كتبت الأستاذة ندية ياسين، كريمة الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، بمناسبة الذكرى التاسعة لوفاته، مقالة زاخرة بالمعاني فياضة بالأسرار جزلة في الأسلوب، بثت فيها أشواقها وحملت معها قراءها إلى آخر زيارة لها لأبيها الإمام.
فيما يلي نص المقالة الماتعة التي نشرتها على صفحتها في الفيسبوك.
بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين
أهدي للأحبة في الذكرى التاسعة لرحيل والدي رحمه الله هذا النص راجية منهم الدعاء . سيتبعه إن شاء الله في الأيام القادمة نص بالفرنسية.
الزيارة الأخيرة
ندية ياسين
مرت تسع سنوات لم أستطع فيهن الخوض في بحر الذكريات، بحر لجي تتلاطم فيه أمواج ما هو قابل للتعميم وما هو خاص، ما يحكى ويروى وما هو شخصي قطعي الخصوصية. ربما منعني نوع من الاستعظام وشيء من الاحتشام، أو لربما هو الحداد الذي استفحل ولم أستطع تجاوزه إلى اليوم. وهل من الممكن أن ينتهي الحداد على شمس كانت تملأ دنيانا ضياء وتدرأ ظلام أنفسنا وتدفئنا من جور الأغيار وقر الأقدار!
نظرة منه وكأن الربيع قد أزهر في أعماقنا! ابتسامة منه وكأن الخدوش التي يتركها حتما اقتحام عقبات الحياة قد أصبحت شامات يفتخر بها. كان كوكبا ذريا تتراقص من حوله البركات، له هالة ربانية زاد إشعاعها تلألؤ قبل انتقاله إلى الدار الآخرة حتى أصبح وكأنه كتلة من نور. كأن بشرته مشكاة فيها مصباح، بشارة لامحالة ولكنها أيضا نذارة برحيل وشيك.
في زيارتي الأخيرة له كنت برفقة أخي كامل، وكانت تخيم على أفئدة كل الأسرة غيمة موته القريب، تقض مضجعنا وتضفي الكآبة على صفو الانجماع في حضرته. كنا نحس أن المولى عز وجل يستجيب لما يخالج صدورنا من دعاء المستنجد برحمته فلا يتركه إلا لكي تكتحل أعيننا بفردانية بهائه لبعض الوقت، لبعض الأيام، لبعض الأسابيع…كنا ندعوه سبحانه سرا وجهرا أن يطيل في عمره ولا نبالي بما كان في الأمر من أنانية، ذلك لأنها أنانية أنجبها رحم حب لا منته.
كنا نرفض أن نعتبر واقع بشريته السجينة في الجسم المبارك الذي أنهكه طريق العلا والمجد الأبدي. بريق روحانيته الراقية ونباهة ذهنه العالية جعلانا لا نراه إلا في حلة شباب سرمدي. لم نكن نعطيه الحق في مفارقة هذا الجسد الذي نالت منه شيخوخة نسج خيوطها جهاده المستمر. كيف لا تنهك شبحا من طين سيول من أعمال خير سقت حقبة من الزمان فأنبتت زهورا ونخلا وأجيالا من الصالحين؟
كيف لا نطمع في مزيد من هذا المعين ولا ندعو ونتضرع ؟ غير أن اللوح المحفوظ قد جف حبره ولا مفر من جبره. سيرت كف القدر لتفك قيده بعدما شرب من كأسها كثيرا من المرارة وهو على خطى من أحب حبا جما، وحبب إلينا: سيدنا رسول الله عليه الصلاة السلام. سار على دربه إلى آخر رمق. ألم تجب سيدتنا عائشة رضي الله عنها الصحابي الذي سألها هل كان الحبيب يصلي جالسا، ”نعم، حينما أتعبه الناس.”!
لقد أتعبناه بل أرديناه رضي الله عنه، وكنا لما نسأله عن ” حال الرجيلات ” يقول بعذوبته المعهودة وعلى محياه ابتسامة الرضا بالله:” شكون داها فيهم؟”
في تلك الزيارة الأخيرة أجهد نفسه كي يستقبلنا في” المكتب”، علما منه بدلالات هذا المكان الكثيرة أوكدها أن حضوره فيه كان يطمئننا. إنها غرفة لا تشبه في شيء مكتبه الفاخر لما كان مدير” المركز الوطني للمفتشين” الذي كنت من حين لآخر أزوره فيه وأنا طفلة. ليست فيه طاولة ومقعد كما يفرضه النمط المعهود، بل كان يجلس فيه متربعا على زاوية من سجاد أنيق نظيف أمام القبلة. يقرأ أو يكتب أو ينصت إلى هذيان العالم من خلال برنامج ما في المذياع أو في التلفاز عبر قنوات مختارة لجديتها بعد أن يقول في دعابته المعهودة : ” أجي نشوفو آش تيقول هاذ صندوق العجب.” أحيانا كان يفتح أحدهما حتى يصرف اهتمام زائر قد يخوض في موضوع يسوئه أو يثقل عليه دون أن يزجره أو يعرض عنه، إلا إذا كانت غيبة صريحة.
نعم، كان مكتبا لا ككل المكاتب، من أثاثه المتواضع مرافع في متناول يده الشريفة وهو في محراب القراءة والإنجاز. تحتوي المرافع على بعض كتب خزانته الغنية وبعض الأدوية جلها طبيعية وحاسوب سرعان ما أتقن استعماله، بل علمنا بعض أسراره. كتب لطالما أثرت نبوغه وأرست معرفته بالكون وفاطره، وأدوية تتصدى بشجاعة إلى ما فعل الزمان بثمانين سنة ونيف من الكفاح. كان إذا سأله أحدنا عن صحته يقول مبتسما:” ثمانون سنة مرض في حد ذاته. لا داعي للسؤال.”
المكتب! غرفة بسيطة متواضعة لكنها كانت كأنها غرفة من غرف الجنة حين تعطرها ”ماما خديجة” بالعود و بحضورها الملائكي الذي كان كافيا لتعطير المكان والزمان. فهي كانت روح المكان وريحانه، نبع الحنان وكوثره. أم رؤوم، لم تمل ولم تكل أبدا. كم شربنا من مددها في كؤوس الشاي التي لا يشبهها شيء ولا شاي. ندماء كنا، نقتسم مأدبة المحبة والنقاء والصفاء بين يدي جبل عملاق يبسط لنا جناح الذل من الرحمة. غير أنه إذا نادى المؤذن كان عنده بمثابة النفيرالعسكري كائن من كان زائره. يهجر الكلام ويقف ليؤذن ويقيم الصلاة متجاهلا الكل ما عدى الوقوف على سجادة صلاة تطير به نحو معاني العبودية فالوصال. لم يفتر يوما ولم يغفل قط عن النداء، في العافية وفي البلاء، في الصيف وفي الشتاء، في السلم وفي العداء. الصلاة! الصلاة! الصلاة في وقتها بفجرها و نفلها. جندي باسل في هذا المجال لم يهرب يوما من جنديته كما لم يفته صيام حتى وهو يحتضر.
المكتب ! حقا كان محرابا لا بد أن يخرج منه الزائر بغنيمة تليق بنيته والغنائم شتى، أعلاها فسحة في روض من رياض الصالحين وذكر الله وأدناها معرفة كونية أو لغوية. كان فضاء لا يغادره بالنهار إلا إذا غلبه المرض فيلزم غرفته. كنا نفرح أيما فرح حينما نجده فيه، كأن حضوره هناك علامة انتصاره على السقم.
لذا كابد التعب ذاك اليوم، كي يستقبلنا أنا وأخي في زيارة الوداع. أجهد النفس عطفا علينا وهو يلفظ من آخر أنفاسه الطاهرة. فعلها كي لا يضرم النار أكثر مما هي مشتعلة بين أضلعنا ونحن نراه يرحل رويدا رويدا. استقبلنا في المكان المعهود كي يعطينا آخر درس في الصمود حيث كان يقول أن ” الإرادة عطاء رباني أقوى من كل مانع”.
رضي الله عنك أبتي، يا من خضت معارك تستدعي إرادة فولاذية فانتصرت، و صبرت و نصحت و شيدت وسيدت و كتبت ونبهت و بشرت وبصرت ورحمت وعفوت. كل هذا دون أن تستكين إلى ضعف البنية ونحافة البدن، ما كان ليمنح غيرك ألف عذر للخنوع والكسل.
وجدناه يومها ممددا في مكانه على غيرعادته ، كأن الموت كسب شوطا من أشواطه. أخبرنا بالأمر لون بشرته التي علتها صفرة الراحلين. حاولنا أن نتماسك ولا نظهر ما خالج الفؤاد من أسى وألا نترك الدموع تنهمر فتؤديه. لكن نظراته الثاقبة كانت تقرؤنا كأننا كتابين مفتوحين. كأنه ينظر إلى شظايا قلبنا المنكسر تمزق دواخلنا بلا شفقة. لم أذكر الحوار الذي تصدق علينا به رغم حاله. الأمر أجل من أي كلمات. سكت الكلام بينما الأشباح تتوادع والعيون تتبادل آخر النظرات…أيقنا أنها آخرزيارة للجنة فوق الأرض.
ربما أحس الحبيب بما شعرت به من انكباب في هاوية من الحزن. ليس نسبي الطيني إلا جزء من انتسابي إليه. لقد كان والدي وشيخي وسندي وملجئي ومعلمي ورفيقي ومنارتي ! قال لي بابتسامته التي أفتقدها اليوم وكل يوم : ” أش ظهر ليك تكتبي ذكريات مع أبي؟ ” تسارعت دقات قلبي. غار الألم في الأعماق واشتعلت النار في هشيم مشاعري المبعثرة. إنه النعي المؤكد! إنه امتحان صمود يقيننا أن الموت ليست إلا انتقالا إلى آخرة سيلتقي فيها الأحبة. لقد عاش، رضي الله عنه، العمر كله يعلمنا هذا بكل ما يملك من وسائل، بالمقال وبالحال. في كل نفس، بالعبارة و بالإشارة. لطالما وعظنا حينما كنا ننزعج لموت أحد وذكرنا أن الموت تحفة المؤمن !
نوقن بهذا أبتي، لكن فراقك ليس ككل فراق. نؤمن بهذا لكنك الطود والملاذ ولا تحلو الدنيا إلا بك ومعك. لن نقول إلا ما يرضي المولى لكننا على فراقك لمحزونون …لمكروبون …لمغمومون !
لقد اقترحت ما اقترحت من كتابة ذكرياتي معك ولا أدري إن كان دليل ثقتك أم أنك أهديت لي زورق نجاة يخرجني من بطن حوت الحداد الذي التقمني وأخي عند رؤية محياك الصبوح والموت قد أصبغ عليه بصماته الأولى. أو لربما هو نوع من حبل سري سيربطني بك رغم برازخ الموت مقاوما الأبعاد كي لا يحول بيننا حائل … رحمك الله والدي الحبيب وألحقنا بك فأنت الجنة وأنت النعيم…
لا أزال اليوم وأنا أكتب هذه الكلمات لا أستطيع أن أكبح النحيب، فتيقنت أن الحداد سيبقى رفيق الدرب إلى يوم نلقاك.