التعليم عن بعد ورهان العدالة الاجتماعية (1)

Cover Image for التعليم عن بعد ورهان العدالة الاجتماعية (1)
نشر بتاريخ

مقدمة:

في الوقت الذي تعيش فيه المنظومات التعليمية للكثير من دول العالم الثالث أزمات على مستوى محاربة الأمية وعدم استيعاب كل الأطفال في سن التمدرس داخل قاعات الدرس، بسبب ضعف التعميم واختلال تكافؤ الفرص، تتلاحق التطورات التقنية والرقمية من حولها لتفتح عليها جبهات كبيرة تتطلب سرعة أكبر في التفاعل ودقة في الإنجاز.

ويرى الكثير من المهتمين بمجال التربية والتعليم أن التطورات الرقمية من شأنها أن تسهل عملية التعميم وتقريب التعليم من فئات واسعة، خاصة أن كلفتها أقل، لا تكاد تقاس بتكلفة إقامة البنايات وتوفير التجهيزات وتوظيف الإداريين وغيرها من متطلبات التعليم الحضوري. ومن جهة أخرى تتميز التقنيات الرقمية بميزة إمكانية الانتشار الأكبر، وهو ما يجعلها تبدو أنها وسيلة ناجعة في خدمة مطلب التعميم وليست عائقا له. إلا أنه بمعيار جودة المنظومة التعليمية الذي يحتوي تكافؤ الفرص ويتجاوزه، نكون أمام مؤشرات جديدة تحتاج إلى معالجة واستحضار في سياق اعتماد الوسائل الرقمية حتى لا تسقط المنظومات التعليمية في مأزق آخر في طريقها لمحاربة الأمية. فمبدأ الإنصاف وتكافؤ الفرص أصبح مطلبا أكثر إلحاحية في سياق التطورات التي تعرفها المجتمعات المعاصرة، حيث صار مدخلا هاما لدمقرطة الخدمات الاجتماعية واستيعاب التعدد المجتمعي في أفق بناء تنمية اقتصادية وسياسية واجتماعية متينة ومستدامة.

وتقتضي هذه الخلفيات كلها البحث في البعد التركيبي والبنيوي لأي أزمة تربوية، والتعاطي معها باعتبارها جزء لا يتجزأ من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في شموليتها، وعدم حصرها في التناول الضيق الذي ينكب على معالجتها في إطار مدرسي مغلق وميكانيزمات عاجزة عن استيعاب واحتواء مثل هذه القضايا المتعددة الأبعاد. فكل أزمة تربوية تعالج من داخل الوضعية المجتمعية التي تحدد بيئتها من حيث عوامل إنتاجها ومن حيث حدتها وعمقها ومظاهرها وامتداداتها. وذلك حسب الخصوصيات وشروط اشتغال أجهزتها ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والثقافية والتربوية والاجتماعية المتعددة.

1.      السياق العام وإشكالية الدراسة:

أ- مشكلة الدراسة:

ظل رهان العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص حاضرا في مختلف النصوص التنظيمية والمخططات الإصلاحية التي عرفتها عدة دول من العالم العربي انسجاما مع توصيات المنظمات الدولية وحاجيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. وأمام النسب المرتفعة للأمية والهدر المدرسي فقد كان الاهتمام أساسا بتعميم الولوج إلى المدرسة كمظهر من مظاهر العدالة، عبر توفير مقعد بيداغوجي للجميع بنفس مواصفات الجودة، دون تمييز قائم على أساس الانتماء الجغرافي أو الاجتماعي، أو النوع أو الإعاقة أو اللون أو اللغة أو المعتقد. وللوصول إلى ذلك حاولت السياسات التربوية توفير كافة البنيات والأفضية، وتأمين جميع أنواع الدعم التربوي والنفسي والاجتماعي   ضمانا للاستفادة المتكافئة من خدمات التربية والتكوين.

وفي خضم معركة التعميم المتكافئ هذه والتي لم تكتمل بعد، لم يكن لنمط التعليم عن بعد في المراحل قبل الجامعية أي مكانة محورية. فقد ظل شعارا، أو خيارا، مؤجلا بسبب عدم مواكبة المنظومة التعليمية لتطورات العالم التقني بما فيه الكفاية، أو لعدم توفر الإمكانات اللوجيستية التي تسهل إدماج التكنولوجيا في عالم مازال يراوح مكانه أمام مطالب أكثر إلحاحية وأهمية تستهلك كل إمكاناته المادية والبشرية والزمنية.

إلا أن الظهور المفاجئ لوباء كورونا (كوفيد19-) مطلع سنة 2020 سيضع كل دول العالم أمام واقع لا يرتفع، حيث أجبر الناس على لزوم بيوتهم في إطار إجراءات احترازية للتباعد الاجتماعي   والحجر الصحي، مما أدى إلى إغلاق المدارس والجامعات وتعليق الدراسة لفترات زمنية متفاوتة. فلجأت عدة حكومات إلى تدارك الأمر وإنقاذ السنة الدراسية عبر اعتماد “التعليم عن بعد” بشكل اضطراري. والحالة أن هناك اختلافا واسعا بين الدول على مستوى تدبير العملية التعليمية من خلال هذا النمط التعليمي؛ ذلك أن التردد الذي طبع السياسات التربوية في المغرب مثلا، في تعاطيه مع هذا النمط وعدم استعداده كفاية لاعتماده، يجعلنا نتساءل عن كيفية تدبيره لهذه الوضعية الطارئة خاصة في علاقة مع رهانات الإصلاح التربوي الجاري الذي يضع مبدأ الإنصاف ضمن أولوياته، من خلال توفير تعليم منصف ومتكافئ في إطار قواعد من العدالة الاجتماعية ودون تمييز نوعي أو مجالي أو طبقي.

وتحاول هذه الدراسة الإجابة عن سؤال مركزي وهو: إلى أي مدى يمكن للتعليم عن بعد أن يحافظ على هدف الإنصاف وتكافؤ الفرص في العملية التعليمية التعلمية؟

وللإجابة عن هذا السؤال ستحاول الدراسة الإجابة على الأسئلة الفرعية الآتية:

ما هي رهانات العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص في قطاع التعليم؟

ما هي خصائص الوضعية التعليمية التعلمية خلال اعتماد التعليم عن بعد؟

ما هي المعيقات التي يسببها التعليم عن بعد والتي ينتج عنها عدم تكافؤ في الفرص؟

وما هو تأثير التفاوتات الأصلية على التفاوتات التعليمية خلال عملية تعليمية عن بعد؟

ب – أهداف الدراسة:

تهدف هذه الدراسة إلى تحقيق الأهداف الآتية :

·         إثارة الانتباه إلى ضرورة اعتماد مؤشر تكافؤ الفرص خلال تقويم نمط التعليم عن بعد، أو خلال العمل على وضع سياسات تربوية تروم تعميم واستدامة العمل به.

·         إعادة التأكيد على تحدي تكافؤ الفرص في المدرسة المغربية كأحد المعضلات المزمنة التي تعيق النجاح في مختلف الإصلاحات المتعاقبة.

·         فتح المجال لنقاش علاقة الوضعية الأصلية للأسر المغربية بالتحصيل الدراسي لأبنائها.

·         تحديد أهم الإجراءات اللازم اتخاذها في حال قررت وزارة التعليم اعتماد نمط التعليم عن بعد كنمط مستدام زمانا زمكانا.

·         فتح المجال للنقاشات التربوية والبيداغوجية المرتبطة بالتعليم عن بعد، بدل الاقتصار على الأبعاد التقنية والرقمية.

ج ـ أهمية الدراسة:

تكمن أهمية هذه الدراسة في كون موضوعها يتناول قضيتين هامتين ملحتين في السياق التربوي المغربي. أولها موضوع الإنصاف في التعليم باعتباره أحد الدعامات الأساسية التي بنيت عليها الرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم بالمغرب (2015-2030)، حيث تم وضع جملة من المشاريع والتدابير من أجل تقليص الفجوة بين مختلف الطبقات الاجتماعية والجهات الترابية لضمان تعليم منصف بين كل المغاربة. كما أن هذه الرؤية تتبنى مشاريع التطوير التكنولوجي والرقمي في قطاع التعليم، حيث تم التنصيص عن “التعليم عن بعد” كخيار معروض للتطوير والإرساء داخل المنظومة التعليمية المغربية، والتي سرعت جائحة كورونا بإبراز أهميته وملحاحيته، وفضح هفواته وتحدياته التي لا بد من مقاربتها بنفس تربوي وبإرادة سياسية عابرة للقطاعات الحكومية.

لذلك فإن هذه الدراسة تكتسب أهميتها من راهنيتها، ومن مساهمتها في النقاش العمومي الدائر بين مختلف المهتمين والمتابعين للشأن التربوي، وأيضا من كون الزمن التربوي في المغرب هو زمن إصلاحي بامتياز يعرف عدة أوراش للعمل تروم تجاوز الإعاقات التي راكمتها المنظومة، ومن شأن دراسة من هذا النوع أن تفصح عما لم يفصح عنه العمل الإداري اليومي الغارق في تدبير الأزمة بمنطق الحفاظ على استمرارية واستقرار الوضع أكثر من التفكير في استشراف الإشكالات المتوقعة من خارج المنظومة التعلمية.

د – مفهوم التعليم عن بعد:

التعليم عن بعد هو تلك الوضعية التعليمية التعلمية التي تتم من خلال الاعتماد على التقنيات الرقمية والوسائل التكنولوجية، مما يجعل أهم خصائصه هي الفصل المكاني بين المتعلم والمعلم من جهة وبين المتعلم وباقي زملائه من جهة أخرى. فهو “نظام تعليمي يقوم على فكرة إيصال المادة التعليمية إلى الطالب عبر وسائط اتصالات تقنية مختلفة حيث يكون المتعلم بعيدا ومنفصلا عن المشرف” 1، و”يشمل كافة أساليب الدراسة وكل المراحل التعليمية التي لا تتمتع بالإشراف المباشر والمستمر من قبل معلمين يحضرون مع طلابهم داخل قاعات الدراسة التقليدية. ومع ذلك تخضع عملية التعليم فيه لتخطيط وتنظيم وتوجيه من قبل مؤسسة تعليمية وأعضاء هيئة تدريس” 2

هنا تصبح البيئة التعليمية بيئة إلكترونية توفر عددا من الامتيازات؛ منها:

·         سهولة الوصول إلى المادة المعرفية، حيث أن تنزيلها رقميا يسهل الوصول إليها في أي وقت وفي أي مكان.

·         يسر التواصل مع المدرس، وتخفيض الكلفة الزمنية. فالتواصل يكون ميسرا دون الحاجة إلى التنقل بين البيت والمدرسة سواء بالنسبة للمتعلم أو المدرس. إلا أنه ينبغي البحث في أثر هذا التواصل وعمقه ومدى استيفاء مهمته البيداغوجية. وهذا يحتاج بحوثا لقياس النجاعة التربوية وليس فقط الرقمية والتقنية.

·         تقليل الأعباء الإدارية والتنظيمية على مستوى المؤسسات التعليمية، فعدم حضور المتعلمين إلى قاعات الدرس وفضاء المؤسسة سيخفف عبء المراقبة والتنظيم وقواعد الحفاظ على النظام الداخلي للمؤسسة. لكن سيظهر عبء آخر مرتبط بالقدرة على ضبط ومتابعة حضور المتعلمين عبر الوسائل التقنية.

·         التجاوب مع التطور التواصلي الذي تعيشه المجتمعات المعاصرة، وهو تجاوب لا يمكن تفاديه أو تأجيله حتى لا تصبح المنظومة التعلمية متجاوزة وغير متجاوبة مع الحاجيات النفسية والرقمية للمتعلمين.

·         التفاعل مع توصيات المنظمات الدولية المختصة، وهي توصيات تتجه في جزء كبير منها إلى إدماج التطور التكنولوجي في طرائق التعليم.


[1] المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الاستراتيجية العربية للتعليم عن بعد، 2017.
[2]

Börje Holmberg, « The evolution of the character and practice of distance education »,Volume 11, (Oldenburg : BIS-Verlag der, 2005), p44. Vu le 13/10/2020 sur https://uol.de/fileadmin/user_upload/c3l/master/mde/download/asfvolume11_eBook.pdf…