الحرب على فلسطين عامة، وغزة العزة خصوصا، نقطة مفصلية في مسار التحول التاريخي للصراع بين إرادة التحرر للأمة الإسلامية والشعوب المستضعفة وإرادات الاستعمار للكيان الصهيوني الغاصب وللاستكبار الداعم من ورائه بقضه وقضيضه المستولى عليهما من خيرات العالم بقوة الظلم وجبروت السيف وسنوات المكر والخداع داخل أقبية صناعة “الحضارة” وتصديرها لـ “الأمم” المتخلفة في زعم “السادة” المتنورين.
سقوط الأقنعة
غزة العزة الآن، وبالأمس، وغدا، هي الفاضحة الكاشفة الواضحة المسقطة للأقنعة عن:
- الهوس الممجد، والإعلاء المقدس للخطاب القيمي العالمي؛ لتظهر عورة الهوة السحيقة بين الكلام والفعل، وبين الخطاب والممارسة، ولتقف غزة العزة منتصبة تسائل الضمير العالمي عن عهوده الدولية المتغنية بحقوق الإنسان، وليظهر للعالم أجمع عيانا بيانا أن “الفلسطيني” ليس داخلا في مسمى “الإنسان”، وليس مدرجا ضمن معنى “الإنسانية”.
- الصورة “الحضارية” للدول الكبرى في العالم التي تداعت لتنصر بالمال والعتاد “الدويلة” المغتصِبة على غزة المغصوبة؛ فتنكشف بالتالي الحقيقة الاستكبارية الإجرامية للقوى العالمية التي تضرب عرض الحائط القوانين الدولية كلما تعلق الأمر بمصالحها ومصالح حلفائها، بل ولتبارك وتشارك من دون أن يطرف لها عين في جريمة الإبادة الجماعية والتقتيل الممنهج للمدنيين.
- حقيقة حكام العرب والمسلمين في العالم، وحقيقة التضامن العربي الإسلامي الرسمي، وواقع الحذلان والذلة للقائمين الماسكين بزمام رقاب العرب والمسلمين؛ فغزة القتيلة المبادة دليل واضح لمن مازال في قلبه ذرة شك أن مصيبتنا في حكام العض والجبر. هؤلاء الذين يكدسون سلاحا اشتروه من غصب قوت العباد لا ليوجهوه قبلة العدو السفاك إنما ليوم الشدة عندما تعلو هامة أو يلوح صوت يتوق للحرية والكرامة، ولعل في سكون وسكوت واندحار الحاكم “الصوري” للضفة المحتلة أكبر نموذج للقائد الهمام المكلل بالخزي والخذلان والعار.
- معنى ومبنى “الدولة” الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط؛ فإلى جانب الهزة القوية التي هزمت “القوة” التي لا تقهر، وأرغمت أنف “الأسطورة” التي لا تهزم أسقطت غزة العزة القناع عن سطوة “المعجم الأخلاقي” الموظف سلاحا ضد “البربري الهمجي الإرهابي”. ليظهر “الإرهابيون الحقيقيون”، القتلة المجرمون، الذين لم يتورعوا عن قتل الأطفال والنساء والرجال الأبرياء العزل عراة من كل ما يستر حقيقتهم الدموية الأبدية.
- الدعاية الإعلامية المبشرة بخيرات التطبيع مع الكيان الصهيوني؛ ففضحت غزة العزة كل ادعاءات إمكانات السلام والتسامح والعيش المشترك مع الطغيان الصهيوني، وكشفت أوهام التنمية الاقتصادية والعلمية التي يمكن أن ينعم بها اللاهثون وراء إرضاء العدو المجرم. وعلى حين غرة فرح المطبعين بسياساتهم التطبيعية، جاءت السابع من أكتوبر فنسفت الآمال، وهدت الأحلام في أن يرجى خير كيف ما كان من قوم تاريخهم القتل، وجغرافيتهم السلب، ونهجهم النهب، ولغتهم السفك والحرب.
- مفاهيم توازن القوة وإدارة المعارك، ومعايير الانتصار والهزيمة؛ ذلك أن فلسطين المقهورة منذ أكثر من سبعين سنة، وغزة المحاصرة في قطاع ضيق هزمت “العدو المحتل” معنويا بما أضاعت من هيبته يوم دخلت المقاومة عقر البيت المحتل رغم ترسانة جواسيسه الذكية، وماديا بما أذاقته من تنكيل في الأرواح والعتاد، ليتأكد أن الإيمان بالله، وإرادة التحرر، والتعلق بعدالة القضية، وإحكام أسباب القوة لهي العوامل الحاسمة في أي نزال بين الحق والباطل.
فلتشرع الأشرعة
إن أسقطت غزة العزة الأقنعة عن الإنسانيات، والخطابات، والحضارات، والديموقراطيات، والشعارات، والدعايات، فقد أسقطتها أيضا عن الوعي الزائف الذي يريد للأمة أن تدخل نفق القعود المنحبس في أبواق الشكوى العاجزة دون الدخول على العدو من بوابة الأفعال الناجزة، وهو ما يعني هنا أن تشرع الأشرعة نحو أفق ممتد نحو التحرر العام للمستضعفين من سطوة المستكبرين. وهنا أربعة قواعد توجه أشرعة سفينة الصحوة الناهضة لمجابة الجرثومة الصهيونية التي تسكن العالم وتستبيح أعراض العالمين:
- الألم المطمئن: ألم بما يقع في فلسطين، بما هو تهمم ديني بقضايا الأمة التي نحن منها، وبما هو توجع وتفجع وواجب إنساني يفري قلب كل ذي ضمير حي. لكن باطمئنان القلب المؤمن بقدر الله عز وجل الذي يفعل في ملكه ما يشاء حكمة وابتلاء وتمحيصا واصطفاء، وبما هو تصديق بموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وعد بنصر المؤمنين على اليهود الغاصبين. فبألم متسام وقلب مطمئن نقبل سنة الله في كونه وعباده من دون تبرم أو هوان. وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ، إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ، وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( النساء/ 104) .
- الوعي الباني: إذ لا بد من الاشتغال بمعركة بناء الوعي السليم العارف لمجريات الصراع التاريخي بيننا وبين اليهود المغتصبين؛ فصراعنا صراع وجود عقدي لا مجرد صراع حدود الأرض والطين، وفلسطين مهبط الوحي، وأرض المسجد الأقصى. وفي الوقت نفسه لا بد من مجابهة دسائس تجريف واختراق الوعي العام للأمة الذي يتلبس بهذا التطبيع الشيطاني المتسلل إلى مختلف مجالات الحياة خاصة في التعليم والثقافة والإعلام والفلاحة والسياحة بل والمؤسسات الدينية.
- الفعل الناجز: فعوض الغرق والانغماس في متابعة الإعلام الذي يصنع في معظمه على أعين الخبراء الخبثاء، وعوض الوقوع تحت سيطرة ردود الفعل الخائبة، لا بد من جهاد البناء القائم على الحضور مع الشعب، وتربية الشعب، والانخراط الباذل مع كل القوى المجتمعية في مختلف أشكال التوعية والتضامن مع الشعب الفلسطيني بالكلمة، والحركة، والكتابة، والإبداع، والاحتجاج لأن ذلك يضمن بقاء وهج القضية في القلوب والعقول، ويسمح بانبعاث الإرادة واستدامة الفاعلية التي تقف ضد مخططات التدجين والتطبيع العلنية والسرية.
- الحضور مع الله: وإنما أخرنا الحديث عن هذه القاعدة لأنها الأساس المتين، والحصن المكين للجهد البشري والفعل الإنساني في منظورنا العقدي الإيماني الإسلامي، ومن ظن أن بطولات المقاومة في فلسطين ضد الكيان الغاشم هي من نتائج الحيلة البشرية فهو واهم، لأن موازين القوة غير متكافئة ألبتة، ولأن التكالب العالمي، وخذلان الأخ والصديق ظاهر قوي، وضعف العدة والعتاد المادي بين، فكيف لمن هذا حاله أن يقف في وجه السطوة والجبروت الصهيوني المدعوم بمطرقة الصديق الغالب وسندان خذلان الأخ الخائف المهرول إن لم يكن له عون من الله، وتوكل عليه. لذا يكون توزيننا للعامل الذاتي للإنسان الواقف على باب الله ذكرا وتبتلا ودعاء واستنصارا حاسما في أي عملية تريد تغيير ما بالناس لما يتغير ما بحامل مشروع التحرر.
إن غزة العزة المسقطة للأقنعة عن ظلم الظالمين للإنسان والإنسانية، الرافعة لأشرعة التحرر من ذل الاستعمار والاستكبار لهي بوابة البشارات- رغم الألم النازف- للأمل الآزف الواعد بنصرة الله للمستضعفين متى تحرروا من داء الأمم ومن غثائية السيل الناجمة عن الوهن: حب الدنيا وكراهية الموت.