لا شك أن السبب الرئيس في هوان الأمة العربية الإسلامية وضعفها هو حال كل مسلم نفسه، وهو انعكاس لحاله مع ربه، قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (الشورى: 30). ذكر المفسرون: أن كل ما يصيب الإنسان من مصائب في هذه الدنيا هو بسبب ذنوبه وأعماله السيئة، مع أن الله يعفو عن كثير من هذه الذنوب فلا يعاقب عليها.
فإذا خشي العبد ربه واتقاه وأصلح حاله معه بالإيمان الصادق أورثه الأرض واستخلفه فيها مع الصالحين، قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (النور: 55).
فمضمون هذه الآية أن الله يعد المؤمنين بأنهم إذا آمنوا وعملوا الصالحات، فسوف يمكنهم في الأرض، ويمكن لدينهم، ويجعلهم آمنين. وتعتبر هذه الآية من الآيات التي تبشر بانتصار الإسلام وتمكينه في الأرض، ولو بعد حين، وتعد المسلمين بأنهم إذا قاموا بما عليهم من واجبات، فإن الله سيكرمهم بما وعدهم به في القرآن الكريم.
الأسئلة التي تطرح نفسها هنا: كيف أكون من عباده الصالحين المتقين؟
كيف أنخرط مع البناة الداعين إلى الله تعالى في هذا العصر العصيب الذي اختلط فيه الحابل بالنابل؟
كيف أخرج من كينونتي وخاصة نفسي؟ كيف يصير قلبي يقظا منيرا يشع على من حوله من الخلائق؟
يحتاج الإنسان المعاصر المغلوب على أمره المفقر المجوّع إلى من يأخذ بيده، إذ هو في حاجة ماسة إلى الأمان واستعادة الثقة بنفسه والتخلص من الشعور بالإحباط والخوف.
واجبنا أن نلقنه أن علاقتنا بربنا لا تحصرها شعائر تعبدية جافة، بل ديننا ترق في مدارج إسلام ثم إيمان ثم إحسان. نحسن الظن بخلق الله جميعا لأن حسن الظن يحقق فينا العبودية الصرفة لله تعالى، نوجهه إلى طلب معرفة الله أولا ومنه معرفة تعاليم الشرع، يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، نرفع همته لتكون أسمى أمانيه طلب وجه الله تعالى قبل طلبه جنته والموت في سبيل الله والفوز بالشهادة، قال الإمام المرشد عبد السلام ياسين: (وأوصي كل ذي همة يقظة أن لا يكون له من دون وجه الله عز وجل مطلب يحجبه عن الله. طلب الثواب والأجر والجنة شرع من الشرع. وإرادة وجه الله، والسعي إلى مرضاة الله بما يرضي الله ويقربنا من الله مرمى الهمم العالية. بشرط العمل الدائب والنية المتجددة) 1.
نبشر الناس ونستبشر معهم، نتعلم معهم ونعلمهم بناء الإنسان وصناعة الرجال، والرجولة ليست الذكورة وإنما الرجولة الشخصية الجامعة لمكارم الأخلاق ذات الهمة العالية والتهمم والسعي لطلب معالي الأمور ذكرا كان أو أنثى، فمن علت همته هانت عليه كل العقبات ولم يرض بغير الله طلبا.
تتدرج الهمم من اليسير إلى العسير ومن الأسفل إلى الأعلى، والناس يتفاوتون في امتلاك الهمم وفي الاستعداد وفي الاستجابة، والله يجازيهم على كل الأحوال ولذلك قيل: على قدر همتك تعطى، على قدر نيتك تعطى، على قدر استعدادك تعطى، على قدر افتقارك تعطى….
نحتاج إلى غرس فسائل الخير في النفوس فتنمو وتتجذر ويقوى الحرص عليها كلما تقدم الإنسان في العمر، روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “يَهْرَمُ ابنُ آدَمَ وتَشِبُّ منه اثْنَتانِ: الحِرْصُ علَى المالِ، والْحِرْصُ علَى العُمُرِ”. وفي رواية ثانية قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يشيب ابن آدم، وتشب منه خصلتان: الحرص والأمل” (رواه البخاري).
وللحرص معانٍ كثيرة في اللغة العربية، منها: الرغبة الشديدة في الشيء والشغف، والاهتمام المبالغ فيه والبخل والحرص على المال، والاجتهاد والمبالغة في تحقيق شيء ما.
أما طول الأمل فيشير إلى الاستغراق في أمل الحياة الدنيا والتعلق بها، والأمل في البقاء وفي طيات الرسالة النبوية إنذار وتحذير من نسيان الآخرة والتكالب على الدنيا مع أبنائها.
فمن أين نكتسب الهمة العالية والتهمم بالدعوة إلى الله والتعلق بالآخرة؟
رغم زهد عمر بن عبد العزيز إلا أنه كان ذا نفس تواقة حيث قال: “إن لي نفسا تواقة وما حققت شيئا إلا تاقت لما هو أعلى منه؛ تاقت نفسي إلى الزواج من ابنة عمي فاطمة فتزوجتها. ثم تاقت نفسي إلى الإمارة فوليتها، وتاقت نفسي إلى الخلافة فنلتها، والآن تاقت نفسي إلى الجنة، فأرجو أن أكون من أهلها” 2.
كان الصحابة والسلف الصالح يبذلون الجهد والوسع لبلوغ أعلى مراتب الكمال في الطاعات والعبادات والأخلاق، ويسعون دائما نحو الأفضل، كانوا يسيحون في الأرض مسافات طويلة ولأيام عديدة طلبا للعلم يصبرون على المشاق والجوع والعطش، ويسهرون الليالي قياما وقعودا مع الزهد في الدنيا، آثروا الآخرة على الدنيا، ولم يتعلقوا بزينتها، متوجهين بقلوبهم وأعمالهم إلى الله تعالى، متنافسين في فعل الخيرات، مبتغين مرضاة الله تعالى في كل ما يعملون.
فالمطلوب منا أن نحذو حذوهم ونعمق إيماننا بالله ليزداد اليقين بالآخرة والاستعداد لها، وليصبح هذا الإيمان المحرك للأرواح التواقة، فالحياة الدنيا مجرد جسر للآخرة، فنستجيب لنداء الحق كما استجاب إليه من قبلنا ونلبي النداء دون تردد ثم نبذل كل ما نملك في سبيل الله، فسرعة الاستجابة من قوة الإيمان وصدق الطلب، وقوة الصبر على التحمل تعكس الروح التواقة للجنة ونيل رضا الله.
مكارم الأخلاق هذه تضحى دافعا للعمل الدؤوب والاجتهاد في العبادة والسلوك إلى الله، وبذلك تعلو الهمم؛ حين تصحب القلوب الحية تتخلق بأخلاق أصحابها، تتطبع بطباعها، يقول سيدي عبد القادر الجيلاني في الفتح الرباني: “اصحب أرباب القلوب حتى يصير لك قلب. لابد لك من شيخ حكيم عامل بحكم الله عز وجل يهذبك ويعلمك وينصحك” (ص 330).
فمن ألزم نفسه التحلي بالفضائل وتكلفها حتى تصبح طبعا له، واستكثر من الأخلاق الحميدة وجاهد نفسه على التخلي عن الرذائل حصل له خير كثير، واندفع عنه شر كثير، جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه” (رواه الطبراني وغيره)، وفي رواية أخرى: “ومن يتصبر يصبره الله” (رواه البخاري ومسلم).
ثم إن أقصر طريق لقلوب الخلق التفاني في خدمتهم، وقد قيل سيد القوم خادمهم، والخدمة تقتضي تواضعا ومحبة وتوددا للناس بالزهد فيما عندهم، وتوفير حقوقهم واحتياجاتهم لتحقيق العدالة الإنسانية، وأعظم حق هو تحرير الإنسان من عبودية غير الله، وتحرير إرادته في التعبير والاختيار.