التقت فئات واسعة من نساء الحي الجديد لتوديع “مي فاطمة” إلى مثواها الأخير بعد أن وافتها المنية في أولى ليالي رمضان الأبرك، كان الجو العام مكفهرا ينبئ بحزن عظيم يعتصر الأفئدة المتيمة بالفقيدة الغالية، دموع تسيل بغزارة من المقل المحْمَرّة من شدة البكاء ونقص النوم الذي أبى أن يداعب جفونا ترثي الحبيبة الفقيدة.
جلس الأحباب والأقارب يترقبون الوداع الأخير بعد مراسيم التغسيل، لو لم يكن الأمر تعبديا لما احتاجت مي فاطمة للتنظيف؛ فقد كانت طاهرة المعنى والمبنى، بقلبها النقي الصفي الذي يستوعب كل نساء الحي، فهي حضنهن الدافئ وملاذهن الجميل من الخطوب والمدلهمات، تنصح وتوجه، تكرم وتعطي عطاء من لا يخشى الفقر، بيتها مفتوح للأرامل، وقبلة الأيامى والمشتكيات من ظلم الأزواج ومشاكل الأولاد، كان بيتها ملتقى ظليلا لذوات الحاجات، لمِا يجدن عندها من العقل الراجح وسكينة المؤمنات، وحكمة من صقلتهن تجارب السنين.
كانت “مي فاطمة” صغيرة الحجم كبيرة المعنى، يجلب هدوؤها الأنظار إليها كما يأسر القلوب، تأيمت منذ زمن بعيد من زوجها “سيدي محمد” الذي كان يعظمها ويقدرها ولا يناديها إلا بـ”لالا الشريفة”، كانت تبادله الحب والتقدير والاحترام، غادر باكرا دنيا الناس فأخلصت لذكراه، وأبت أن تدخل على أولادها الصغار رجلا غريبا وإن تعدد خُطابها. ربت مُهَج الفؤاد على المبادئ الراقية، وغرست فيهم حب الخير، وتقدير الغير، والسعي في المعروف، فشبوا نموذجا للفضل، شامات بين أولاد الجيران في العلم والحلم والاستقامة.
كانت “مي فاطمة” مدبرة بيت رائعة، وأما رحيمة حازمة، وصفات طعامها اللذيذ تجوب آفاق مطابخ نساء الحي، و”تاويلها” محط تقدير وتقليد منهن بلا استثناء، فتحت ورشا في بيتها لتعليم الحياكة والدرازة والخياطة وصناعة الحلوى، فتخرجت منه كثيرات جعلن من هذه الفنون صنعة يُدارين بها قسوة الحياة، أو شح مداخيل الأزواج.
تعلمهن فنون التدبير المنزلي، وتمحو معها أميتهن الأبجدية والفقهية، فقه تعلمته من بيئتها العالمة المحتضنة، فقد كان والدها من علماء القرويين الأفذاذ، يجلس إلى كرسيه طلبة العلم للنّهل من فقه الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه.
ظلت القلوب متشوفة للوداع الأخير، والألسن منشغلة بذكر محامد امرأة جمعت حولها القلوب، بطبعها الهادئ ولسانها الذي لا ينطق إلا شهدا، وتُؤدتها التي تشعر الجالس إليها أنه أمام طود عظيم، أمام جبل راس من الحكمة والرزانة والجمال.
وقفت ابنتها الكبرى الزهراء تلقي وصية الغالية ورغبتها الأخيرة بصوت يضفي معاني إضافية على الكلمات: “إنا لله وإنا إليه راجعون، لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده سبحانه في كتاب، ليس أحب إلينا من أمنا الفقيدة، فقد كانت وكانت وكانت مما يعلمه صغيركم قبل كبيركم، رجالكم ونساؤكم، شيبكم وشبابكم، لكن وصيتها للأهل والأحباب من الأقرباء والقريبات والجيران وسائر الجارات وهي على فراش العافية ألا تبكوها، بل اذكروها بخير وملائكة الرحمن يشهدون، عساها تنال عند الله شفاعة، أنْ تترحّموا عليها وأن تدعوا لها كما تدعون لموتاكم وسائر موتى المسلمين، تعلمكم أنها تحبكم جميعا و”المرء مع من أحب”، وأنها ترجو الله الكريم أن تكونوا لها خير جوار في الآخرة كما كنتم لها خير جوار في الدنيا، وتذكركم أن الموت انتقال من دار إلى دار، وأن عند الله القرار، وأن الصلة لا تمنعها برازخ الموت، وأن الموعد الله، فأروها من أنفسكم خيرا، وأن تدرجوها ضمن سلسلة النور وأنتم تدعون لصالحي الأمة وصالحاتها، لعل ربنا المنان يجعلها في زمرتهم، ويحشرها في معيتهم، في مقعد صدق ومستقر فضل”.
سالت أعين الناس تأثرا بكلمات الزهراء التي كانت شبيهة أمها الفقيدة، وقالت جليلة الجارة القريبة شاهدة قاصدة: “إذا كان الناس يوزنون بالفضة، فمي فاطمة توزن بمثاقيل الذهب، عاشرتها لسنين زوجة لابنها الأوحد، فما سمعتها تنطق إلا خيرا، ولا تعمل إلا برا، ترحم ضعفي، وتحفظ سري، وتصون غيبتي، وتقتص لي من ابنها إن جئتها شاكية من تقصير ولو صغير، تداوي الجراح الظاهرة والغائرة”.
التقطت الكلمة جارتها الندية، وقالت راثية: “مي فاطمة، وهل هناك خير من مي فاطمة، بلسما كانت لكل نساء الحي، تطعم الفقيرة، وتوجه المخطئة، وتواسي الحزينة، وتعين على نوائب الدهر، هي أمي بعد أمي، ومعلمتي لما أنا عليه من الخير”.
أما راضية، فكانت الجارة الغريبة عن المدينة، أخذت الكلمة بصوت تستوقف همساته المتحشرجة: “كانت مي فاطمة بلسم جراحات نفسي المنكسرة وقد وعيت على نفسي وحيدة في هذه الحياة الغريبة، بلا أم عشت وبلا سند الأب المتوفيان في حادث سير، وفقدت الزوج بعد ولادتي الثالثة بيسير، ضاقت بي الدنيا بما رحبت، واعتقدت أن لن تحلو لي الحياة ولن أبتسم لها ولو بعد حين، احتضنت “مي فاطمة” ضعفي، واستوعبت حاجتي للدعم والمساندة، فكانت لا تكاد تفارقني، تكفلت بعيالي، والتزمت بمؤازرتي، قاسمتني اللقمة، وعلمتني صنعة حمتني من عوادي الفاقة وذل الاحتياج، وها أنا ذي أفقد أمي التي عوضتني عن أمي، مدينة أنا لها باستمرار وجودي”.
سمع للجمع أنين خافت خفي عملا بوصية الحبيبة الفقيدة، وارتفعت الأصوات مؤمّنة على دعاء إمام مسجد الحي الذي ذكر تبتلها الدائم وخدمتها للمسجد ورواده، وإكرامها لحفظة كتاب الله تعالى من الصغار والكبار، الذين كانت تتعاهدهم بالخدمة كما كانت تتعاهدهم بالعطاء بلا منّ ولا أذى.
قرب أذان صلاة الظهر، فتسابق الحاضرون إلى شرف حمل النعش المبارك، ليوارى بعد ذلك الجسد الطيب في مقبرة “القباب” بباب الفتوح بعد صلاة جنازة مهيبة حضرتها الحشود.
يموت البشر ويبقى الأثر، والتحقت “مي فاطمة” بربها، لكن بصمات حياتها الحافلة بالعطاء ظلت شاهدة على علو همتها، وأصالة معدنها، ونقاء سريرتها، مما جعلها تعيش لربها وبربها، تنثر الحب على محيطها، وتخدم الخلق عيال الله بما تستطيع، ولا تأل جهدا في تحقيق الفاعلية الإيجابية.
ظلت الألسنة إلى الله لاهجة أن يكرم الفقيدة الحبيبة اللبيبة بخير مستقر في أعلى الجنان، وأن يقابلها الحنان المنان بعفو ورحمة وإحسان.