأدلة من الكتاب والسنة، وتتجاذبه المعاني… فالإمساك عنه ورع… ومن العلماء من اعتبر الشبهات حراما لقوله صلى الله عليه وسلم: “فقد استبرأ لدينه وعرضه”، ومنهم من اعتبرها حلالا لقوله: “كالراعي يرعى حول الحمى”، ومنهم من جعلها في منزلة بين الحلال والحرام كما في الحديث… وبعض العلماء آثر التقسيم فقسكم الشبهات إلى ثلاثة أقسام:
– منها ما يعلم أنه حرام ثم يشك فيه هل زال تحريمه أم لا؟ كالذي يشك في حيوان مذبوح هل ذكاته شرعية أم لا؟ فالأصل حرمته قبل الذكاة حتى يحصل بها يقين… ومثاله حديث عدي بن حاتم قال: يا رسول الله إني أرسل كلبي وأسمي عليه، فأجد معه على الصيد كلبا آخر. قال لا تأكل إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره.
– ومنها ما يعلم أنه حلال ثم يشك في تحريمه… كرجل له زوجة فشك في طلاقها، فهذا يبقى على الإباحة حتى يحصل علم بالتحريم، وأصله حديث عبد الله بن زيد فيمن شك في الحدث بعد الطهارة (شكا أنه يجد الشيء في الصلاة، فنصحه النبي صلى الله عليه وسلم بألا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا).
– والقسم الثالث أن يشك في الشيء فلا يدري أحلال أم حرام، ويحتمل الأمرين معا، ولا دلالة على أحدهما، فالأحسن أن يتنزه عنه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الثمرة التي وجدها في بيته فقال: “لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها”.
الورع خلاف الوسوسة
ليس من الورع تحريم الحلال لمجرد الوسوسة، كأن يكون الأمر مباحا ثم يفترض أنه طرأ عليه ما يحرمه، ومثاله شخص يجد ماء طاهر فيفترض أنه ربما نجسه شيء فيتركه لمجرد الوسوسة، فالقرآن الكريم فصل بين الورع الحقيقي وتحريم الطيبات إذ يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (88). من سورة المائدة.
أهل الورع أكثر الناس ذكرا لله واليوم والآخر
إن الورع حالة قلبية، إذا غشيت قلبا أورثته الحياء والخشية من الله تعالى فيكون صاحب هذا القلب أكثر ذكرا ليوم القيامة ولقاء الله وأشد خوفا من المحاكمة التي ستقوم هذا اليوم إذ الرئيس هو الله الملك لمن الملك اليوم لله الواحد القهار، وحراسها هم الملائكة الكرام وجاء ربك والملك صفا صفا، وشهودها المرسلون والأنبياء فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا، والمنتظرون للحكم والفصل هم العباد وكلهم آتيه يوم القيامة فردا. والأحكام المنبثقة عن المحاكمة إما النعيم المقيم وإما الجحيم إن الابرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم. لما عرف أهل الورع هذا حرصوا على الورع ولم يرخصوا لأنفسهم في الشبهات، لأنهم كلما عرض لهم أمر من أمورهم تذكروا يوم يسألون عن كل صغيرة وكبيرة، فعرضوه على ميزان الشرع قبل الخوض فيه وتناوله.
أقوال السلف في الورع
وقال إبراهيم بن أدهم: الورع ترك كل شبهة، وترك ما لا يعنيك هو ترك الفضلات).
وقال الشبلي: الورع أن تورع عن كل ما سوى الله).
وقال إسحاق بن خلف: الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة، والزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة لأنهما يبذلان في طلب الرياسة).
وقال أبو سليمان الداراني: الورع أول الزهد كما أن القناعة أول الرضا).
وقال يحيى ابن معاذ: الورع الوقوف على حد العلم من غير تأويل).
وقال أيضاَ: الورع على وجهين: ورع في الظاهر، وورع في الباطن؛ فورع الظاهر أن لا يتحرك إلا لله، وورع الباطن هو أن لا تدخل قلبك سواه).
وقال أيضاً: من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يصل إلى الجليل من العطاء).
وقيل: الورع الخروج من الشهوات وترك السيئات).
وقيل: من دق في الدنيا ورعه أو نظره جلَّ في القيامة خطره).
وقال يونس بن عبيد الورع: الخروج من كل شبهة ومحاسبة النفس).
وقال سفيان الثوري: ما رأيت أسهل من الورع، ما حاك في نفسك اتركه).
وقال سهل: الحلال هو الذي لا يعصي الله فيه، والصافي منه الذي لا ينسى الله فيه).
وسأل الحسن غلامٌ وقال له: ما ملاك الدين؟ قال: الورع، قال: فما آفته؟ قال: الطمع)، فعجب الحسن منه.
وقال الحسن: مثقال ذرة من الورع خيرٌ من ألف مثقال من الصوم والصلاة).
وقال أبو هريرة: جلساء الله غداً أهل الورع والزهد).
وقال بعض السلف: لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس). ويروى مرفوعاً.
وقال بعض الصحابة: كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب الحرام).
حالات مشرقة من ورع السلف الصالح
أبو بكر الصديق
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: “أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَنَزَلُوا رُفَقًا، رُفْقَةً مَعَ فُلانٍ، وَرُفْقَةً مَعَ فُلانٍ، قَالَ: فَنَزَلْتُ فِي رُفْقَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ مَعَنَا أَعْرَابِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَنَزَلْنَا بِأَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَفِيهِمُ امْرَأَةٌ حَامِلٌ، فَقَالَ لَهَا الْأَعْرَابِيُّ: أَيَسُرُّكِ أَنْ تَلِدِي غُلامًا؟ إِنْ أَعْطَيْتِينِي شَاةً وَلَدْتِ غُلامًا فَأَعْطَتْهُ شَاةً، وَسَجَّعَ لَهَا أَسَاجِيعَ، قَالَ: فَذَبَحَ الشَّاةَ، فَلَمَّا جَلَسَ الْقَوْمُ يَأْكُلُونَ، قَالَ: أَتَدْرُونَ مِنْ أَيْنَ هَذِهِ الشَّاةُ؟ فَأَخْبَرَهُمْ، فَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَتَقَيَّأُ” 1 .
عمربن الخطاب
سيدنا عمر رضي الله عنه جاءه رسول من أذربيجان وصل المدينة في ساعة متأخرة من الليل، كره هذا الرسول أن يطرق باب أمير المؤمنين في هذه الساعة المتأخرة، فتوجه إلى المسجد، فإذا في المسجد صوت وبكاء، سمع هذا الصوت يقول: ربي أنا واقف ببابك، واقف بين يديك هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي أم رددتها فأعزيها: فقال هذا الرسول: من أنت يرحمك الله: فقال: أنا عمر. قال: أمير المؤمنين! قال: نعم، قال: ألا تنام الليل؟ قال: إن نمت ليلي كله أضعت نفسي، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي، بقي هذا الرسول مع أمير المؤمنين حتى صلاة الصبح، فلما انصرف عمر من المسجد اصطحبه معه إلى البيت إكراماً له، دخل إلى البيت قال: يا أم كلثوم ما عندك من طعام، قالت: والله ما في بيتنا إلا خبز وملح فقط، فقال: هاتيه لنا، أكل وأطعم ضيفه وحمِد الله وأثنى عليه، ثم سأل هذا الرسول: ما الذي أقدمك إلينا: قال: هدية بعثها لك عاملك على أذربيجان، قال: افتحها، فتحها فإذا هي حلوى نفيسة، فقال: يا هذا أيأكل عندكم عامة المسلمين هذا الطعام: قال: لا هذا طعام الخاصة. قال: أوَأعطيت الفقراء في المدينة مثل ما أعطيتني: قال: لا هذه لك خصيصاً. قال: اذهب فوزعها على فقراء المدينة وحرام على بطن عمر أن يذوق طعاماً لا يأكله عامة المسلمين .رضي الله عنك يا عمر. اللهم احشرنا معه في جنات النعيم.
عمر بن عبد العزيز
جاء في كتاب الورع لأحمد بن حنبل عَنْ رَجُلٍ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَتْ: اشْتَهَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَسَلا فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا، فَوَجَّهْنَا رَجُلا عَلَى دَابَّةٍ مِنْ دَوَابِّ الْبَرِيدِ إِلَى بَعْلَبَكَّ فَأَتَى بِعَسَلٍ، فَقُلْتُ يَوْمًا: إِنَّكَ ذَكَرْتَ لَنَا عَسَلا، وَعِنْدَنَا عَسَلٌ فَهَلْ لَكَ فِيهِ: فَقَالَ: نَعَمْ. فَأَتَيْنَاهُ بِهِ فَشَرِبَهُ ثُمَّ قَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا الْعَسَلُ: قُلْنَ: وَجَّهْنَا رَجُلا عَلَى دَابَّةٍ مِنْ دَوَابِّ الْبَرِيدِ بِدِينَارٍ إِلَى بَعْلَبَكَّ فَاشْتَرَى لَنَا عَسَلا، فَأَرْسَلَ إِلَى الرَّجُلِ فَجَاءَ بِهِ، فَقَالَ: انْطَلِقْ بِهَذَا الْعَسَلِ فَبِعْهُ وَارْدُدْ إِلَيْنَا مَالَنَا، وَانْظُرْ إِلَى الْفَضْلِ فَاجْعَلْهُ فِي عَلَفِ دَوَابِّ الْبَرِيدِ ولو كان ينفع المسلمين قيء لتقيأت).
سفيان الثوري
قال: ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن ولكنه قصر الأمل وارتقاب الموت)، قال شعبة: ساد سفيان الناس بالورع والعلم). قيل للفضيل بن عياض في بعض ما كان يذهب إليه من الورع: من إمامك في هذا؟ قال: سفيان الثوري. وعن قطيبة بن سعيد قال: لولا الله ثم سفيان لمات الورع).
خاتمة
إن الورع خلق عظيم يجب أن يتخلق به الحكام والمسؤولون قبل العامة حتى تسود الأمانة، وتوزع الخيرات بالعدل، ويحارب الفساد بكل أشكاله، وما الذي نعيشه اليوم من نهب لأموال العموم، واستحواذ على خيرات البلاد من طرف شرذمة قليلة، وتجبر للحكام وشطط في استعمال السلطة لدى المسؤولين إلا نتيجة لغياب هذا الخلق العظيم الذي تربى عليه الرعيل الأول من هذه الأمة فحققوا العدل، وتربى عليه من جاء من بعدهم فساروا على نهجهم، ولكن أول نتيجة لغياب هذا السلوك هي انتقاض عروة الحكم، إذ اغتصب الملوك الخلافة وحولوها إلى ملك استبدادي عندما خرج الورع من قلوبهم وعوضه الجشع وحب الدنيا ونسيان الموت واليوم الآخر.