التوازن بين الشاشة والكتاب: نحو تربية معرفية متوازنة داخل الأسرة

Cover Image for التوازن بين الشاشة والكتاب: نحو تربية معرفية متوازنة داخل الأسرة
نشر بتاريخ

أصبحت الشاشات جزءاً أصيلاً من عالم أبنائنا، يتعلمون من خلالها، ويتواصلون ويستكشفون. ولكن الاعتماد المفرط عليها دون ضوابط قد يُضعف علاقتهم بالقراءة العميقة، ويقلل من قدرتهم على التركيز والتحليل. وهنا يبرز دور الأسرة في تحقيق توازن واعٍ يحفظ للطفل حقه في المعرفة، مع حماية بنيته النفسية والعقلية.

ويوفّر الإطار الأخلاقي الإسلامي مرجعاً تربوياً غنياً بالدلالات كما جاء في قوله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا 1. تشير الآية الكريمة إلى ضرورة استخدام متاع الدنيا بحكمة، دون إفراط أو تفريط. فالكتاب والشاشة وسيلتان للمعرفة، وحسن التقدير الأسري يحدد أثر كل منهما على نمو الطفل المعرفي والنفسي.

أولاً: الكتاب.. بناء التركيز وتربية العقول

تعتبر القراءة الورقية أكثر من مجرد تلقي المعلومات؛ فهي تدريب تدريجي للعقل على:

·  الصبر على استيعاب المحتوى.

·  التفكير المتسلسل.

·  التحليل والنقد.

·  التأمل الهادئ بعيداً عن التشويش الرقمي.

والأمة التي تُهمل الكتاب تُهمل جذورها الثقافية وعمقها العلمي.

ثانياً: الشاشة.. وسيلة العصر ومجال للتعلم السريع

القراءة عبر الشاشة ليست مشكلة في حد ذاتها، بل قد تكون نافعة للغاية باعتبارها وسيلة فعّالة للوصول إلى المعرفة، إذ توفر:

·  الوصول لمصادر واسعة ومتنوعة.

·  التعلم البصري والسمعي الملائم للجيل الحالي.

·  تسهيل البحث والمراجعة والفهم.

لكن الخطر يكمن في:

·  السرعة المفرطة التي تقلل من عمق الفهم.

·  الإدمان على التنقل من معلومة لأخرى دون تثبيت.

·  تشتيت الانتباه بسبب الإشعارات والمحتوى المتنوع.

ثالثاً: كيف نعرف أن التوازن غائب؟ (علامات مبكرة)

يمكن التعرف على غياب التوازن من خلال ظهور مؤشرات سلوكية ومعرفية على الطفل أو المراهق، منها:

·  عزوف عن القراءة الورقية تماماً.

·  نفاد سريع للصبر عند قراءة نص طويل.
·  اعتماد كلي على تلخيصات أو مقاطع قصيرة.
·  صعوبة في تذكر المعلومات على المدى البعيد.
هذه علامات لا تدعو للقلق المبالغ فيه، لكنها تنبيه تربوي لضرورة تدخل الأسرة بشكل واعٍ ومدروس.

رابعاً: دور الأسرة في إعادة بناء التوازن

لتحقيق توازن صحي بين الكتاب والشاشة، يمكن للأسرة البدء بخطوات بسيطة:

1. تنظيم وقت الشاشة

تحديد مدة زمنية واضحة للاستخدام التعليمي والترفيهي للأجهزة الرقمية، مع مراعاة تجنب الشاشات قبل النوم.

2. إحياء عادة القراءة المنزلية

تشجيع الطفل على ممارسة القراءة اليومية لفترات قصيرة، حتى لو كانت عشر دقائق يومياً قبل النوم، فهي تُحدث فرقاً حقيقياً.

3. القدوة العملية

يُعدّ قيام الوالدين بالقراءة أمام الطفل بشكل منتظم واستمتاعهم بها نموذجاً سلوكياً يُعزز حب القراءة والمثابرة لديه، فحين يرى الطفل أحد والديه يقرأ باستمتاع… يتعلم تلقائياً.

4. توفير مكتبة منزلية صغيرة

ليس شرطاً أن تكون المكتبة ضخمة، الأهم أن تكون جذّابة ومتجددة، وتشمل مجموعة متنوعة من الكتب تناسب اهتمامات الطفل وتغذي فضوله المعرفي.

5. دمج الكتاب مع الشاشة بدلاً من وضعهما في صراع

يمكن الاستفادة من مزايا كل وسيلة معرفية من خلال دمجهما، مثل:

·  مشاهدة وثائقي حول موضوع ثم قراءة كتاب مبسط عنه.

·  البحث الرقمي لتعزيز فهم ما قُرئ في كتاب.
خامساً: أهمية التوازن بين القراءة والشاشة

يسهم تحقيق التوازن بين الكتاب والشاشة في تعزيز النمو المعرفي والنفسي للطفل، ويترتب عليه مجموعة من الفوائد الأساسية، من أبرزها:

·  ترسيخ هوية معرفية أصيلة، إذ يتيح للطفل تأسيس قاعدة معرفية متينة تجمع بين الثقافة التقليدية والمهارات الرقمية الحديثة.

·  تطوير مهارات التفكير النقدي والتحليل العميق من خلال مزج أساليب التعلم الورقي مع الوسائل الرقمية، ما يعزز القدرة على تقييم المعلومات ومقارنتها.
·  الحد من الاعتماد السلبي على التقنية الرقمية، إذ يعلّم الطفل استخدام الشاشات بشكل واعٍ ومدروس، دون أن تتحكم في سلوكه أو أسلوب تفكيره.
·  بناء شخصية مستقلة قادرة على الاختيار الواعي، حيث يكتسب الطفل القدرة على الموازنة بين مصادر المعرفة المختلفة واتخاذ قرارات مدروسة بشأن وقت التعلم والترفيه.
خاتمة

لا يُعتبر الاعتماد على الشاشات تهديداً يجب إقصاؤه، كما أن الكتاب ليس وسيلة قديمة يجب التخلي عنها. فالشاشة والكتاب وسيلتان تكمل كل منهما الأخرى عند الاستخدام الحكيم والمتوازن. إنهما أداتان إذا اجتمعتا بحكمة، أنجبتا جيلاً متوازناً: يفكّر بعمق، يبحث بوعي ويحيا بثقة في قيمه وهويته.


[1] القصص: 77