مقدمة:
من خلال استقرائنا لنصوص القرآن الكريم، يلفت نظرنا مركزية “خُلق الرحمة”، وكيف اختارها الله تعالى، بأن جعلها صفة دالة عليه، وخلقا يعامل به الخلق -كل الخلق-، قبل أن يصبغ بها المصطفين من عباده، والدعوات والشرائع الخالدة، التي يحملون لواءها، فالرحمة قضية كونية، صاحبت الوجود، وكانت وما زالت ناطقة باسم رب الوجود سبحانه، ومعالمها لم تغب عن العالم المشهود، فضلا عن كل رسالة من رسائل السماء، ولا خلق نبي من الأنبياء عليهم السلام، ولا أتباعهم الموفقين سلفهم وخلفهم، خصوصا في مواجهة تبعات الدعوة على مر العصور، إنها قضية إنسانية إذن، أرادها الله تعالى، أن تصيب كل الإنسان، بل كل المخلوقات، سواء خضعوا لعبوديته طوعا، أو كرها، والقرآن الكريم، والسيرة النبوية يؤكدان هذه الحقائق في صور تحير العقول، وتثلج النفوس والقلوب. فالرحمة منهج ثابت في الكون، سنة كونية، لا تستقيم الدعوات إلا بها، ومادام الحق سبحانه هو الرحمن الرحيم، فالدعوة إليه، وإلى دينه ومنهجه لن تكون إلا رحمة، ومن سلك غير ذلك فقد ضل سواء السبيل، وخالف سنن الله الكونية في دعوته، وابتدع في شرعه ما برئ منه الحق سبحانه عندما قال في محكم الكتاب: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ 1.
1- تجليات رحمة الله العامة:
من الأسماء الحسنى التي سمى الله بها نفسه “الرحمن الرحيم” ولم تخل سورة من القرآن الكريم -عدا التوبة-، إلا وصدرت بها الصفتان الجليلتان، والله تعالى أخبر أنه: كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ 2 وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 3، وسعة رحمته هذه تعم الخلق كلهم، مؤمنهم وكافرهم، إنسهم وجنهم، بل كل ذي روح من حيوان وهوام وغيرها، وهذا منطوق قوله عز وجل: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ “عموم، أي لا نهاية لها، أي من دخل فيها لم تعجز عنه. وقيل: وسِعت كل شيء من الخلق حتى إن البهيمة لها رحمة وعطف على ولدها(… ) طمِع في هذه الآية كل شيء حتى إبليس” 4، ويخبرنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالاختيار الرباني لهذه الرحمة منذ الأزل، لتكون الصفة الحانية الدانية، والسابقة الدائمة، التي يعرف الخلق بها خالقهم، ويحنون إليه مهما تاهوا، وابتعدوا، وعصوا، وتجبروا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لما خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ، كَتَبَ في كِتَابٍ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إِنَّ رَحْمتي تَغْلِبُ غَضَبِي” 5، وتجليات رحمة الله تعالى في كونه، تارة يشاهدها الخلق، ويلمسون لطفها وحنوها، في قطرات غيث تروي عطشهم، وتسد رمقهم، وتطهر دنسهم، أو رحمة عفو ومغفرة، تقيل العثرات، وتمحو الزلات، أو هدى يصيب القلب المنتكس الضال، في ظلمات الكفر والجهل، فإذا برحمة الله تنير قلب العبد بنور الإيمان، وهل ما يتراحم به الخلق فيما بينهم، فيتألمون لبعضهم البعض كلما أصابتهم ضراء، ويسعدون إذا مستهم سراء، ويذرفون الدموع غلبة عن إرادتهم، إلا أثر من آثار رحمة الرحمان الرحيم؟ وكيف يستقيم للأبوين -إنسان وحيوان- أن يفديان صغارهما بأرواحهما، ويشقيان ليسعدوا، ويجوعان ليشبعوا، لولا تنزل رحمات الله على قلوب الكبار لتنساق طوعا وتستجيب بكليتها لضعف الصغار، وهذا بيان الحبيب يشهد لما سطره واقع الحال فيقول: “جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه” 6، وكم قص الله علينا في القرآن الكريم، من صور الكفر والجحود والنفاق والبغي والظلم والتقصير في حق الله تعالى، فيتلطفهم بعد ويدعوهم برحمته إلى التوبة واصفا نفسه بالغفور الرحيم.
ويتجلى الله برحمته تارة أخرى، بما لا يعيه العبد ويفقهه، فينقبض أو يتأفف، وربما سخط وكفر، إذا عميت بصيرته، وران على قلبه ما كسبت جوارحه، فكم من مصيبة عدها العباد نقمة في الظاهر، وهي رحمة من الله، فيكره القصاص مثلا، لبشاعته وثقله على النفوس، لكنه أغفل مراد الله فيه، فهو رحمة منه لحماية حياة الخلق، وصونها من الفوضى والانتقام، وحفظ الأموال والنفوس والأعراض، لهذا وصف الله القصاص بالحياة فقال: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 7 “القصاص إذا أقيم وتحقّق الحكم فيه ٱزدجر من يريد قتل آخر، مخافةَ أن يقتص منه فحييا بذلك معاً. وكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حَمِيَ قبيلاهما وتقاتلوا، وكان ذلك داعياً إلى قتل العدد الكثير؛ فلما شرع الله القصاص قَنِع الكل به وتركوا الاقتتال؛ فلهم في ذلك حياة” 8. وما يقال في القصاص يقال في الجهاد وغيره من الأحكام، التي يبدو ظاهرها عذاب ونقمة، لكنها في حقيقتها وأصلها حياة ورحمة.
وبعد، فكان هذا هو المفتاح، الذي اختاره الله تعالى، أن يكون دعوة منه في الخلق، لتتوارثه الرسالات السماوية المبلغة عن الله، في أشخاص المصطفين من عباده، رسلا وأولياء ودعاة وصالحين، مَّا يَفْتَحِ اللَّـهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 9.