3. التوجهات الدولية للعدالة الاجتماعية في التعليم:
تنكب مختلف المنظومات التعليمية في العالم العربي على جعل المدرسة مؤسسة منصفة وعادلة، وقد اهتمت بهذه الغاية أكثر من اهتمامها بتطوير نمط التعليم عن بعد[1]. حيث لازال توظيف التعليم عن بعد في العمليّة التعليميّة في مراحله الأولى، كما أن مؤسسات التعليم عن بعد محدودة العدد ولا تتناسب مع عدد السكان.
أـ تكافؤ الفرص في التعليم مطلب دولي:
يظهر الاهتمام الزائد بمطلب تكافؤ الفرص من خلال توصيات المنظمات العربية والدولية. فقد ورد في الكثير من المعاهدات والاتفاقيات الدولية خاصة تلك المعنية بحقوق الإنسان، بدءا من الإعلان العالمي لعام 1948. كما فرضت اتفاقية حقوق الطفل عام 1989 على الدول أحكاما تلزمها بالعمل “تدريجيا وعلى أساس تكافؤ الفرص” على تحقيق الإعمال الكامل لحق الطفل في التعليم. كما تناولت عدة مواثيق دولية، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مبدأ العدالة عن طريق التأكيد على مسؤولية الحكومات عن توفير كل الشروط الضرورية ليستفيد جميع الأطفال من تعليم يتسم بدرجة مقبولة من الجودة. وحيثما تتناول الشرعية الدولية لحقوق الإنسان موضوع التعليم، فإن اهتمامها الأساسي ينصب على الإنصاف: أي على هدف تحقيق مزيد من المساواة في حصيلة التعلم وفرص الالتحاق بالتعليم. وهذا الهدف هو إقرار بتساوي قدرات جميع الأطفال على تنمية مهاراتهم المعرفية الأساسية إذا ما أتيحت لهم بيئة التعلم الصحيحة.
ورغم أن عدة دول وحكومات عربية أدرجت مطلب الإنصاف في دساتيرها الوطنية ومشاريعها التعليمية، إلا أن ذلك لم يكن كافيا للإحاطة بجميع التدابير اللازمة للوصول إلى نسب كبيرة من الغايات المرصودة لذلك. ولعل أكبر عائق يمكن تسجيله هو الاقتصار في تلك التدابير على ما يقع داخل أسوار المدرسة وعدم الالتفات بشكل جدي إلى معالجة التفاوتات الأصلية التي تنتعش خارج الأسوار في إطار واقع اجتماعي واقتصادي وثقافي يهيمن على مختلف المؤسسات الاجتماعية وعلى رأسها المدرسة.
كما أن هذه التفاوتات الأصلية لا تعالج بالقوانين فقط، إذ أنه إلى جانب التمييز على مستوى المدرسة توجد مظاهر خارجية لتمييز منبث في العمليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تحد من فرص الحياة المتاحة لبعض الجماعات والأفراد. مما يعني أن اختلال العدالة الاجتماعية في قطاع التعليم لا يصيب المتعلمين جزافا داخل المدرسة وإنما هو واقع ناتج عن سياسات وعمليات تساهم في إدامته فيصطحبه المتعلمون معهم إلى المؤسسة التعلمية التي تجد نفسها عاجزة عن تجاوزه أو تفاديه. “وهو ما جعل هواجس العدل والإنصاف تطغى باستمرار على النقاش الأخلاقي في العالم أجمع بصرف النظر عن الفوارق السياسية والدينية والأدبية. ويجمع ميثاق الأمم المتحدة هذه الهواجس في إطار التزامه بالطابع العالمي لحقوق الإنسان في حين تكرس المؤسسات والمدونات القانونية مسألة الإنصاف في القانون العام. كما أن الحركات السياسية المطالبة بالعدالة الاجتماعية تعمل على التعبئة حول قضايا تكافؤ الفرص وعدم التمييز والعدالة في توزيع الموارد. على أمل أن يشكل التضافر بين تأثير الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان وفعل القوانين والتعبئة السياسية حافزا قويا لمكافحة الحرمان في مجال التعليم”[2]. فالتهميش في مجال التعليم يجد أصوله في أوجه اللامساواة الاجتماعية. وقلما يكون نتيجة لتمييز يمارس بشكل رسمي.
والجدير بالملاحظة في مقاربات المنظمات الدولية لقضية التعليم هو توجيه الأصبع مباشرة لدور الحكومات ونجاعة السياسات العمومية التربوية والاجتماعية مما يحملها كامل المسؤولية في أي فشل أو تأخر في تحقيق العدالة التربوية والتعليمية. وعلى الرغم من وجود الكثير من النقاشات بشأن محاولات تعريف نوعية التعليم إلا أن تكافؤ الفرص يبقى مؤشرا دالا “حيث ينبغي أن تنجح النوعية في اختبار تحقيق التكافؤ: فالنظام التعليمي الذي يتم بممارسة التمييز على فئة معينة أيا كانت، لا يضطلع برسالته”[3] سواء أكان تعليما حضوريا أو عن بعد.
الأمر يشمل أيضا سؤال الحكامة في تدبير السياسات التربوية حيث ترى اليونسكو في تقريرها لسنة 2009 أن “أوجه التفاوت الراسخة والمستمرة القائمة على أساس الدخل ونوع الجنس والموقع الجغرافي والانتماء الإثني وغير ذلك من مسببات الحرمان تشكل عائقا كبيرا أمام التقدم في التعليم. وأن اللامساواة في مجال التعليم ترتبط بوجود أوجه للتفاوت أوسع نطاقا تتعلق بتوزيع السلطة والثروة والفرص، تكرسها سياسات تجيز عدم التكافؤ في توزيع الفرص أو تسهم في استفحاله، ويتغذى من ثم توارث الفقر من جيل إلى جيل”[4].
وتنتقد اليونسكو بشدة أشكال اللامساواة الملاحظة في العديد من الدول خاصة تلك التي تسببها الظروف التي يولد فيها الطفل أو جنسه أو مستوى ثراء والديه ولغتهم ولون بشرتهم. “فوجود أوجه تفاوت كبيرة في مجال التعليم ليس أمرا منافيا للإنصاف فحسب وإنما يسيء أيضا إلى الفعالية، فهو يعيق النمو الاقتصادي ويحول دون التقدم في مجالات أخرى. كما أن أوجه التفاوت الشديد في مجال التعليم ترتبط بأشكال التفاوت الأوسع الموجودة في المجتمع”[5]. وتدع إلى معالجة الأمر عبر تثبيت حكامة سليمة، حيث تعتبر أن “الحكامة في أوسع معانيها هي العمليات والسياسات والترتيبات المؤسسية التي تربط بين مختلف الأطراف الفاعلة في مجال التعليم. وهي التي تحدد مسؤوليات الهيئات الحكومية على الصعيدين الوطني ودون الوطني في مجالات مثل الشؤون المالية والتنظيم الإداري ووضع وتطبيق القواعد التنظيمية. فقواعد الحكامة تحدد من يقرر ماذا، ابتداء من مستوى وزارة المالية أو وزارة التربية على الصعيد الوطني ونزولا حتى مستوى قاعة الدرس ومستوى المجتمع المحلي”[6].
كما أن المنظمات الدولية تربط بين الإنصاف في التعليم وتأثيره على مجالات أخرى، فجدول أعمال برنامج “التعليم للجميع” يستند إلى التزام بحقوق الإنسان وبالعدالة الاجتماعية. ويحدد للسياسة العامة للدول خارطة طريق تربط التعليم بأهداف إنمائية أوسع نطاقا. على اعتبار أن تحقيق الإنصاف في مجال التعليم هو مدخل استراتيجي للتقدم في مجالات أخرى. فهل تفي الدول العربية بالتزاماتها بخصوص مطلب العدالة الاجتماعية في إطار نظام للتعليم عن بعد؟
ب ـ تكافؤ الفرص في التعليم وسؤال الجودة:
فيما تشتغل الدول العربية على البعد الكمي من خلال تعميم التعليم باعتباره مستوى من مستويات تكافؤ الفرص، خاصة في الدول التي لازالت تعاني من نسب عالية من الأمية والهدر المدرسي، تبرز إشكالية أخرى مرتبطة بتحقيق الجودة باعتبار ذلك مستوى ثاني في التكافؤ المطلوب، وهو تكافؤ استراتيجي. ذلك أن تمتيع مختلف الفئات من نفس مستوى الجودة التعليمية والظروف التعليمية من شأنه أن يكسبهم مهارات وقدرات تمكنهم من مواجهة التنافس العادل على مناصب العمل في سوق الشغل. خاصة أن التطور الذي يعرفه هذا السوق يؤول إلى فتح فرص أكبر للترقي الاجتماعي على أساس ما يتوفر عليه الفرد من كفاءة وجدارة واستحقاق في مجال تكوينه وتخصصه. وإن أي تفاوت في الجودة المقدمة في المرحلة التعليمية إنما هو تأسيس لتفاوت على المستوى السوسيومهني في الأفق المنظور، وهو إعادة إنتاج أو إعادة إدماج للمتعلم في الطبقة السوسيومهنية التي تنتمي إليها أسرته، مما ينتفي معه رهان الترقي الاجتماعي والوظيفي. وتحدد اليونسكو إطارا لتعريف الجودة وذلك من خلال أرضية الأهداف المشتركة التي ترمي إلى تعزيز المناقشات المتعلقة بالجودة حيث تدمج “إمكانيات الحصول على ثمار التعلم” ضمن “الإنصاف في فرص التعليم”، لذلك فإن أي فشل يلحق أي متعلم في الاندماج والترقي المهني ينبغي ربطه بانخفاض في جودة خدمات التعليم المقدمة له قبل تحميل المسؤولية للمتعلم.
كما أن الدول في سعيها إلى تحقيق تلك الجودة ينبغي أن تراعي ظروف التفاوتات الطبقية والجنسية والمجالية التي لازالت تحد من الجودة المرجوة وتشكل أقوى الأسباب لأي فشل أو تعثر أو انقطاع أو عدم مساواة دراسية. فالجودة والعدالة عاملان مترابطان برابطة لا انفصام لها.
ويظهر ذلك جليا على مستوى التعليم الثانوي لأنه مناط بمهمة مزدوجة؛ “تأمين المهارات للتوظيف المبكر بالنسبة إلى بعض الأفراد واختيار وإعداد الآخرين للتعليم العالي بحسب اهتمامهم وقدراتهم الأكاديمية”. وهنا يلاحظ أنه على مستوى التعليم الثانوي هناك عمليات توجيه وتصنيف تسبب في حرمان فئة من المتعلمين من فرص ولوج التعليم العالي وتحقيق ترقي اجتماعي أفضل والحصول على وظائف جيدة على أساس الاستحقاق وليس الامتياز، وذلك بسبب مسارات التمدرس والتكوين المهنيين التي يجدون أنفسهم فيها اضطرارا أو اختيارا. لذلك نبهت اليونسكو إلى أنه “يجب توخي الإنصاف والإدماج بدرجة أكبر في التعليم الثانوي مع توفير أوسع الفرص الممكنة للاستجابة إلى قدرات الشباب واهتماماتهم وخلفياتهم على أنواعها”[7].
ومع الانتشار المتزايد للتعليم المهني الذي يستقطب في معظمه التلاميذ المتوسطين والمتعثرين من أبناء الطبقات الهشة والضعيفة، والذي يسهل الانتقال السريع من المدرسة إلى العمل على المدى القصير، إلا أنه لا يسمح بولوج المهن العليا. فقد أظهر تحليل شمل 18 بلدا من منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي أن الذين يلتحقون بالتعليم العام يحظون بفرص عمل أفضل على المدى الطويل. ذلك أن مؤهلات التعليم المهني تبقى متدنية المستوى وبجودة أضعف يجعلها غير قادرة على تأمين العائدات الكافية لسوق الشغل. بل تكون أحيانا مسيئة لأنها تبعث بإشارات سلبية إلى أصحاب العمل. فالمسار التعليمي المهني يستقطب أبناء الأسر الفقيرة والمهمشة، الذين يعرفون تعثرات دراسية كبيرة في التعليم العام، ثم يقدم لهم عرضا تكوينيا بسيطا ليجدوا أنفسهم في مهن بسيطة. كل ذلك لا يمكن إلا أن يعيد إنتاج التفاوتات ويعيق مجهودات الإنصاف وتكافؤ الفرص.
Raymond, Boudon, L’inégalité des chances : la mobilité sociale dans les sociétés industrielles, Paris :1. Hachette/Pluriel, 1997.
2. Dubet François, Duru-Bellat Marie, « Qu’est-ce qu’une école juste? », Revue française de pédagogie, volume 146(2004).
· Dubet François, La préférence pour l’inégalité : comprendre la crise des solidarités, Edit. Seuil, 2014.
· Jean-Marc Louis, Fabienne Ramond, L’élève contre l’école : scolariser les a-scolaire, Paris : DUNOD, 2010.
· Duru-Bellat Marie, Agnés Van Zanten, Sociologie de l’école, 4e édition, Paris : Armand Colin, 2012, http://www.armand-colin.com.
· Terry Anderson, Jon Dron, « Three generations of distance education pedagogy », The International Review of Research in Open and Distance Learning, Vol. 12, 2011.
[3]ـ المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الاستراتيجية العربية للتعليم عن بعد، 2017.
[4]- Börje Holmberg, « The evolution of the character and practice of distance education »,Volume 11, (Oldenburg : BIS-Verlag der, 2005), p44. Vu le 13/10/2020 sur https://uol.de/fileadmin/user_upload/c3l/master/mde/download/asfvolume11_eBook.pdf.
[5]ـ أمارتيا سن، فكرة العدالة، ترجمة مازن جندلي، (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010)، ص111.
[6]- Raymond Boudon, L’inégalité des chances : la mobilité sociale dans les sociétés industrielles, (Paris: Hachette/Pluriel, 1997), p16.
[7]- Dubet François, Duru-Bellat Marie,« Qu’est-ce qu’une école juste? », Revue française de pédagogie, volume 146 (2004), p112.