الحرية والأخلاق

Cover Image for الحرية والأخلاق
نشر بتاريخ

مقدمة

الأصل في الخلق الإلهي للإنسان الحرية بكافة أنواعها، حرية فكر، واختيار، وإرادة، ومشيئة، ونحو ذلك مصداقاً لقوله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا 1.

الحرية قيمة إنسانية ترتبط بثقافة وهوية مجتمعاتها وتوجهاتهم الفكرية، وقد أجمعت القوانين الوضعية على اعتبارها حقا من حقوق الأفراد.

إلا أن الحرية التي يروج لها الغرب اليوم والتي باتت تأخذ طابع إلزاميا عن طريق مؤسسات دولية متحكم فيها تطرح العديد من الأسئلة الأخلاقية على المجتمعات العربية. فما علاقة الحرية بالأخلاق؟ وأي حرية نريد؟ هذا ما سأتناوله من خلال محورين أخصص الأول منهما للعلاقة بين الحرية والأخلاق تاركة الحديث عن الحرية المنشودة للمحور الثاني. 

المحور الأول: الحرية والأخلاق أية علاقة؟

كلما أثير مفهوم الحرية كلما رافق ذلك سيل من الأسئلة الأخلاقية التي تتنوع بتنوع البيئات الاجتماعية والثقافية، لذلك لابد من التطرق للإطار المفاهيمي للمصطلحين وكدا علاقة الحرية بالمسؤولية.

*الإطار المفاهيمي

جاء في لسان العرب أن كلمة الحر من كل شيء هي أعتقه وأحسنه وأصوبه والشيء الحر هو كل شيء فاخر، وفي الأفعال هو الفعل الحسن والأحرار من الناس أخيارهم وأفاضلهم.

تعددت المذاهب في تعريف الحرية واختلفت الآراء في تحديد مصطلح منضبط لها، فقد ورد في إعلان حقوق الإنسان الصادر عام 1789 إن الحرية هي «حق الفرد في أن يفعل ما لا يضر بالآخرين».

وتذهب أغلب التعاريف إلى أن الحرية في الإسلام هي «ما وهبه الله للإنسان من مكنة التصرف لاستيفاء حقه وأداء واجبه دون تعسف أو اعتداء. 

أما الحرية عند الغرب: «هي الانطلاق بلا قيد والتحرر من كل ضابط، والتخلص من كل رقابة، ولو كانت تلك الرقابة نابعة من ذاته هو».

وفي المنظور الإسلامي يكون مبدأ الحرية هو المبدأ المحوري الذي يؤسس لكل السلطات في المجتمع المسلم.

 أما الأخلاق فهي كل ما بعث رسول الله من أجله  للإنسانية جمعاء؛ قال علية الصلاة والسلام: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.

 إن أخلاقية الإنسان هي ما يميزه عن باقي الكائنات وليس العقلانية. والإنسان هو وحده المخلوق الذي ينشد الكمال من خلال استحضار القيم المثلى في نفسه، وهو ما ليس بمقدور الحيوان فعله.

فالحرية لا تعني إطلاق أهواء الإنسان وغرائزه، وجعلها بدون ضوابط أخلاقية وقانونية. إن الغرائز المنفلتة من كل الضوابط لا تسمى حرية، وإنما تحللاً والتفافا على القانون والمنظومة الأخلاقية الإنسانية. فالحرية ليست تحقيق اللذة، وإنما تحقيق الحقوق والواجبات في كل الدوائر والمجالات والمساحات.

 كلنا نحيى وسط مجتمع فيه يتأثر من حولنا بكل ما نفعله بصورة أو بأخرى. وسرعان ما نجد أنفسنا أمام سؤال مهم: هل نقرر ما نفعله بناءً على ما نريده فقط، أم علينا أن نأخذ في اعتبارنا تأثيره على الآخرين. هذا سؤال يخص ما يجب أن نفعله؛ وهو سؤال أخلاقي 2.

*الحرية والمسؤولية الأخلاقية

والحرية إذن لا تعني الانفلات من الضوابط الأخلاقية والإنسانية، وإنما تعني امتلاك القدرة على التعرف والاختيار وفقاً ‏لقواعد عقلية أو ضوابط شرعية. فهي تتجه إلى الكمال وليس إلى التخريب، وإلى الانسجام ونواميس الكون والمجتمع وليس إلى الخروج عنهما. «فحرية الإنسان كما يراها الإسلام، هي في وعيه بالفطرة التي فطر عليها، وفي تشغيل قواه الفطرية في معرفة الحقيقة في آيات الله تعالى طلباً لمعرفة الله والإسلام له وحده تعالى، ومن المنظور تحرره من تعظيم ما يعظمه البشر بمعرفته كما هو في حقيقته، وتوجهه إلى الله بالمعرفة وبالتعبد له تعالى» 3.

 إن الحرية ليست مفهوما أنتجه المجتمع بتطوره، أو ثمرة اتجاه فكري محدد، إنما هي قيمة انبثقت عن مصادر محددة، إن مصادر الإلزام الأخلاقي هي الوحي والعقل والضمير، وكل هذه المصادر تقرر حرية الإنسان وتؤكدها، لأن أفعاله لن تكون أخلاقية إلا إذا انبثقت من أعماقه، وكانت ثمرة يانعة لنيته وإرادته بلا تكلف ولولا الحرية لم يكن للإنسانية أثر 4.

ليست الحرية رخصة لنفعل ما نريد أن نفعله وقت ما نريد، إنما هي القوة أن نفعل ما يجب علينا أن نفعله.

إن الإسلام بين علاقة الحرية والمسؤولية في إنها علاقة تلازم وتكامل، لتكون حرية الإنسان إرادة خيرة فاعلة في مسؤولياته بالرغبة والاقتناع، وتكون المسؤولية استثمارا عاقلاً ونافعًا لإرادته الحرة، من أجل مصلحة الفرد والجماعة والمجتمع والأمة والإنسانية جميعًا.

أما الحرية المطلقة بغير قيود ولا حدود، فهي سلوك بهيمي فوضوي مفسد ومدمر، لا يليق بكرامة الإنسان صاحب الرسالة، ولا بحياته ومجتمعه. الحرية والمسؤولية متلازما.

المحور الثاني: الحرية والاستعباد .

 أكد السلف ذلك من خلال مؤثراتهم أن الحرية هي الأصل وما دونها استعباد، فقد قال علي ابن ابي طالب: “لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرا”. وأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا”. حرية يقابلها استعباد لا يستقيم معه دين أو عدل أو أخلاق.

الحرية شرط لإقامة الدين والأخلاق والإيمان 5.

الحرية والعدل

  إننا في عصر نشيده الذي يصم الأسماع هو نشيد الحرية.  لا صوت يعلو على صوتها، أمل الرقاب المملوكة للأفراد والشعوب التائهة بين حرية اليمين اللبرالي وحرية اليسار، حرية السياسية الرأسمالية والحرية الاقتصادية في ظل النظام الاشتراكي أو الحرية التي لا سند لها فكريا أو دينيا والمشترك بين الجميع هو الحاجة للحرية.

الحرية التي تتحلب لها أفواه المستضعفين المحرومين في الأرض والعدل المشهود المفقود تمثله في خيالهم الجائع النماذج الديمقراطية والاشتراكية في العالم. “كاد الفقر أن يكون كفراً” كما قال الإمام علي كرم الله وجهه، والفقر والظلم كفران، يكادان، يعاني منهما المستضعفون في الأرض، وجمهورُهم من المسلمين، ويرزَحون تحت نيرِهما، ويحِنّون إلى التحرر منهما. هات لي حرية، أية حرية عملية، لا تطعمني آمالا ومبادئ مثالية! هات لي عدل الخبز اليومي، عدل العمل، عدل الأجر على العمل، وعدلا ينقذ طفلي المريض، وعدلا يعطيني سكنا أخرج من كوخ البؤس! هات لي حرية الكرامة وعدل الكفاية! ثم اسألني بعد ذلك ما شئت 6.

الحرية التي يدعوا لها الغرب تحمل ثقافة الغرب وتاريخه يطبعها تطور التيارات الفكرية المتعاقبة تختلف عن ديننا وهويتنا وخصوصية مجتمعاتنا، ولكن تقاطع في بعض مجالاتها كحرية التعبير وحرية التدين وحرية الاختيار… تلك المجالات التي تروم تحرير الإنسان من ربقة الاستعباد.

الحرية القرآنية

 تشيد المجتمعات البشرية اليوم على الأساس القانوني والعلاقات القانونية أركانها. القانون هو الذي ينظم الحياة في كل المجالات ويفرض على الآخرين الالتزام به فرضا إجباريا بسلطان الإرادة الجماعية التي أنتجت الصيغ القانونية التي بموجبها يفرض احترام الغير وأداء واجبات محددة والتمتع بحقوق وحريات معينة، لا يعرف «الأحرار» إلا عبودية شهوتهم، يحدها فقط القانون الوضعي الذي يقف مثلَ جندي المرور لكيلا تصطدم «حرية» هذا بحرية ذاك، ولكيلا تفسد شهوة هؤلاء و«مصلحتهم» اللذاتية الاستهلاكية بشهوة أولئك.

في المجتمع الإسلامي تكون القاعدة هي الرحمة والمحبة والأخوة والعطاء احتسابا لوجه الله، وتقديما مرجوَّ الفائدة، مضمونها إن كان إخلاص وصدق، ليوم فِيه تجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً 7. ثم تأتي في المرتبة الثانية فرائضُ الشرع وضوابطه 8.

في المجتمع الإسلامي الـمُعافَى يَنْشَطُ وازع القرآن، ويرتبط المسلمون برباط البِر والتقوى، ويتعطل أو يكاد وازع الزجر والحد والعقاب 9.

خاتمة

إن الحرية التي تُرفع شعاراً مطلقاً كثيرا ما تخفي نيات الاستعباد. لا بد للمنهاج أن يحدد الشروط الإنسانية والمادية، الاجتماعية والاقتصادية، السياسية والتكنولوجية، التي تمكننا من التحرر، تمكننا من اكتساب حرية تتناسب مع النداء والاستجابة الإيمانية، تحقق أهداف الشرع في الدنيا عزةً للأمة كما تحقق غاية المؤمن في الآخرة: السعادة الأبدية عند اللّه عز وجل 10.

لذلك لا يوجد حرية مطلقة في الإسلام، وإلا ما كان للعبودية لله وحده معنى، لأن الحرية المطلقة تقتضي ألا تقيد بأي قيد؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار».

والحرية سمة ملازمة للمؤمن جعلها الإسلام حقا من حقوق الإنسان، بل وجعلها فريضة وواجباً شرعياً، وضرورة من الضرورات، لا يحل للإنسان أن يتنازل عنها، فهي بمثابة الحياة له، بل يجب أن يكافح ويجتهد ويقتحم العقبات من أجل الظفر بها

ما هذه الحرية تحفة تهدى ولا نومة حتى الضحى 11.


[1] سورة الكهف الاية: 24
[2] انظر: يوسف محمد أبو سليمة، مفهوم الحرية من المنظور الإسلامي ص: 3
[3] علي عيسى عثمان ،جريدة الحياة اللندنية ـ العدد (13160)، الجمعة 19/مارس/ 1999م ـ مقال الإسلام ومسيرة الحضارة البشرية
[4] الحرية والمسؤولية في الإسلام ___على الموقع الإلكتروني مسك ص: 2
[5] عبد السلام ياسين حوار الماضي والمستقبل الطبعة الأولى 1997 مطبوعات دار الأفق الدار البيضاء، ص: 48
[6] عبد السلام ياسين :الإحسان الجزء الأول الطبعة الأولى 1998  مطبوعات دار الأفق، الدار البيضاء ص: 473
[7] سورة آل عمران 30
[8] عبد السلام ياسين :نفس المرجع ،ص: 456
[9] عبد السلام ياسين، العدل :الإسلاميون والحكم الطبعة الأولى 2000،دار الأفق البيضاء ص: 168
[10] عبد السلام ياسين: مقدمات في المنهاج، الطبعة الاولى1989، ص: 62
[11] عبد السلام ياسين العدل، مرجع سابق، ص: 109