كنت صغيرا، وكانت جدتي تحبني.. كلما عدت من صلاة الفجر، أجدها جالسة وفي يديها سبحتها تعصر حباتها وكأنها تريد النور..
تعيش جدتي في قصص الأنبياء.. يقول جدي أنها تهلوس، فمنذ رمضان الماضي وهي ترى رؤى وتسمع أصواتا وتدعي أنها تكلم الأنبياء..
أنا الوحيد الذي يصدق جدتي لذلك كانت تجعلني بطلا لحكاياتها..
حكت لي يوما أن سيدنا نوح أخبرها عن وقت قدوم الطوفان..
قال لها أنه يحتاج أخشابا ومساميرا لبناء سفينة.. سفينة ضخمة ستعصم المؤمنين من الماء.. طلب منها مساعدته، لم تتردد جدتي، ولم تسأل سيدنا نوح عن مصدر الماء، فلم يكن بالقرب نهر ولا بحر ولا واد.. كانت جدتي مؤمنة ومصدقة وصادقة..
طلبت مني مرافقتها لجلب بعض الأخشاب اليابسة من سفح الجبل القريب من البيت.. تظاهرت بتصديقها، مفضلا البقاء داخل رؤياها لأطول فترة من الزمن.. كنت أريد أن أمنحها الثقة كي تكمل، ثم إني أحبها..
عندما اقتربنا من سفح الجبل، حدجنا ابن سيدنا نوح بنظرة صارمة حانقة غاضبة.. أمسكت جدتي بيدي و لم تعره اهتماما.. ابن سيدنا نوح يمتلك بيتا واسعا على قمة هذا الجبل.. كثيرا ما سمعه الناس يتباهى بعلوه وحصانته من العدو والريح والحريق..
حين وصلنا الهضبة القريبة من الجبل، استغربت جدتي لمنظر الأشجار المقطوعة بكثرة.. بدت السماء منخفضة ورمادية والغابة كئيبة وحزينة..
انتبهنا إلى حفرة عظيمة مملوءة حطباً وخشباً وأشجاراً يابسة..
فجأة شاهدنا مجموعة من الكهنة على وجوههم ابتسامة كريهة ومن عيونهم يتطاير الشرر.. اقترب أبشعهم من الحفرة وأشعل نارا هائلة.. تصاعد اللهب إلى السماء.. كان صوت النار وهي تلتهم الخشب يثير رهبة وجزعا..
من بين الدخان شاهدنا سيدنا إبراهيم جالسا وسط ألسنة اللهب وكأنه يجلس وسط حديقة. يجلس القرفصاء متلفعا بإيمانه ويقينه، وجهه يتلألأ بالنور والجلال..
تصاعدت صيحات الدهشة الكافرة لكبير الكهنة ولجموع الدهماء الحاقدين، فامتلأ قلبي بالخوف والرهبة والجزع، لكن قلب جدتي كان كبيرا ومليئا بالحب وحده..
اختارت بعض الأخشاب السليمة والتي تصلح هيكلا للسفينة، ثم طلبت من سيدنا صالح أن يساعدنا في حملها.. لم تكن ناقة الله قد ولدت بعد من صخور الجبل.. فأرسلتني جدتي للبحث عن حمار سيدنا العزير فاعتذرت لها..
جدتي بارعة في أن تجعل مستمعيها أبطالا لتفاصيل حكاياتها..
..
عدنا للقرية.. في الطريق سمعنا صوتا شجيا عذبا معجزا.. كان صوتا يسبح الله وحوله تسبح صخور الجبل والطير و الوحش والعديد من الكائنات.. صوتا دافئا يجعل الناس تركع ويبكي الآثمون وتنتحب النساء ويسجد المؤمنون..
كان مزمار سيدنا داود يثير حالة من الشجن وهالة من نور.. سيدنا داود كان مجرد راعي غنم طيب وبسيط.. منحنا بعض الماء والطعام وجلس ينظر إلينا بعينيه الطيّبتين.. كان صائما كعادته.. فهو يصوم يوما ويفطر يوما.. لاحظت جدتي بين يديه قطعة حديد يعبث بها.. كان يحركها بسهولة وهي بين يديه هينة لينة طيعة.. حكت له عن نية سيدنا نوح في بناء سفينة وأنه يحتاج أخشابا ومساميرا، فابتسم.. عندما أنهينا الأكل مدّ لنا قطعة الحديد وقد حوّلها إلى مئات من المسامير..
قطعت جدتي طرفا من ملحفتها، وضعت فيه المسامير حتى لا تضيع وساعدنا في حمل الأخشاب فتية الكهف يتبعهم كلبهم.. جدّتي لا تعرف الحساب، مرة تقول كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم ومرة تقول خمسة ومرة سبعة.. لا ألح في سؤال جدتي عندما تحكي ولا أحب أن أقاطعها..
المرة الوحيدة التي قاطعتها عندما سألتها هل شاهدت سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم..
بكت جدتي كثيرا وانتحبت، ساد صمت طويل قبل أن تقبل جبيني وعلى شفتيها ابتسامة شاسعة..
لم تحبني أبدا عن سؤالي، لكنها حين ماتت تركت لي ورقة مكتوب عليها:
من سرّه أن يكتال بالمكيال الأوفى حين يصلّي علينا آل البيت فليقل: اللهم صلّ على محمد النبي الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صلّيت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد…