خلق الزوجين الذكر والأنثى من نفس واحدة أحد آيات الله الكبرى في كونه الفسيح، تتقلد أمانات، يعتلي عرش أهميتها تحقيق مناط العبودية لله وحده والاستخلاف. سبق علم الله عز وجل بمن يصلح ويفسد في أرضه إخبار ملائكته الكرام بالبشري المفسد في الكون أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ (البقرة، 30)، حيث نبصر بحسرة وأسف اليوم الإنسان الجاهلي المدعي للحضارة والإنسانية يفسد في مواثيق الله عز وجل ومنها الميثاق الغليظ، إلا أن سنن الله في ملكوته تظهر وتوقظ همما إنسانية مصلحة في كل زمان عرفت ربها ودينها، وهو القائل سبحانه وتعالى جلت قدرته: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (البقرة، 30).
يقول الله جل وعلا في سورة هود: هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (هود، 61)، إنشاء آدمية الإنسان من الأرض واستعماره – استخلافه – فيها مصدرهما واحد: الله رب العالمين. كذلك المرجع والمصير له سبحانه لينتظم ناموس الكون وفق ما اقتضاه بميزان دقيق كما فطره أول مرة. إن هذا الخلق العظيم لا يقبل أي إخلال أو شذوذ يزيغ به عن الفطرة الأولى في ماهية وحقيقة خلق الذكر والأنثى. فلا يليق الإفساد والنشوز عن الطبيعة الفطرية لمن كرمه الله تعالى وميزه على مخلوقاته.
ليسكن إليها
علت ضوضاء الجاهلية المفسدة المخربة للفطرة والحق، وخفت السكون والأمان في الأرض. فلا غرو أن يصف رب العزة علاقة الزواج “بالسكن إلى” ويجعله أهم شروطه ودعاماته. جعل الوحي سكن الذكر إلى الأنثى أحد أهم نواظم الترابط في عهدة الميثاق الغليظ. هو أمر لا يعم مؤسسة الزواج فيثبتها فقط بل ينتشر سكونه في الكون، فنواة الفطرة السليمة للبشرية لا تصان خارج الميثاق ولا تحتضن في مستنقع الخنا والشذوذ والانحلال الجنسي.
يسود الأمان والسكون ما طبعه الله بالقداسة والمتانة الموثقة من السماء وبكلمة الله سبحانه “الميثاق الغليظ”. يسكن ذكر إلى أنثى. كل طرف يمتزج ويتوافق ويتكامل مع الآخر جنسيا، وآدميا، وإنسانيا، بتوثيق إلهي قبل الوثيقة القانونية. وإنما تنحل ويتحلل وثاقه وتتفسخ عراه حين يعبث به العقل المادي الغارق في جاهلية القرن، وتتحكم فيه دوابية صماء عمياء عن الوحي وشريعة الله السمحة. يحيلنا ما سبق إلى تساؤل وجيه وهو: كيف استوحلت أمة الوحي والنبوة في خضم هذا العمى والمسخ الجاهلي، والطلاق والتطليق، وعزوف الشباب عن الزواج، وأضحى التفسخ الأسرى في تصاعد رهيب، ناهيك عن آفات اجتماعية أخرى، على سبيل المثال لا الحصر، تعصف بإنسانية الإنسان وآدميته؟
الغواية الإبليسية
كان الاستخلاف نداء وأمانة في عنق الإنسان من البارئ تعالى شأنه. ولما استوحش آدم في الجنة خلق الله من ضلعه ناحية القلب الأنثى “أمنا حواء”، فامتزج الطين بمن يسكن إليه من نفسه وجنسه. لكن سنة الله الأزلية في كونه تمتحن هذا الآدمي، إنها الشيطنة الإبليسية الساعية على مر العصور إلى تقويض الفطرة وتغيير ما خلق الله استكبارا وتعنتا عن مراد الله في كونه. كانت أول نواة أسرية تختبر وتبتلى في عبوديتها لله وتمام الانصياع لأمره سبحانه بعد أن استزلهما الشيطان، وستظل العبرة والاعتبار للخلف من الأجيال. فمن اختار طريق عصيان ربه فقد غوى وظلم نفسه فقد سبق التحذير الإلهي الناس من قبل وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ (البقرة، 34). القرب لم ينقطع منذ ذلك الابتلاء، يتكرر كلما فر الإنسان من ربه وارتمى في أحضان عالم التكاثر الجاهلي والفتنة العارمة. يوثق الوحي تقلب ابن آدم في هذا الابتلاء الأزلي وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ (البقرة، 36)، وفي الأخير يفصل بين مسار الهدى واتباع صراط الحق وبين الضلال قُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ مِنۡهَا جَمِيعٗاۖ فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُون (البقرة، 38).
التوبة الآدمية تهدم أماني الغرور الملعون وجنوده في تشييد صرح الاستكبار والإفساد في الحرث والنسل يقول جل وعلا: فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ (البقرة، 37)، التوبة رجوع وإعادة بناء ما تقوض وانجرف عن فطرة الله. العداوة الأزلية تحارب في ابن آدم الفطرة وكل الطرق المفضية للاستقامة لتزيغ به عن مسار العبودية لله التي استكبر عنها إبليس الملعون فكان من الغاوين.
ما كان الأكل من الشجرة إلا امتحانا لابن آدم. شهوة من شهوات الإنسان المتعددة قد يسقط فيها في حالة ضعف أو زيغ ووسوسة، يستمر مسلسلها في أشكال تزيين الفاحشة وتبريرها، وتسهيل سبلها، ثم تسخير أبواق الإعلام وجنده من أبالسة البشر لذلك. كان التوجيه النبوي حكيما في الحد من نزيف العزوف عن الحلال في صفوف الشباب حال العجز أو عدم الاستطاعة، فرغب في طاعة أخرى تحصنهم ريثما يسكن هياجهم بزوجة في مستقبل الأيام. أشار صلى الله عليه وسلم إلى عبادة الصوم فهو لهم وجاء وتزكية عن الرذيلة، وإخماد لداعي الشهوة.
تسعى أحابيل الشيطنة وتتعاظم أمام بعد الإنسان أو إعراضه عن معرفة خالقه وكنه مصيره بخطوات متسارعة لانتزاع عبوديته لربه عز وجل. فحين تستبد به يستجيب ابن آدم لداعي إمتاع اللذة خارج الطبيعة البشرية، وفي إقصاء لشريعة الله عز وجل، وبعيدا عن حصانة الزواج، يلخصه القرآن في الوعيد الإبليسي للإنسان المفتون الغافل: وَلَأُضِلَّنَّهُمۡ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمۡ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيۡطَٰنَ وَلِيّٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدۡ خَسِرَ خُسۡرَانٗا مُّبِينٗا (النساء، 119). وعد الملعون الكذوب ينفذه في مجتمعات الإسلام بعدما اكتسحتها صواعق الجاهلية العمياء تريد الإجهاز على بقية الخيرية في أمة الإسلام. صراع فكري يعيشه الشباب المسلم بين شرع الله الحكيم وسعار الإيدلوجية العلمانية التي ترعى التطبيع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وعبره تبث سموم التطبيع الجنسي تحت مظلة المساواة والحرية والحقوق الملغومة.
الشيطنة الإنسية
آية من آيات الله هو الزواج. “سكن إلى” وليس مع، إذ المعية هي الظاهر المهيمن الآن في الزيجات الحاضرة. معية مادية واجتماعية مفتقرة لروابط المودة والرحمة المنبعثتين من صميم مخافة الله سبحانه. يقول الله تعالى مخاطبا بني الإنسان خطاب كنه الوجود، وكنه الألوهية، ومقصد الخلق للذكر والأنثى: يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا (النساء، 1)، إن الحصن الحصين في شريعة الوحي والتقوى. إنما ذكرت آيات الله الكونية والبشرية في طيات الذكر الحكيم للتفكر والتذكر، وتعميق معرفة الإنسان بربه وبأنعم ومنن مولاه اللطيف الخبير عليه، فلا يطغى ولا يظلم نفسه والغير. فلولا الميثاق الغليظ لأمسى الكون حظيرة للبهيمية والفحشاء، ولتهاوى النوع البشري إلى حضيض الزوال والاضمحلال، هو القائل سبحانه: كُلُّ شَيۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ (الرعد، 8). ترى ما الذي فصم الإنسان عن منبع وجوده، وعن الغاية والمصير؟
الغواية التاريخية التي أعلنها الغزو الجاهلي الاستعماري خاصة لأرض المسلمين. أمعن وكلاء المد اللائكي والعلماني في بلدان المسلمين في إقصاء الدين عن الحياة والدنيا عن الآخرة في حياة المسلمين. أضر أكثر بالجانب الاجتماعي والأخلاقي واستهدف الجوهر: المرأة والطفل، ثم شن الهجوم المضاد على الأسرة. نظر وقرر وسن قوانين منبثقة من شريعة السوق الجاهلية تطحن باستمرار الفطرة والميثاق الغليظ.
فرق طاغوت الاستكبار شمل المسلمين وبعثر الاستبداد المحلي شمولية الإسلام دينا وسياسة واجتماعا؛ فأسقط الشريعة، ورفع علم القومية والعلمانية وليبرالية حقوقية مفرغة من العدل الإنساني مزورة للحريات. في الألفية الثالثة الزواج الإسلامي تحت التهديد الاستكباري العالمي والذي يمسك زمام أمره المشروع الصهيوني المدمر للأرض والإنسان والهوية. روحه الجاهلية الخبيثة شيطنت البشرية سياسيا واقتصاديا وفكريا، وأغرقت الإنسان في حضارة الأشياء الدوابية المنكرة لأصل الخلق والخالق، المقدسة للاستهلاك واللذة. المستكبر المتعجرف الغالب بتصنعه وتحكمه في خبز العالم يريد تحريف الخريطة الاجتماعية المسلمة، فيعمد إلى اقتلاع أسس الأسرة عبر تشجيع الجندرة أو حرية التوجه الجنسي للذكر والأنثى وتشجيع زواج الشواذ. لا عجب في وقتنا الراهن أن تمتد يده الإفسادية إلى آدمية وذكرانية وأنوثة الإنسان، فتدس سمومها العلمانية واللائكية في قضايا المرأة والأسرة والزواج. ليس اعتباطا ولكن هو تلويح في الأفق أن حرب استئصال الفطرة المسلمة السليمة على مشارف الأبواب إن استسلمت أمة الإسلام -خير الأمم- لوهنها ونومتها القرونية.