وضعت “الاستحقاقات” الانتخابية أوزارها، التي بدأت بانتخابات مناديب الأجراء مع مطلع يونيو 2015 وانتهت بانتخابات مجلس المستشارين يوم 2 أكتوبر الجاري، فحيّـنت النقابات تموقعها التمثيلي والمؤسسي والتشريعي. لكن في خضم هذا المسلسل تناست الإطارات النقابية مولودا بلغ من العمر 20 شهرا ووسمت ولادته “بالحدث التاريخي” داخل بيت الحركة النقابية المغربية، حيث أعلنت القيادات النقابية الثلاث بتاريخ الأربعاء 29 يناير 2014 في ندوة صحافية، داخل مقر الاتحاد المغربي للشغل بالدار البيضاء، عن ميلاد “التنسيق الثلاثي” الذي جمع الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل والفدرالية الديمقراطية للشغل، وكان ذلك بحضور أعضاء المكاتب التنفيذية للمركزيات الثلاث وكثير من النقابيين والصحافيين وبعض الرموز السياسية المحسوبين على اليسار.
وصلت شدة الابتهاج بهذا المولود إلى حدٍّ وضعَ عليه المتفائلون رهاناتهم بأن يصبح هو المُخلـّـص من أفول الحركة النقابية وأن يضرب بعصاه السحرية ليوحد القبائل النقابية المتنافرة، وهذا ما يضح جليا من تجريدات بعض الصحافيين المتحزبين، حيث وصف أحدهم الاجتماع التأسيسي بقوله: وحسب الظرفية التي تم فيها اللقاء بين أطراف المركزيات الثلاث، والتي تتميز بتدوين كل تفاصيل ما تم التداول في شأنه وما التزم به مسموعا ومكتوبا ومصورا، فإن لا أحد يتجرأ على الإخلال بما قرره أو التزم به إلا من طبع الله قلبه بالخبث وقلة الحياء، وما أظن أن العمال المنتمين إلى هذه المركزيات يرضون أن يكون من بين قادتهم مثل هؤلاء). ليختم صاحبنا المفجوع تجريداته بهذه الجملة فيأيها القادة النقابيون إن عمال المغرب للوفاء بالتزامكم لمنتظرون) 1 .
كيف نشأت فكرة التنسيق وماذا تحقق من خطواته الأولى في اتجاه الوحدة النقابية؟ هذا ما سنحاول تحليله بتركيز في هذه المقالة.
مخاضات قبل.. التقارب النقابي
قامت الفدرالية الديمقراطية للشغل بعدة زيارات جمعت قيادة هذه المركزية النقابية بقيادة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في بداية 2012 – أي بعد تنصيب حكومة ابن كيران – توجت هذه اللقاءات بالمسيرة المشتركة ليوم 27 ماي 2012 بالدار البيضاء؛ وفي ذات السياق جاءت زيارة إدريس لشگر إلى الميلودي مخاريق في مقر الاتحاد المغربي للشغل يوم 21 فبراير 2013 حيث أعلن الطرفان أن التنسيق بينهما هو لخوض معارك من أجل الديمقراطية والمساواة والحقوق النقابية، وأن هذه المعارك هي اليوم حاجة حضارية ومجتمعية تتجاوز الظرفية الحالية إلى إقامة التوازن داخل المجتمع حتى لا يختل لفائدة مكون ضد آخر) 2 .
وحتى إعلان 29 يناير 2014 – الذي وصف بالتاريخي – لم يأت ضربة واحدة، بل سبقه اجتماع بدار المحامي وآخر بدار الكهربائي ضم ممثلين عن النقابات الثلاث وخرج عنه أول بيان مشترك مُوقع من طرف المركزيات المتقاربة بتاريخ 23 يناير 2014 ويحمل العنوان التالي: المركزيات النقابية ترفض المساس بمكتسبات التقاعد وبكافة الحريات والحقوق)، ليختم البيان بأن المركزيات النقابية الثلاث تخبر الرأي العام الوطني والعمالي بمواصلة العمل المشترك، وبعزمها على اتخاذ مبادرات سيتم الإعلان عنها في وقتها). لم تدم طويلا حالة التكهن، ويبدو أن شيئا ما استعجل المركزيات الثلاث لإعلان التنسيق الثلاثي بعد ستة أيام فقط من التلويح بعزمها على اتخاذ مبادرات).
التقارب النقابي.. ودوافعه
منذ سنوات قليلة بدأ “خيار العمل الوحدوي” يتطور داخل الحركة النقابية المغربية، من خلال الخطاب النقابي ومن خلال العمل الجبهوي القطاعي والمحلي، فقطاعات التعليم والصحة والجماعات الترابية… فرضت منذ سنوات على نقاباتها القطاعية تنسيقات بَينيّة، وكذلك كثير من الفروع والجهات كانت تفضل العمل المشترك من أجل الدفاع عن مطالبها العادلة.
ثم جاءت تجربة الربيع المغربي لتقدم نموذجا، ظل في عداد المستحيلات، للتدافع مع جبهة الاستبداد والفساد فتحقق للمستضعفين ما لم يكن مسطرا في برامج الأحزاب السياسية أو المطالب النقابية؛ وسرعان ما التفت جبهة الاستبداد والفساد على وعودها الإصلاحية والتزاماتها السياسية والاجتماعية عندما تمكنت من تفكيك الجبهة الأخرى بإزاء وسائل ليس المجال لذكرها الآن؛ ثم عادت أشد تسلطا وإفسادا كما لم تكن قبل الحراك، وكأنها تستغل – في سباق مع الزمن – حالة الإحباط والصدمة التي تسمى عندنا بالاستثناء المغربي، لتسترد هيبتها الاستبدادية وهيمنتها الاقتصادية والسياسية داخل المجالات العمومية.
وحيث أن النظام محتاج دائما لشهادة حسن السيرة، فإن أطرافا خارج البلاد يستعدون لإعادة ترتيب مصالحهم السياسية والاقتصادية والجيو-إستراتيجية لاكتساب الوضع المتقدم داخل المملكة الغنية طبيعيا، المفقرة اجتماعيا وسياسيا.
ولقد تضافرت أسباب من قبيل ما ذكر، لتطلق أيدي الاستبداد – الناعمة بفعل الحكومة الحالية للأسف – على ملفات كانت إلى الأمس القريب مجالا يمنع المناورة فيه، استكمال الخوصصة في الخدمات الأساسية، إزالة القواعد وتحرير الأسواق، ثم الحد من الإنفاق الاجتماعي: المقاصة، والتقاعد ثم الضمان الاجتماعي…
هذا الوضع الذي يذكر المركزيات النقابية بالسنوات العجاف التي تسمى سياسة التقويم الهيكلي، دفعها إلى إعلان تنسيق مواقفها ومطالبها تحت عنوان: توحيد الحركة النقابية المغربية، قصد استعادتها لموقعها التاريخي الطبيعي في حركية الصراع الوطني والطبقي) 3 أو ما سماه الإعلام بكلمتين «الجبهة النقابية».
التقارب وشروطه الاستراتيجية
منذ اليوم الأول لوح المتقاربون بأن هدفهم الاستراتيجي هو الوحدة النقابية لإعادة الفاعل النقابي إلى حقل العمل الجماهيري، وتمكنوا إزاء ذلك من تنسيق مواقفهم في بعض المحطات النضالية المهمة كمسيرة 6 أبريل 2014 حيث أكدت النقابات، في بيانها الذي عمم على الإعلام في نفس اليوم، أن عدد المتظاهرين وصل إلى أزيد من 300.000 (ثلاثمائة ألف) مشارك توافدوا على مدينة الدار البيضاء من كل أنحاء المغرب ومن مختلف القطاعات المهنية والخدماتية والإنتاجية من المرفقين الخاص والعام) 4 .
ويبقى الإضراب العام ليوم 29 أكتوبر 2014 أقوى فعل نضالي تقرر بفضل التنسيق الثلاثي حيث انخرطت فيه تنظيمات نقابية منها الفدرالية الديمقراطية للشغل / جناح الفاتحي، والاتحاد العام للشغالين بالمغرب والاتحاد المغربي للشغل / التوجه الديمقراطي. كما أعلن، ولأول مرة، القطاع النقابي لجماعة العدل والإحسان دعمه للإضراب العام من خلال بيان جاء بعد اجتماعٍ لمكتبه القطري الذي برر هذا الموقف بكون الإضراب العام يمثل شكلا «من أشكال المقاومة السلمية والحضارية دفاعا عن حقوق الأجيال الحالية والقادمة». ورغم هذه المحطات المهمة فإن صناع القرار ظلوا مصرّين على تنزيل الإصلاحات الاجتماعية المؤلمة.
وفيما يتعلق بالوحدة النقابية المعلن عنها، فقد تجنبت النقابات المتقاربة شروط التحول إلى هذه الوحدة، من قبيل: الانفتاح على مختلف الفعاليات النقابية؛ الاتفاق على أرضية مشتركة تشكل موقفا موحدا من السياسات العمومية المتبعة في البلاد؛ وضع ميثاق بين أطراف التنسيق لضمان الالتزام وتحمل المسؤولية في مختلف المحطات النضالية؛ انتخاب هيئة وطنية لمتابعة العمل الوحدوي؛ تطوير آليات الحكامة والديمقراطية الداخلية خاصة قبل اتخاذ القرارات المصيرية؛ تطوير بنيات العمل المشترك محليا وقطاعيا؛ التواصل مع القواعد والانفتاح على معاناة الشغيلة؛ تأسيس لجان محلية وجهوية للعمل الوحدوي.
التقارب أمام تناقضاته
صناع القرار السياسي كانت لديهم كذلك طبخة لكبح هذا الحلم الجميل، بعض توابلها متضمنة في ذاتية النقابات نفسها، من قبيل: الرفض واللامبالاة على مستوى الإطارات النقابية التحتية؛ تدني مستوى التعبئة العمالية بعوامل الشك والارتياب؛ دخول الأجندات السياسوية على الخط… ثم أخيرا، إمكانية تشتيت التقارب بعوامل التنافس النقابي والتمثيلي (الانتخابات المهنية نموذجا).
وهذا ما وقع بالفعل، حيث دخلت المركزيات النقابية “المتقاربة” في صراعات بَينيـّـة بسبب الانتخابات المهنية ثم التشريعية وكان من إفرازات هذا التدافع أن أعاد واقع “التنافس” ترتيب أولويات أحلام “الوحدة”.
استفاد الاتحاد المغربي للشغل من التصالح مع التوجه الديمقراطي فحقق تقدما في الانتخابات المهنية ثم استفاد من أصوات رفاق عبد الحميد أمين ومن أصوات المناديب المستقلين ليؤكد مركزه الأول في مجلس المستشارين ضمن هيئة ممثلي الأجراء. في الوقت الذي تراجع ترتيب الكونفدرالية الديمقراطية للشغل إلى المركز الثالث بعد نقابة العدالة والتنمية التي تقدمت على نقابة الأموي بنسبة الأصوات المُعبر عنها في انتخابات مجلس المستشارين… فيما بدأت تنمحي مركزية كان اسمها الفدرالية الديمقراطية للشغل.
الخلاصة
الملفات التي كانت محفزات للتقارب الثلاثي ما زالت قائمة وما زالت حكومة ابن كيران عازمة على “إصلاح” أنظمة التقاعد، وعلى تقنين الحق في الإضراب، وعلى تقديم العلاجات الضرورية لسوء تدبير الصناديق الاجتماعية من جيوب المأجورين أنفسهم، وعلى تخريب المرفق العام لكي تنتعش المشاريع الخاصة في التعليم والصحة والطاقة… كل ذلك سيقع من دون أن يتمكن الحقل النقابي من تحريك سواكن القرارات السياسية.
سيبقى هناك تحدي أخير، مؤشر نهائي لكي يُعلن رسميا عن تبدّد حلم الوحدة النقابية.. هل ستتمكن نقابات التنسيق الثلاثي من تجميع مستشاريها في فريق برلماني واحد داخل مجلس المستشارين؟ أم ستتشبث بأدنى نصاب لتكوين الفرق والمجموعات لكي تكون لكن نقابة مجموعة برلمانية!
هل ستتمكن القيادات النقابية في الصف الثاني من مساءلة مكاتبهم الوطنية عن قيمة “الوفاء بالتزاماتهم” التي عبروا عنها في 29 يناير 2014؟