ما من مؤمن عاقل حصيف إلا ويطمح أن يكون عند الله مرضيا وعند الناس مقبولا مألوفا، وإنها لأمنية غالية لا تُنال إلا بحسن الخلق لما يزخر به من فضائل وخصائص تمضي بأصحابها، إن هم أخلصوا لله في التحلي بها، إلى رفعة الشأن وسمو المنزلة عند الله.
وحسن الخلق: حالة نفسية تبعث على مخالقة الناس بالمعروف، ومجاملتهم بالبشاشة، وطيب القول، والصبر والحلم ولطف المداراة.
ولأهمية التحلي بالخلق الحسن وردت آياتٌ وأحاديثُ كثيرة تحث عليه وتأمر به.
حسن الخلق في القرآن الكريم
فمن نصوص القرآن الكريم نستحضر بعض الآيات الكريمة المرشدة إلى حسن الخلق والمنكرة للسيئ منه:
قال تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً، وقال سبحانه: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عنِ الفحشاءِ والمنكرِ َالبغيِ يعِظكم لعلكم تذكرونَ. وقال عز من قائل: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً. وقال سبحانه: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً. وقال عز وجل: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِين وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً. وقال سبحانه مادحا نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ. وفي هذهِ الآية إشارة: كأن حسن الخلق عرشٌ يتربع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا لما سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم قالت: “كان خلقه القرآن”.
حسن الخلق في السنة المطهرة
كما جاءت الأحاديث النبوية الشريفة لتوصي وتأمر بالتحلي بأحسن الأخلاق والسجايا:
عن النواس بن سمعان الأنصاري قال: “سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم؟ فقال: “البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس”” 1.
وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذيء” 2.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم” 3.
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: “إنه من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة. وصلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار” 4.
وعدَّ النبي – صلى اللّه عليه وسلم – حسن الخلق من كمال الإيمان، فقال عليه الصلاة والسلام: “أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا” 5.
وأوصى النبي – صلى اللّه عليه وسلم – أبا هريرة بوصية عظيمة فقال: “”يا أبا هريرة! عليك بحسن الخلق”. قال أبو هريرة رضي اللّه عنه: وما حسن الخلق يا رسول اللّه؟ قال: “تصل مَنْ قطعك، وتعفو عمن ظلمك، وتُعطي من حرمك”” 6.
حسن الخلق في كلام الصحابة والتابعين
ومن أقوال الصحابة والتابعين في حسن الخلق:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (خالطوا الناس بالأخلاق، وزايلوهم بالأعمال).
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: (إن العبد ليبلغ بحسن خلقه أعلى درجة في الجنة وهو غير عابد، ويبلغ بسوء خلقه أسفل درك جهنم وهو عابد).
وقال يحي بن معاذ رحمه الله: (حسن الخلق حسنة لا تضر معها كثرة السيئات، وسوء الخلق سيئة لا تنفع معها كثرة الحسنات).
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: (لأن يصحبني فاجر حسن الخلق، أحب إليّ من أن يصحبني عابد سيء الخلق).
وقال الحسن رحمه الله: (من ساء خلقه عذب نفسه).
المراد بحسن الخلق
قال القرطبي: (الأخلاق أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره وهي محمودة ومذمومة؛ فالمحمودة على الإجمال أن تكون مع غيرك على نفسك فتنصف منها ولا تنصف لها وعلى التفصيل العفو والحلم والجود والصبر وتحمل الأذى والرحمة والشفقة وقضاء الحوائج والتوادد ولين الجانب ونحو ذلك والمذموم منها ضد ذلك).
وقال الإمام النووي: (قال الحسن البصري: حقيقة حسن الخلق بذل المعروف وكف الأذى وطلاقة الوجه).
وقال القاضي عياض: (هو مخالطة الناس بالجميل والبشر والتودد لهم والإشفاق عليهم واحتمالهم والحلم عنهم والصبر عليهم في المكاره وترك الكبر والاِستطالة عليهم ومجانبة الغلظ والغضب والمؤاخذة).
قال الراغب الأصفهاني: (والخلق يعني بالفتح وبالضم في الأصل بمعنى واحد كالشرب والشرب لكن خص الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر وخص الخلق الذي بالضم بالقوي والسجايا المدركة بالبصيرة).
الأسوة الحسنة
لنا في الرسول صلى اللّه عليه وسلم أسوة حسنة تُحْتَذَى في الْخُلق مع نفسه، ومع أزواجه، ومع جيرانه، ومع ضعفاء المسلمين، ومع جَهَلَتِهم، بل وحتى مع أعدائه وخصومه؛ قال تعالى: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقوى.
وحسبنا أن نذكر أذى قريش للرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقد تألبت عليه، وسامته سوء العذاب، حتى اضطرته إلى مغادرة أهله وبلاده، فلما عاد في فتح مكة ونصره الله عليهم، لم يَشُكُّـوا أنه سيثأر منهم، وينكـّل بهم، فما زاد أن قال: “”ما تقولون أني فاعل بكم”؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال: “أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء””.
وعن علي كرم الله وجهه قال: “إن يهوديا كان له على رسول الله (صلى الله عليه) دنانير، فتقاضاه، فقال له: “يا يهودي ما عندي ما أعطيك”. فقال: فإني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني. فقال: “أجلس معك”، فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة (الصبح)، وكان أصحاب رسول الله يتهددونه ويتوعدونه، فنظر رسول الله (صلى الله عليه) إليهم وقال: “ما الذي تصنعون به”؟ فقالوا: يا رسول الله يهودي يحبسك! فقال: “لم يبعثني ربي عز وجل (كي) أظلم معاهدا ولا غيره”. فلما علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل الله، أما والله ما فعلت بك الذي فعلت، إلا لأنظر إلى نعتك في التوراة، فإني قرأت نعتك في التوراة: محمد بن عبد الله، مولده بمكة، ومهاجره بطيبة (المدينة المنورة)، وليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب، ولا متزين بالفحش، ولا قول الخنا، وأنا أشهد أن لا اله إلا الله، وأنك رسول الله، وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله”، وكان اليهودي كثير المال.
لذا فإن مكارم الأخلاق صفة من صفات الأنبياء والصديقين والصالحين، بها تُنال الدرجات، وتُرفع المقامات. وقد خص اللّه جل وعلا نبيه محمداً – صلى اللّه عليه وسلم – بآية جمعت له محامد الأخلاق ومحاسن الآداب فقال جل وعلا: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وقد أوجب الله عز وجل الاقتداء بهدي الأنبياء فقال: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده.
لأن الله أدبهم فأحسن تأديبهم فكانوا أرجح الناس عقلا، وأكثرهم أدبا، وأوفرهم حلما، وأكملهم قوة وشجاعة وشفقة، وأكرمهم نفسا، وأعلاهم منزلة.
سجايا حسن الخلق
ومن أهل العلم من جمع سجايا وأوصاف حسن الخلق في صفات عدة، على كل مسلم أن يعرفها ويتمسَّك بها. وهي إجمالاً: أن يكون الإنسان كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفضول، براً وصولاً، وقوراً، صبوراً، شكوراً، راضياً، حليماً، رفيقاً، عفيفاً، شفيقاً، لا لعاناً ولا سباباً، ولا نماماً ولا مغتاباً، ولا عجولاً ولا حقوداً ولا بخيلاً، ولا حسوداً، بشاشاً هشاشاً، يحب في اللّه، ويرضى في اللّه، ويغضب في اللّه.
المذموم من الأخلاق
ومن العلماء من حدد أصل الأخلاق المذمومة كلها في: الكبر والمهانة والدناءة، وحدد أصل الأخلاق المحمودة كلها في الخشوع وعلو الهمة. فالفخر والبطر والأشَر والعجب والحسد والبغي والخيلاء، والظلم والقسوة والتجبر، والإعراض وإباء قبول النصيحة والاستئثار، وطلب العلو وحب الجاه والرئاسة، وأن يُحمد بما لم يفعل وأمثال ذلك، كلها ناشئة من الكبر. وأما الكذب والخسة والخيانة والرياء والمكر والخديعة والطمع والفزع والجبن والبخل والعجز والكسل والذل لغير اللّه واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ونحو ذلك، فإنها من المهانة والدناءة وصغر النفس.
خاتمة
هذا هو الإسلام الذي جاء به رسول الله والذي يشوهه كثير من المسلمين في سلوكهم وسيرتهم وتعاطيهم مع الآخرين، فهم يسيئون للإسلام عن قصد أو عن غير قصد حين يتجاهلون ما أمر به الإسلام على لسان رسول الله والصحابة والتابعين بإحسان، الذين جسدوا بأخلاقهم الإسلام في أروع صوره حين قدموا النموذج الأصلح في السيرة والسلوك فكانوا أحسن الناس خلقا. وهنا نبدأ بالسؤال عن تفكك الأسرة التي انعدم الاحترام بين أفرادها، وتحولت العلاقات الأسرية والأخوية والإيمانية إلى علاقات نفعية تحكمها المصالح، فغابت عن علاقات المومنين أخلاق التواصل والتزاور والتراحم، ولم يعد الصغير يوقر الكبير، وغاب الاحترام المتبادل بين الإخوة والجيران ليحل الجفاء و الحسد والغيبة والنميمة مكان التحاب والتآلف وحسن الظن.
ولقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانة الأخلاق وموقعها في الدين فقال: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. وكان يوصي المؤمنين بحسن الخلق فقرن الإيمان بحسن الخلق حين قال: “أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً”. فإيمان المؤمنين ينقص لسوء خلقهم وغلبة الطبع الغضبي عليهم، وبغياب حسن الخلق ينعدم الاستقرار النفسي الذي هو شرط أساسي في بناء جماعة المؤمنين، ولن تستقيم صحبة تروم نيل رضى الله مع سوء خلق.
وإذا بحثتَ عن التقي وجدتَهُ
رجلاً يُصدِّق قولَهُ بفعالِ
وإذا اتقى اللّه امرؤٌ وأطاعه
فيداه بين مكارمٍ ومعالِ
وعلى التقي إذا ترسَّخ في التقى
تاجان: تاجُ سكينةٍ وجلالِ
وإذا تناسبتِ الرجالُ فما أرى
نسبًا يكون كصالحِ الأعمالِ
حسن الخلق عنوان للفلاح وطريق لإيجاد مجتمع يسود فيه العدل والأمن والتعاون على صيانة الحياة من الفساد والمظالم، ومن كل ما يشقيها ويرهقها، والسير بها إلى الأكمل والأفضل والأحسن.