تحل ذكرى الإسراء والمعراج فتشعر كأنها تستدعيك لتعاين عن قرب بعض المعاني التي تكشف عن نفسها مع توالي التأمل في هذا اللقاء العلوي عالي المعاني.
الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه مطلوب على وجه الشوق ضيفا على حضرة جنابه القدسي، ترى إذا استدعى الملوك ضيوفهم كيف يفعلون؟
أثار قلبي في هذه الاستضافة عدة أمور:
– سيدنا جبريل عليه السلام: هو أعظم ملائكة الرحمن قدرا، وأعلاهم منزلة، وأجملهم هيئة. فكأنما يعلمنا الله إذا ما وددنا استضافة أحد أن نرسل في طلبه أقرب الناس إلى قلوبنا ممن تأنس به الروح وترتاح له العين وتفرح به دواخلنا. جمال الإعداد القلبي لحضرة جنابه الشريف حتى يستأنس بمن لا أنس باق غير أنسه، وهو الذي استوحش وحزن للفقد وتألم حد رفع الدعاء طالبا المدد والسند.
ثم إن سيدنا جبريل عليه السلام وهو في حضرة الموقف يخاطب أعز مخلوق للخالق. لك أن تتخيل لغة الكلام وهي تتشرف بالإفصاح عن نفسها من جمال التعظيم والإجلال، ومنها التشويق وسوق الفرح قبل الانطلاق؛ فالكل يا سيدي يا رسول الله صلوات ربي وسلامه عليك في أعالي السماوات ينتظرون والفرح لباسهم أن تطأ قدمك الشريفة بساط الملكوت. فليعجل الحبيب بالسفر فإن في الملأ الأعلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وأنت يا محب؛ من جبريلك الذي شوقك لدخول الرحاب وزين لك السلوك إليه؟ من خرج بك من بئر نفسك وأنقذك من طائف هواك؟ من أجلسك تحت ميزاب رحمته حتى تستعيد أنفاسك ثم تنطلق وقد عرفت وجهتك وجددت همتك واستغنيت بالله عمن سواه؟
– البراق: لماذا البراق؟ إنه أخص الرواحل وأجملها بل أسرعها لأعظم ضيف وأجمل محبوب، فإن الشوق يطوي الطريق، ومن اشتاق لا يعتق شوقَه إلا الوصالُ، غير أنه لا ينطفئ.
إذا استضافك ملك الملوك كفاك هم الطريق وجعل لك في سيرك مركبا يقطع بك المسافات. وما براقك يا محب إلا شوقك الرابض في قلبك، أطلق قيده حتى تنفتح لك السعادة وتفرح بك السماوات والأرض، فإن الروح تغالب الجسد وما النصر إلا من عند الله.
– الليل: زمن الخصوصية والابتعاد عن مرائي الناس. في الليل تنقدح الأشواق وتهفو الروح إلى الخروج من قفص الجسد، شيء ما في داخلك يجعلك تود الخروج منك.
في الليل تتجافى الجنوب عن المضاجع لما يحرقها من الشوق. ركعتان من ركعات الحب كفيلتان بأن تسريا بك إلى مبتدأ الطريق الحق. فكل حركات الدنيا ما هي إلا مقدمات لأجمل النهايات. ركعتان من جوف الليل تخطوان بك على مد البصر حتى تجد معراجك، فما تبحث عنه يبحث عنك، وعندما يحين موعدك فاعلم أن في السماء مجامع تنتظرك ومحافل قد نصبت لك خصيصا.
فلا تفرطن في سكن الليل وسكينته وقلب صفحات قلبك، واعرضها على الباري المصور ليزج بك في أنوار جماله وسر كماله وفيض عطائه.
– العروج: أما البراق فلليل الأحباب وأما المعراج فخارج الزمان والمكان.
ثم ها هو ذا الحبيب المصطفى يمتطي أجنحة الملائكة من سماء إلى سماء حتى حمله سيدنا جبريل، وكل كان يحمله بمقدار نوره فلما انتهى بالمَلَك المنتهى؛ تحركت الأشواق الملتهبة في قلب الحبيب، اللحظة العظمى تقترب والدخول على رب العزة يقتضي التخلص من الأغيار، يقتضي قلبا بجناح المحبة يطير، يقتضي نورا يعلو بك ويحول ليلك نهارا سرمديا.
أعز ضيف في أبهى مكان دليل التقريب الذي لا تقريب سبقه. اختصه الله جل جلاله بما لا يسع العقلَ أن يفكر فيه فضلا عن أن يتجاوز الأدب ويصفه.
كأنما يعلمنا الله سبحانه وتعالى وهو العلي في عليائه أن الضيف الحبيب لا يليق به إلا الجمال حيثما كان.
– فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى: زج سيدنا جبريل عليه السلام بجناب الحبيب المصطفى في الحضرة القدسية وتخطى حجب النور، ثم ها هو ذا الحبيب المصطفى يشهد جمال قدسه العظيم فما زاغ البصر وما طغى، ثم أوحى إليه ما أوحى.
تتوقف العبارات وتأبى أن تنتظم هنا لتحبك جميل الوصف وتنقل حقيقة الأنس؛ بأجمل المخاطبات يتودد الله الودود لضيفه، وبمنتهى الأدب يغض الضيف بصره الشريف.
يعلمنا الله عز وجل أن نحسن الحديث لمن اختارتهم قلوبنا ليحلوا عليها ضيوفا، وفي الوقت نفسه علمنا أن نتزين بالحياء ولا نمد أعيننا ونحن في رحاب المضيف وقد زج بنا في داخل بيته وأشركنا خصوصيته.
في ضيافة الرحمان تنبهر العقول وتنفتح القلوب، وفي بحر أحديته تسبح الأرواح، وفي سماء حبه ترابط الكلمات وتتناهى العبارات وتنجلي الإشارات.
لا حدود للجمال، والكمال فوق الوصف والخيال.
ويتمجد الله ذو الجلال ويفرح سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.
لكل منا معراجه الخاص به، وموعد ضيافة كبير يقلب ما بعده إلى غير ما كان عليه من قبل؛ تتضح الرؤيا وتتسع المدارك وتنفتح نوافذ الروح وتشرق الحقيقة في قلبك وتحيا لأجل يوم لا يسعك فيه إلا الكينونة مع الله عز وجل.