الرجال الأمناء والخطة الواضحة في العمل السياسي: دعائم لا غنى عنها لنهضة الشعوب
في عالم السياسة المتقلب، حيث تتداخل المصالح وتتعدد الرؤى وتتشابك الأهداف، يبقى عاملان أساسيان يحكمان النجاح أو الفشل: وجود رجال أمناء، وخطة واضحة المعالم. فإذا توفر أحدهما وغاب الآخر، اختل التوازن وضاعت البوصلة، ومتى اجتمعا، تحقق الاستقرار والنهوض، وتقدمت الأمم بخطى ثابتة نحو مستقبل أفضل.
الأمانة ليست مجرد صفة أخلاقية يُحمد عليها الإنسان، بل هي عنصر جوهري في حياة السياسي، لاسيما في مواقع القرار. فالرجل الأمين هو من يحمل المسؤولية بحق، ويجعل مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، ولا ينحرف عن الحق مهما عظمت الضغوط أو كثرت الإغراءات.
وقد جاء في القرآن الكريم، على لسان ابنة شعيب، قولها عن موسى عليه السلام: “يا أبت استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين” [القصص: 26]، لتقرّ مبدأ مهما في الحكم والإدارة: لا يكفي أن يكون الإنسان قويًا وكفئا، بل لا بد أن يكون أمينا على ما أوكل إليه.
الأمانة السياسية تعني الشفافية، الصدق، الولاء للحق، واحترام إرادة الناس. والسياسي الأمين لا يضلل الجماهير، ولا يبيع وعودا كاذبة، ولا يسوق للناس الوهم، مضللا من يتقون في سمته او بلاغة خطابه، كما يستخدم السلطة لبناء مصالحه الشخصية. إنه يسعى لخدمة الشعب، لا تسخير الشعب لخدمته. كما أن للخطة الواضحة أهمية في العمل السياسي، فهي تمثل البوصلة التي توجه العمل السياسي وتحدد مراحله وأهدافه ووسائله. فالنية الطيبة وحدها لا تصنع النجاح، ولا تكفي الأمانة وحدها لتغيير الواقع، ما لم تقترن برؤية استراتيجية واضحة ومبنية على علم ودراسة وقراءة دقيقة للواقع.
الخطة الواضحة تشمل تحديد: الأهداف المرحلية والنهائية، والوسائل المتاحة لتحقيقها، واستعدادا للعقبات المتوقعة وسُبل تجاوزها، وإعداد آليات التقييم والتطوير المستمر.
وفي غياب الخطة، يغدو العمل السياسي عشوائيًا وارتجاليًا، مهما حسنت النوايا، وتحول السياسي إلى مناور يتخبط بين الأزمات، بدلًا من أن يكون قائدا يقود شعبه إلى بر الأمان.
قد يُظن أن الأمانة والخطة أمران منفصلان، لكن الحقيقة أن بينهما علاقة عضوية لا تنفصم. فالرجل الأمين بلا خطة واضحة قد يكون صادقًا لكنه غير نافع، والخطة الواضحة دون أمانة تصبح أداة لخداع الناس أو لتحقيق أهداف باطلة.
وعبر التاريخ، رأينا كيف أن الأمانة مع التخطيط أحدثت ثورات حقيقية في حياة الشعوب. ففي سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، نجد أن الأمانة كانت ركيزة أساسية لشخصيته حتى قبل البعثة، وسُمي بـ “الصادق الأمين”. وبعد البعثة، سار بالناس وفق خطة محكمة، انتقل فيها من الدعوة السرية إلى الجهرية، ومن مكة إلى المدينة، وبنى دولةً على أسس واضحة ومبادئ راسخة. تمثلت في رس الصف الداخلي عن طريق المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، وكتابة وثيقة المدينة المنظمة للعلاقات بين المسلمين من جهة والأطراف الأخرى التي يجمعهم معها الوطن.
ولعمر بن الخطاب في هذا المجال باع طويل. لقد تولى الخلافة في لحظة حساسة من تاريخ المسلمين، بعد توسع الفتوحات وازدياد تعقيد الإدارة. وكان لا بد من أن تتحول الدولة من كيان قبلي ناشئ إلى دولة مؤسسات حديثة بمعايير ذلك العصر. فأسّس ديوان العطاء لتنظيم توزيع أموال الدولة، ووضع نظامًا دقيقًا لجمع الزكاة والخراج، وأنشأ نظام الشرطة والعسس لضبط الأمن، وأنشأ التقويم الهجري لضبط المراسلات والمعاملات. كما اهتم بتخطيط المدن الجديدة مثل البصرة والكوفة، وأمر بتوزيع الأراضي على الجند والفلاحين بطريقة تحقق العدالة. وبذلك كانت دولة عمر أقوى دول عصرها وأكثرها أمنا واستقرارا.
وفي تجارب العصر الحديث، أثبتت القيادات السياسية التي جمعت بين الأمانة والتخطيط أنها الأكثر قدرة على الإنجاز وتحقيق التغيير الإيجابي، مثل نيلسون مانديلا، الذي لم يكن فقط زعيمًا صادقًا، بل كان صاحب رؤية واضحة لإنهاء التمييز العنصري وبناء جنوب أفريقيا جديدة.
واليوم تعاني كثير من دولنا العربية من غياب أحد أو كلا العنصرين. فإما أن تجد قيادات مخلصة لكنها تفتقر للتخطيط والخبرة وفقه الواقع السياسي، أو تجد خططا منمقة لكن بأيدٍ غير أمينة، فيتحول العمل السياسي إلى ساحة للصراع والتنازع، وتغيب التنمية الحقيقية.
وغالبًا ما يُستبعد الأمناء بدعوى أنهم “انتهازيون” لا يصلحون لعالم السياسة، في حين يُقدَّم الانتهازيون الحقيقيون بحجة “الواقعية والحنكة والانفتاح”، وهو ما يكرّس ثقافة الفساد ويعطل إمكانات الأمة.
إن بناء عمل سياسي ناجح يتطلب: تنمية ثقافة الأمانة في مؤسسات الدولة وأحزابها كما ينبغي تأهيل الكوادر السياسية على التخطيط الاستراتيجي، كما ينبغي تفعيل الرقابة والمساءلة وربط المحاسبة بالمسؤولية لضمان التزام القادة بالأمانة والخطط، كما ينبغي إفساح المجال للمشاركة السياسية الحقيقية من باب التداول السلمي السلس على السلطة لتظهر نماذج جديدة ومتميزة تجمع بين القيم والخبرة. عوض إعادة تدوير القديم المجرب سلفا والفاشل مسبقا. وهذا ما يكون ناتجا عن خوف من نتيجة التغيير التي قد تسقط أطرافا ظلت ولسنين تحلب من ضرع هو ليس من حقها أو خوفا على سمعة سعت ولزمن لرفعها.
الرجال الأمناء والخطة الواضحة هما جناحا الطائر الذي يحلق بالأوطان نحو العزة والتقدم. وبدونمها تبقى الأمة حبيسة الأزمات، يتقاذفها السياسيون كما يشاؤون. فلا نهضة حقيقية دون قادة أمناء، ولا نجاح دائم دون خطة محكمة. وكما قيل: “إذا وُسّد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة”، فكيف إذا وُسّد إلى غير الأمين، وبلا خطة؟