منذ اندلاع الصراع مع المشروع الغربي الصهيوني على أرض فلسطين من بدايات القرن الماضي تعددت أشكال المقاومة التي خاضها شعبنا وأمتنا ضد هذا المشروع والكيان الذي انبثق عنه.
وعبر مراحل النضال الفلسطيني المختلفة، ومنذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، سيطر مفهوم “الكفاح المسلح” باعتباره الطريق الوحيد للتحرير، على برامج وخطاب معظم الفصائل الفلسطينية، واحتل العمل الفدائي ضد الاحتلال الصدارة في أشكال النضال الفلسطيني. وبرغم الدور البارز والمبكر الذي لعبته القيادات والزعامات الإسلامية في تاريخ النضال الفلسطيني، سواء على صعيد الجهاد المسلح، (حركة الشيخ عز الدين القسام) أو القيادة السياسية (الحاج أمين الحسيني) إلا أن الحركة الإسلامية المعاصرة في فلسطين لم تكن تدرج ضمن فصائل الثورة الفلسطينية المعاصرة، حيث لم تنخرط في الكفاح المسلح ضد العدو الصهيوني لأسباب ذاتية وموضوعية، حتى منتصف الثمانينات حين برز دور “الجهاد الإسلامي” منذ ذلك التاريخ، وأخذ يتبلور كتنظيم مقاتل في الساحة الفلسطينية.
كان السادس من أكتوبر / تشرين 1987 نقطة تحول بارزة في تاريخ الكفاح المسلح الفلسطيني، وتاريخ الحركة الإسلامية في فلسطين، عندما خاض مجاهدو حركة الجهاد الإسلامي اشتباكاً مسلحاً مع قوات الاحتلال الصهيوني عُرف فيما بعد بـ “معركة الشجاعية” التي كانت أحد أهم العوامل المبكرة التي أشعلت الانتفاضة الأولى.
في الانتفاضة الأولى برز دور الحركة الإسلامية الفلسطينية ممثلاً في حركتي الجهاد الإسلامي وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي تأسست بعد انطلاقة الانتفاضة. لقد قطفت الحركة الإسلامية من الانتفاضة ثمار التحول الشعبي العارم في المنطقة، وفي الساحة الفلسطينية نحو الإسلام، إلا أنها لم تستطع أن تطرح برنامجاً إسلامياً ثورياً يستوعب طاقات الشعب وقواه، ولم تقدم خطة شاملة لتحويل الانتفاضة إلى حالة نهوض شاملة توصل للتحرير.
وعندما بدأت شعلة الانتفاضة تخبو، وبدا المناخ العام يسير في غير صالح استمرارها، وأخذ العدو وحلفاؤه يدفعون الشعب الفلسطيني إلى الإحساس بعدم جدوى النضال وأن الانتفاضة التي بدت وكأنها الطلقة الأخيرة في جعبة الشعب الفلسطيني، لم تحقق شيئاً، في ظل هذه الظروف اندفعت حركة الجهاد الإسلامي كعادتها لكسر الطوق عن عنق الشعب، وأخذت زمام المبادرة بالعمليات الاستشهادية والعمل الجهادي المسلح، الذي وصل هذه المرة إلى عمق الكيان الصهيوني، وسرعان ما انضمت حركة حماس إلى الركب لتسجل الحركة الإسلامية حضوراً نوعياً ومميزاً في ساحة الكفاح المسلح ولتحدث توازناً غير مسبوق في ميزان الرعب في الصراع مع العدو الصهيوني.
أحدث بروز الدور الإسلامي في الانتفاضة، ومن ثم في الكفاح المسلح والعمليات الاستشهادية، حالة من الفزع لدى قادة العدو الصهيوني، حاولوا تصديرها إلى قيادة منظمة التحرير في الساحة الفلسطينية فأطلقوا فزّاعة البديل الإسلامي للمنظمة وللمشروع الوطني الذي تعبر عنه، ونجحوا من خلال تلك الفزاعة اصطياد قيادة منظمة التحرير في شرك التسوية فجرى توقيع اتفاق “أوسلو” المشؤوم في أيلول / سبتمبر 1993.
مثل اتفاق أوسلو وما أفرزه على الأرض انقلاباً حقيقياً في تاريخ الشعب الفلسطيني. انقلاباً حاول نسف أسس وثوابت النضال الفلسطيني وأخطر من ذلك نسف أسس الوعي الفلسطيني للقضية والصراع مع العدو.
وعلى مدار أكثر من سبع سنوات عجاف حاولت أطراف أوسلو تجفيف كل الينابيع الجهادية في الشعب الفلسطيني، ودخلت الحركة الإسلامية طوراً من المحنة والابتلاء الحقيقي الذي أسفر تقريباً عن تكسير بنيتها العسكرية وفقدانها لمعظم إمكاناتها الجهادية مادياً وبشرياً، بل إن الروح المعنوية لدى قطاعات واسعة من أبناء الحركة الإسلامية سجلت انخفاضاً ملحوظاً وصل أدنى نقطة له بدرجات عالية من التشاؤم والإحباط وربما اليأس!
بيد أن انتصار المقاومة الإسلامية وهزيمة الجيش الصهيوني النكراء في جنوب لبنان، ثم انسداد أفق التسوية بعد فشل قمة كامب ديفيد بين السلطة الفلسطينية وحكومة باراك الصهيونية، فتحا نافذة جديدة من الأمل للشعب الفلسطيني بالعودة إلى خيار الانتفاضة والمقاومة الأمر الذي أشعل شرارته دخول شارون محمياً بقوات الاحتلال إلى ساحة الحرم القدسي الشريف في أواخر أيلول / سبتمبر الماضي.
أعادت “انتفاضة الأقصى” إلى الأذهان صورة وحقيقة الشعب الفلسطيني كشعب مكافح لديه درجة عالية من الاستعداد للتضحية، ويسكنه إصرار غير عادي على مواصلة الكفاح من أجل تحرير أرضه واسترداد حقوقه في وطنه.
كشفت الانتفاضة الكثير من العبر والدروس لكل قوى الشعب الفلسطيني والأمة، الأمر الذي يحتم على الجميع إجراء مراجعة شاملة لمجمل الوضع الفلسطيني وخيارات الشعب وأدوات نضاله وآفاق وأهداف هذا النضال في ظل الظرف الراهن، الذي يتسم بدرجة عالية من الحساسية والتعقيد، نظراً لاستمرار الانتفاضة والمقاومة من جهة، وعدم تخلي السلطة الفلسطينية وحركة فتح عن عملية التسوية مع العدو الصهيوني من جهة أخرى.
وتبقى الحركة الإسلامية في طليعة القوى المطلوب منها إجراء مراجعة لمسيرة جهادها من حيث منطلقاته وآفاقه وأهدافه ووسائله وأدواته، كي لا تبقى الحركة محصورة في دائرة ردود الأفعال والموجات الموسمية والهبات الشعبية التي تجعل من جهادها نوعاً من “اغتنام الفرصة” أكثر منه “مبادرة بالفعل”.
ونحن بالطبع لا نستطيع إجراء هذه المراجعة في مثل هذه العجالة، لكن ثمة مسألة جوهرية تتعلق بجوهر وبنية الحركة الإسلامية ككيان سياسي جهادي في الساحة الفلسطينية لابد من مناقشتها.
قبل الحديث عن بنية الحركة الإسلامية لابد من الإشارة إلى أن الحركة الإسلامية في فلسطين شأنها شأن سائر الحركات الإسلامية في المنطقة والعالم عانت وبشكل ملموس من غياب التأصيل الإسلامي والمنهجي للمواقف والبرامج والخطط التي تطرحها الحركة الإسلامية. فعلى سبيل المثال، مازالت الحركة الإسلامية تعاني من عدم وضوح في الرؤية ينعكس في عدم وضوح الأهداف والخلط بين الغاية العليا للحركة وبين أهدافها الاستراتيجية وأهدافها المرحلية في فلسطين، إضافة إلى الارتجالية والتقلب في الخطاب بشأن الكثير من المفاهيم الأساسية المرتبطة بالقضية الفلسطينية.
فلو سألت قطاعات واسعة من أبناء حركتي الجهاد وحماس عن هدف الحركة الإسلامية في فلسطين، وليس غريباً أن تسمع إجابات من نوع “مرضاة الله” “تطبيق شرع الله في الأرض” “إعادة الخلافة الإسلامية”… إلخ. وكلها إجابات بريئة وصحيحة تتفق فيها كل الحركات الإسلامية أينما وجدت، لكنها لا تلحظ الخصوصية الفلسطينية ولا تجيب على السؤال الفلسطيني: ما هو هدف الحركة الإسلامية في فلسطين في ظل الاحتلال الصهيوني لها؟
وهذا السؤال بالطبع له إجابة واحدة هي: تحرير فلسطين كل فلسطين وتصفية الدولة اليهودية فيها.
إن وضوح الهدف في ذهن الحركة الإسلامية يتبعه حتماً وضوح الوسيلة. فهدف “التحرير” يتطلب الجهاد أو القتال كوسيلة، بينما الحديث عن “تطبيق شرع الله” يتطلب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… إلخ. وحين تفتقد الحركة الإسلامية التركيز في صياغة الهدف ليس غريباً أن تنجرف قطاعات واسعة منها باتجاه أنشطة إسلامية عامة تلهث بها خلف هدف “الخلافة الإسلامية” أو “إقامة دولة الإسلام” في خطاب مفصول عن الواقع الذي تعيشه الأمة، فلا يلحظ التجزئة المفروضة عليها بحراب الغرب، ولا يرى الخنجر المغروس في قلبها “إسرائيل”.
لماذا يحدث مثل هذا الخلل في الحركة الإسلامية؟
الإجابة بكل بساطة تتعلق بغياب التأصيل الذي تغيب معه أبسط الحقائق وأشهر الأحكام التي هي محل إجماع لدى الأمة. فالإجابة الإسلامية للمسألة تتطلب من الحركة الإسلامية طرح سلسلة من الأسئلة والإجابة عليها بوضوح ووعي مثل:
ما هو موقع فلسطين في الموقف الإسلامي استناداً للقرآن والتاريخ والواقع؟ ما هو موقف الإسلام تجاه فلسطين كأرض اقتطعت من دار الإسلام واحتلها الأجنبي؟
ما هي طبيعة المشروع الصهيوني وما هي مخاطره على الأمة؟ وما هو واجب الشعب الفلسطيني والأمة تجاه فلسطين وفي مواجهة المشروع الصهيوني؟ وما هي الطريقة التي يمكن بها استرداد فلسطين وتصفية الاحتلال الصهيوني لها؟
ليس الغرض من طرح هذه الأسئلة هنا هو تقديم إجابات مفصلة عليها، ولكنها مقدمة يجب أن تلتمس بها الحركة الإسلامية الإجابة الإسلامية على المسألة الفلسطينية أو بالأحرى الحكم الشرعي والتكليف الشرعي الذي يقع على عاتق الشعب والأمة جهة الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
المعروف أن الموقف الإسلامي، الذي عليه إجماع الأمة، من احتلال العدو الأجنبي لأي بلد من بلدان المسلمين هو وجوب القتال لدفع الاحتلال والعدوان. فالجهاد الدفاعي هو محل إجماع المسلمين، والقرآن الكريم حافل بالتوجيهات الربانية التي تحض على القتال دفعاً للعدوان والظلم الذي يتعرض له المسلمون مثل:
“وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين”؛ “يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار”؛ “فإن قاتلوكم قاقتلوهم”؛ “والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون”؛ “أُذن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقدير”؛ “واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم”.
فحكم الجهاد والقتال في فلسطين ليس محلاً للنقاش؛ فطالما وقع الاحتلال والعدوان على الأرض والشعب، فإن حكم الجهاد يصبح فرض عين على أهل البلاد التي احتلت “فتخرج المرأة بغير إذن وليها والعبد بغير إذن سيده وحتى الصبيان يخرجون للدفاع”، وإن لم تحصل بأهل البلد الكفاية لرد العدوان ودحر الاحتلال وجب القتال على من يليهم، ثم على من وراءهم ولو شمل الأمة كلها، وهكذا حتى تحصل الكفاية ويطرد العدو من أرض فلسطين.
في ضوء الموقف الإسلامي الواضح والحكم الشرعي القاطع في مسألة الاحتلال الأجنبي لأرض الإسلام والمسلمين، فإن أي حركة إسلامية جهادية في فلسطين لابد أن تراعي عدة نقاط أساسية يجب أن تشكل دليل عمل لها في نهوضها بواجب الجهاد:
أولاً: إن هدف تحرير فلسطين كأرض مغتصبة وتخليصها من براثن الاحتلال هو فريضة إسلامية وحكم شرعي يندرج تحت فرض العين، كما هو حكم الصلاة والصيام وبقية فروض الأعيان في الشريعة الإسلامية.
ثانياً: إن طبيعة العدوان والاحتلال الصهيوني لفلسطين، تؤكد أن وسيلة التحرير وتصفية الاحتلال لفلسطين هي القتال. وحكمه في حالة احتلال العدو لأرض المسلمين كما هو واقع في فلسطين، “فرض عين”، قال تعالى ﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم﴾. وقال: ﴿كتب عليكم القتال وهو كره لكم﴾.
وتعيين الوسيلة (القتال) كحكم شرعي وفرض عين يعني أنه لا يجوز للحركة الإسلامية الهروب للمعنى الواسع والمطاط للجهاد الذي يستند إلى الأساس اللغوي لكلمة جهاد، وتطرح بدائل مدنية للقتال تحت مسميات الجهاد التعليمي، أو الجهاد التربوي، أو الجهاد الإعلامي، أو الجهاد المالي أو غيره من العناوين التي لا تفي بالمعنى الاصطلاحي والفقهي لكلمة جهاد. قال القسطلاني في شرحه لصحيح البخاري “الجهاد في الاصطلاح يعني قتال الكفار لنصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله”. وقال صاحب البدائع: “أما الجهاد في عرف الشرع: يستعمل في بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله”.
ومثل تلك العناوين المتعددة التي يمكن أن تندرج تحت المعنى الواسع للجهاد كما هو حال الدعوة بالقرآن في قوله تعالى “وجاهدهم به جهاداً كبيراً”، يمكن أن تكون في خدمة القتال وليس بديلاً عنه.
ثالثاً: في ظل غياب الحاكم المسلم أو الإمام الذي يعلن النفير العام لخوض حرب التحرير، فإن فريضة القتال لا تسقط عن المسلم، وهي كما أسلفنا فرض عين لم يتعين على المسلمين بسبب وجود الإمام أو غيابه، بل تعين عليهم بوقوع العدوان على أرض المسلمين. وطالما أن الحركة الإسلامية تطرح نفسها كممثل للشرعية الإسلامية في غياب السلطة السياسية الإسلامية، وكمعبر عن ضمير الأمة وعقيدتها، فإن غياب الإمام أو الحاكم المسلم لا يعفي الحركة الإسلامية من مسؤولية الجهاد في فلسطين كما تزعم بعض الحركات الإسلامية، بل يحمّلها ويضع على عاتقها مسؤولية النهوض بواجب القتال، واستنفار وتعبئة جماهير الشعب والأمة لأداء هذه الفريضة.
وعليه، يصبح قيام الحركة الإسلامية بمهمة استنفار الجماهير وحشدهم للقتال واجباً شرعياً لا يجوز التخلف أو القعود عنه بأي ذريعة أو حجة. قال تعالى: ﴿انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله﴾ فالأمر الإلهي هنا ﴿انفروا﴾ أي اخرجوا إلى القتال ﴿خفافاً وثقالاً﴾ أي خف ذلك عليكم أو شق على أي حالة كنتم (شباباً وشيوخاً، نشاطاً وغير نشاط، مشاغيل وغير مشاغيل، فقراء وأغنياء، عزاباً ومتأهلين.. وغيرها من أحوال الإنسان التي شملتها أقوال المفسرين).
رابعاً: إذا كان القتال والنهوض بواجبه هو فرض عين على المسلمين، فإن توفير الآلية والأداة التي تمكن من القتال هو واجب شرعي وفريضة إسلامية أيضاً عملاً بالقاعدة الشرعية “ما لا يتم الواجب به فهو واجب”.
وعليه، فإن واجب الحركة الإسلامية من أجل الوصول لهدف أو فريضة التحرير عبر فريضة القتال، هو بناء “التنظيم المقاتل” الذي يستوعب طاقات وقدرات الشعب وينتظم فيه المجاهدون لأداء فريضة الجهاد. أما عن حجم وبنية هذا “التنظيم المقاتل” في الحركة الإسلامية في فلسطين فهو أمر تحدده حاجة الجهاد والقتال إلى مستوى تحصل به الكفاية وإلا امتد الحكم إلى المسلمين خارج فلسطين. فليس من المنطق أو الشرع أن نطالب المسلمين أو الحركة الإسلامية في الأردن، أو سوريا أو لبنان أو مصر أو العراق أو إيران أو أي بلد عربي أو إسلامي أن تعد كتائب الجهاد من أجل فلسطين وترسل المتطوعين لقتال اليهود فيها، بينما الحركة الإسلامية في فلسطين لا تفعل ذلك، أو تفعله بشكل محدود، لا ينم عن بذل الحركة كل ما في وسعها وطاقتها في الجهاد سعياً إلى تحقيق الكفاية في المواجهة، التي هي بطبيعة الحال غير ممكنة في ظل ميزان القوة الراهن مع العدو.
والتنظيم المقاتل ليس بضعة خلايا أو عشرات من المجاهدين ينهضون بواجب القتال حتى يسقط عن البقية العظمى لأعضاء الحركة الإسلامية، الذين يعتبرون أنفسهم من باب الاختصاص غير معنيين بالمسألة الجهادية، ولا يتلقون أية تعبئة أو تأهيل يؤهلهم للانخراط في الفعل الجهادي مع اشتداد أوار الحرب الدائرة مع العدو الصهيوني. مثل هذا النوع من توزيع الأدوار قد يصلح أو يجري في حال “فرض الكفاية” لكن لا يجوز في حال “فرض العين”. فهروب الحركة الإسلامية في فلسطين تحت أي ظرف وفي أي مرحلة، للعمل في أي مجال اجتماعي أو ثقافي أو رياضي يغيب معه الجهاد والمجاهدون لا يعفيها من التقصير والإثم مهما كانت المبررات.
إن الحركة الإسلامية في زمن الشهيد حسن البنا، رحمه الله، وفي موقع غير فلسطين، لم تكن لتقبل أن تصبح جمعية خيرية على حساب واجباتها السياسية والجهادية. وعندما يتحدث الشهيد حسن البنا عام 1945 عن أولئك الذين يسألون الإخوان المسلمين عن طبيعتهم “هل أنتم طريقة صوفية؟ أم جمعية خيرية؟ أم مؤسسة اجتماعية؟ أم حزب سياسي؟” يجيب البنا، رحمه الله، “هل يتوهم أحد أن تكون (الحركة الإسلامية) في عرف القانون، ومنطق الأوضاع كجماعة لتكفين موتى الفقراء؟ وجماعة قطرة الحليب (التي توزع الحليب على الفقراء)؟ وجماعة أنصار الإحسان؟ وعلم الله أننا لا نستصغر ناحية من نواحي البر ولا ننتقص عملاً من أعمال الخير مهما كان ولكن لكل مقام مقال”.
ونحن ـ كما يقول الشهيد حسن البنا ـ لا ننتقص من قيمة أعمال الخير، لكن لكل مقام مقال.. والمقام في فلسطين هو مقام “الاحتلال والعدوان الصهيوني الواقع على أرضنا وشعبنا” وليس له مقال في الإسلام.. وليس له حكم في الشرع سوى القتال والجهاد.
خامساً: إن التزام الحركة الإسلامية فريضة “التحرير”، وفريضة “القتال” وفريضة “بناء التنظيم المقاتل” ليست مسألة اختيارية خاضعة لحسابات الربح والخسارة، بل هي من باب التكليف الشرعي الذي يؤثم تاركه فرداً كان أو جماعة إثم ترك الصلاة. إن عدم النهوض بهذا التكليف والتخلف عن القتال يضع الحركة الإسلامية وأبناءها في موقع حرج تحدثت عنه العديد من الآيات القرآنية مثل قول الله تعالى: “فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون”.
فالقرآن يطرح قضية التخلف والاعتذار عن الجهاد بسبب أو ظرف “لا تنفروا في الحر” لكن الله سبحانه وتعالى يوصد الطريق على دعاة الأعذار والحجج برد حاسم تلوح فيه جهنم والعياذ بالله “قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون”. وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم في فريضة القتال واضح وقاطع “مَن مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية”.
ونحن هنا لا نريد الحديث عن فضائل الجهاد والقتال والترغيب فيه فالآيات والأحاديث في ذلك كثيرة ويكفي ما رواه البخاري من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها”. ولكن ما نود إبرازه هو سوء العاقبة المترتبة على ترك الجهاد والقتال وعدم النية بالمشاركة فيه، من قول النبي صلى الله عليه وسلم (مات ميتة جاهلية)!
سادساً: من أجل بناء “التنظيم المقاتل” للقيام بفريضة الجهاد، فلا بد من توفر عدة مطالب أساسية لا مجال لتفصيلها الآن، لكن أهمها أمران: توفر نخبة قيادية مؤهلة تحض على القتال وتعد له “يا أيها النبي حرض المؤمنين”؛ ووجود استجابة شعبية لذلك.
فالخطوة الأولى في النهوض نحو الجهاد والقتال أن تكون قيادة الحركة الإسلامية مقتنعة بذلك، وتتحمل المسؤولية الشرعية والأخلاقية للقيام بهذا الواجب. وقيادة المشروع الجهادي يجب أن تتصف بمواصفات خاصة من التقوى، والتجرد والإخلاص والوعي والحكمة والشجاعة والحزم والقدرة على اتخاذ القرار في أصعب الأوقات. أما الاستجابة الشعبية والجماهيرية فتعني إقبال الشعب على التطوع للجهاد والقتال، وهذا الإقبال من عدمه لا يؤثر على فرضية الجهاد كواجب شرعي لابد منه، بل يحدد قدرة أصحاب المبادرة على تكوين الإطار المقاتل الذي يستوعب طاقات الشعب وينظمها ويسخرها للقتال. والدراسات الحربية والعسكرية تقول إن وجود استجابة شعبية بنسبة 20 بالمئة من مجموع السكان في البلد المحتل تكفي لقيام قيادة مؤهلة بالنهوض بعبء الجهاد والمقاومة.
ومعروف أن الشعب الفلسطيني في فلسطين وفي أسوأ أحواله النفسية والمعيشية في ظل (أوسلو) لم تهبط نسبة تأييده للكفاح المسلح إلى هذا المستوى، وحسب استطلاعات غير المتعاطفة مع الكفاح المسلح لم تقل النسبة عن 30 بالمئة وأحياناً كانت تصل نسبة المؤيدين حتى للعمليات الاستشهادية إلى أكثر من 60 بالمئة. وهذا يجعل مسؤولية الحركة الإسلامية الشرعية والتاريخية كبيرة في استيعاب جماهير الشعب الفلسطيني وتأطيرها في حالة جهادية قتالية قادرة على دحر المشروع الصهيوني وهزيمته على أرض فلسطين.