الربيع النبوي بين الذكرى والواجب..

Cover Image for الربيع النبوي بين الذكرى والواجب..
نشر بتاريخ

مع إشراقة ربيع الأنوار، نحتفي بالسيرة النبوية لا باعتبارها تاريخًا مضى، بل باعتبارها ميزانًا يقيس صدقنا ووفاءنا لقضايانا. ولعل من أول ما ينبغي أن نلتفت إليه هو معنى الكلمة التي نستعملها؛ فاللغة تكشف عن المقاصد. فقد جاء في لسان العرب: «احتفى بالشيء: بالغ في إكرامه والعناية به» 1، فالاحتفاء إذن هو الإكرام والاعتناء والتقدير 2. أما الاحتفال فهو الاجتماع لأمرٍ مع إظهار الفرح والسرور به 3 4. والفرق أن الاحتفاء يتجه إلى جوهر المعنى والعناية القلبية والعملية بالرسالة، بينما الاحتفال يركّز على إظهار الفرح بالمظهر والاجتماع. ولهذا نختار في هذا المقام مصطلح الاحتفاء بدلًا من الاحتفال، لأن غايتنا ليست مجرد الفرح، وإنما الوفاء برسالة النبي ﷺ تصديقا وتطبيقا.

فالاحتفاء الحقيقي ليس ترديدًا للمدائح فحسب، وإن كان مدحه ﷺ عبادةً تُلين القلب وتزيد الإيمان، لكن الأساس أن تتحول هذه المحبة إلى اتباع صادق وعمل صالح. قال ابن القيم رحمه الله: “وكل محبة وتعظيم للبشر فإنما تجوز تبعاً لمحبة الله وتعظيمه، كمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، فإنها من تمام محبة مرسله وتعظيمه، فإن أمته يحبونه لمحبة الله له، ويعظمونه ويجلونه لإجلال الله له؛ فهي محبة لله من موجبات محبة الله، وكذلك محبة أهل العلم والإيمان ومحبة الصحابة رضي الله عنهم وإجلالهم تابع لمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم” 5.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “إن قيام المدحة والثناء عليه والتعظيم والتوقير له قيام الدين كله، وسقوط ذلك سقوط الدين كله” 6.

وقد عبّر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله عن هذا المعنى في المجلس المنعقد يوم الأحد 12 ربيع الأول 1425هـ بقوله: «وكلنا غارقون في الضلال لولا هذه البعثة الدائمة المتجددة في قلب كل مؤمن، وهو يرقى في معارج الإيمان إلى ذرى الإحسان، فيجد في قلبه هذا الميلاد النبوي الشريف دائم التجدد. ومن لم يستشعر في قلبه إشراقات هذا الميلاد، فنرجو من الحنّان المنّان أن يمن عليه بتوبة تجدد إيمانه» 7.

لقد تعرّض النبي ﷺ لأشد أنواع الأذى والحصار، لكنه صبر وربّى أصحابه على الثبات، فقد سئل سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ رضِيَ اللهُ عَنه عن النّبي ﷺ: «قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياءُ ثمَّ الأمثلُ فالأمثَلُ، فيُبتلى الرَّجلُ على حسْبِ دينِه، فإن كانَ في دينهِ صلبًا اشتدَّ بلاؤُهُ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ على حسْبِ دينِه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي على الأرضِ ما عليْهِ خطيئةٌ» 8. وقاد معركة بدر وهو وعدٌ بالنصر من الله وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ[آل عمران، الآية: 123]، ليعلِّم الأمة أن المعركة لا تُحسم بالعدد والعُدة، وإنما بالتوكل والإيمان. كما قال تعالى: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ 9.

ومع ذلك، حذّرنا رسول الله ﷺ من داء الوهن حين قال: «يُوشِكُ أن تَدَاعَى عليكم الأممُ من كلِّ أُفُقٍ، كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها، قيل: يا رسولَ اللهِ! فمِن قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ؟ قال لا، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، يُجْعَلُ الْوَهَنُ في قلوبِكم، ويُنْزَعُ الرُّعْبُ من قلوبِ عَدُوِّكم؛ لِحُبِّكُمُ الدنيا وكَرَاهِيَتِكُم الموتَ» 10. وقد قال الإمام عبد السلام ياسين في ذلك: «هناك في العلاقات الجماعية وَلَدَ الوهنُ جراثيم الاستبداد والظلم والأثرة. ولا علاج إلا العلاج العميق لمرض الغثائية في القلوب، ولأدواء الأمَم التي سرَتْ فينا منذ تدحرجنا عن العقبة، منذ نقضنا البناء النبوي الراشد…» 11.

وقد جاء في القرآن الكريم تحذير صريح من الركون إلى الأعداء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ 12. وبيّن الإمام الطبري أن النهي عن اتخاذهم أولياء لأن في ذلك تصديقًا لهم على باطلهم 13. وهذا ما نشهده اليوم من تحالفات مشبوهة وتطبيع مفضوح يزيف وعي الأمة ويجرها إلى الخضوع. ولم يكن الخطر في الخارج وحده، بل كان المنافقون دائمًا أشد خطرًا من العدو المعلن، كما قال الله تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ 14.

إن المنافقين هم أشد أعداء الأمة الإسلامية، وأخطرهم عليها، فهم يتلوَّنون حسب البيئة، يظهرون بمظهر الأخ المشفق، بينما هم شياطين في جلد بني الإنسان. وكان الْحسَن البصرى يقول: “إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا رَأَوْا هَذَا النِّفاق يَغُولُ الْإِيمَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ هَمٌّ غَيْرَ النِّفاق” 15.

وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ، قَالَ: كَانَ بَعْضُ المُهَاجِرِينَ يَقُولُ: “وَاللهِ مَا أَخَافُ الْمُسْلِمَ وَلَا أَخَافُ الْكَافِرَ. أَمَّا الْمُسْلِمُ فَيُحْجِزُهُ إِسْلَامُهُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَقَدْ أَذَلَّهُ اللهُ عز وجل، وَلَكِنْ كَيْفَ لِي بِالْمُنَافِقِ؟” 16. وفي واقعنا يتجلى النفاق السياسي فيمن يرفع شعار القضية وهو يطعنها خفية، أو يبرر الاستسلام للعدو تحت ذرائع زائفة.

إن الربيع النبوي ليس ذكرى عابرة بل هو ربيع متجدد يذكّرنا أن حب رسول الله ﷺ اتباع لسنته وامتثال لأمره: أن ننصر دينه، أن نرعى أمته، أن نكون شهداء بالقسط. ولذلك تبقى فلسطين عنوان صدقنا، فمن أحب النبي ﷺ حقًا فلينصر أرض الإسراء والمعراج، وليقف مع المستضعفين حتى يحقق الله وعده: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ 17.

ومن هنا فإن تحويل دروس السيرة إلى واقع يبدأ من الاحتفاء قبل الاحتفال؛ أن ندعو للمجاهدين والمستضعفين كما كان رسول الله ﷺ يدعو، وأن نربي أبناءنا على الصبر والثبات الذي جسّده في بدر وأحد والأحزاب، وأن نترجم البراءة من الظالمين إلى مواقف عملية بالمقاطعة والممانعة، وأن نواجه تزييف العدو وأبواق النفاق بالكلمة الحرة، وأن نتجاوز الانقسامات الضيقة مستحضرين وصيته ﷺ: «إنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا (وشَبَّكَ أصَابِعَهُ)» 18. كان تشبيك النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مقصودًا لفائدة عظيمة؛ إذ بعدما شبّه المؤمنين بالبنيان المتماسك الذي يقوي بعضه بعضًا، بين ذلك بالقول أولًا، ثم أكّده بالفعل حين شبك أصابعه بعضها في بعض، ليجعل الصورة أوضح، والمعنى أرسخ، والمثال أبلغ ظهورًا.

وهكذا يظل ربيع النبوة مناسبة متجددة لتجديد الإيمان وشحذ الهمم، والتذكير بأن النصر آتٍ لا محالة، وأن الليل مهما طال فجره قريب، مصداقًا لقوله تعالى: أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ 19.

 

 


[1] ابن منظور، لسان العرب، مادة (حفا).
[2] مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، مادة (احتفى).
[3] المعجم الوسيط، مادة (احتفل).
[4] المعجم الغني، مادة (احتفل).
[5] ابن القيم، جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام، ص: 297.
[6] ابن تيمية، الصارم المسلول على شاتم الرسول، ص: 211.
[7] عبد السلام ياسين، مجلس الأحد، 12 ربيع الأول 1425هـ / 2 ماي 2004م، موقع الإمام المجدد عبد السلام ياسين: ar.yassine.net.
[8] الراوي: سعد بن أبي وقاص | المحدث: الألباني | المصدر: صحيح الترمذي، رقم (2398) | خلاصة حكم المحدث: حسن صحيح.
[9] سورة البقرة، الآية: 249.
[10] الراوي: ثوبان مولى رسول الله ﷺ | المحدث: الألباني | المصدر: صحيح الجامع، رقم (8183).
[11] عبد السلام ياسين، العدل: الإسلاميون والحكم، ص: 44.
[12] سورة المائدة، الآية: 51.
[13] الطبري، جامع البيان، ج8، ص528.
[14] سورة المنافقون، الآية: 4.
[15] الفريابي، صفة النفاق وذم المنافقين، ح (76)، ص (119).
[16] المصدر نفسه، ح (59)، ص (102).
[17] سورة الحج، الآية: 40.
[18] الراوي: أبو موسى الأشعري | المحدث: البخاري | المصدر: صحيح البخاري (481) | وأخرجه مسلم (2585).
[19] سورة محمد، الآية: 7.