“من فضلُكم، من فضلُكم”… كلمات لاتزال عالقة في تاريخ اليمن ومعه الأمة العربية المسلمة حينما كانت البهرجات الفلكلورية تقام لدعوة الرئيس للعدول عن رأيه المزعوم علنا في عدم نيته الترشح مجددا لكرسي الرئاسة، وهو الذي عمر فيه عقودا من الزمن، فكان يجيبهم بهذه الكلمات طالبا منهم الهدوء. كان علي عبد الله صالح مصمما على الخروج من قصر الرئاسة وعدم العودة إليه، وهو الذي أسكن جل أقاربه في المناصب العليا. كان الرئيس اليمني حينها المتعب بهموم السياسة، المسكين المنافح عن وحدة اليمن ومستقبله قد أعيته السنوات الطوال العجاف التي حكم فيها اليمن والتي رزح فيها هذا البلد تحت قبضته الحديدية هو وزمرته، بيد أن جموع الشعب العظيم المولع بحب رئيسه حتى الثمالة أبى أن يمتع الرئيس ولو بقسط من الراحة…
نفس الشعب سيخرج بعدها بفترة قصيرة بالملايين لينادي بصوت واحد الشعب يريد إسقاط النظام) فماذا حدث بالضبط؟ هل بدل الشعب غير الشعب؟ أم إن الشعب العظيم غُسل دماغه وفؤاده فانقلب هواه من حب رئيسه المغوار إلى السخط العارم الذي تجلى في الملايين الهادرة التي ملأت الساحات والميادين وما كان لها أن تتركها لولا تدخل أنظمة دول مجاورة مخافة أن تنتقل إليها العدوى – وهي الأكثر هشاشة من النظام اليمني – في مجريات الأمور، كما أنه هو نفس الرئيس الذي سوف يأمر حرسه وجيشه بفتح نيران سخطه على الثائرين في وجهه، لم يقل علي عبد الله صالح حينها من فضلُكم، من فضلُكم، قراري لا رجعة فيه)، بل كان لسان حاله يقول قد حسم الأمر أنا على كرسي الرئاسة حتى الممات.
نفس الأمر وقع في ليبيا، الأخ القائد، قائد الثورة، الذي تهواه جموع الشعب، ستقتله هذه الجموع نفسها أمام الأشهاد بعدما أصبحت جرذانا لا تستحق العيش في نظره، فما كان منهم إلا أن قتلوه في المجاري حيث تسكن الجرذان، كذلك تونس ومصر وسوريا وغيرها، وقبلها كان صدام حسين قائدا ضرورة في تاريخ العراق للحفاظ على مجد العروبة الذي لم يره سوى صدام وأمثاله، حتى غدا هذا المجد والحفاظ عليه كابوسا يؤرق العراقيين الذين التزموا الصمت والشك حتى في أقرب المقربين لهم مخافة أن يزج بهم في قلاع التنكيل الممنهج.
هي نفس القصص المأساوية تتكرر على طول تاريخ الامة الإسلامية بعد أن أحكمت يد الجبر قبضتها على خيرات البلاد ورقاب العباد على حد سواء، حتى هبت الطلائع الغاضبة في الأمة في انتفاضات أعادت بعضا من روح الكرامة في الأمة، ومع ذلك بقي السواد الغالب في الأمة تغلب عليه عقلية القطيع ونحلة الغالب، لا يحركون ولا يتحركون، ينتظرون فقط أن يفعل بهم ولهم، ليس لهم رأي – مجرد رأي – فيما يخطط أو يكاد لهم، هم مع الغالب كيفما كان وأيا كان، هذه العقليات تمد في عمر الفساد، بل وتصنع الطواغيت التي تتحكم فيها فيما بعد.
نرى اليوم كيف يسبح الكل بحمد القائد المنقذ من الخراب والإرهاب في مصر، كيف أصبح الكل يتغنى ببطولاته الوهمية التي طالما راودته في أحلامه – أحلام نومه أضحت كوابيس يقظة لجموع غفيرة من المصريين – بدأت تقتنع أن بطولات المشير مجرد سراب ظنوه ماء في وسط صحراء الخيبة القاحلة حتى إذا جاؤوه وجدوه عذابا، الغريب في الأمر أن النخب المدنية الممدنة أصبحت تطالب القائد العسكري بدخول معترك السياسة من أوسع أبوابه، ولا يهم إن دخله على ظهر الدبابة أو الطائرة الحربية ما دام سيقضي على خصومهم السياسيين، ألا بئس المدنية مدنيتكم ومبادئكم… وصل الأمر إلى أن خرج علينا عرابهم بنظريته الغريبة التي لم يسبقه إليها أحد، حينما نعت البطل المنقذ بأنه “مرشح الضرورة”، وهو مالم نسمع به من قبل إلا عند عراب الانقلابات منذ عهد عبد الناصر.
إن ما يحصل في مصر الآن يعيدنا لا محالة إلا عهد الأبيض والأسود حيث كان القائد المتحكم في رقاب العباد وخيرات البلاد ضرورة، وعند الحديث عن الضرورة فلك أن تتحدث عن تجاوز الحدود والخطوط في مواجهة الأصوات المعارضة.
ليس المشكل في أن تتوافق الأمة على شخص يرون فيه الصفات التي تحقق بالتعاون مع مجموع المخلصين من الشعب انطلاقة جدية نحو الخروج بالشعب من وهدة انحداره المقيت، لكن أن يخرج على الشعب شخص ومن ورائه عصابة بقوة الحديد والنار التي هي أصلا من أموال الشعب لتتحكم هذه الفئة في مصير البلد بأكمله، وتساندها في ذلك فئات كانت تدعي إلى وقت قريب الدفاع عن حقوق المواطنة، فهنا أصل البلاء وموطنه، ذلك أن صناعة القائد الضرورة في أي بلد هي في الحقيقة صناعة للديكتاتورية بأبشع تجلياتها، إن هذه العقلية التي عمرت في أوطاننا ردحا من الزمن لا بد لنا أن نقطع معها قطيعة لا رجعة فيها، ولبلوغ هذا الهدف النبيل لا بد لنا أن نقف عند مجموعة من المبادئ التي أرى – والله أعلم – أنها المنطلق لهذه العملية التصحيحية:
– لا يمكن لأي كان مهما كان وأيا كان أن يتحكم بمصير الشعب لوحده خاصة إذا لم تكن له رؤية واضحة المعالم وكل من يدعي إنقاذ شعوب الأمة من وهدة انحطاطها الحالي فهو أكيد ليست له أي رؤية بالأحرى أن تكون واضحة المعالم.
– إن الإقصاء لأي طيف من أطياف الشعب هو في الحقيقة إقصاء لفكرة تؤمن بها فئة من الشعب مهما كانت هذه الفئة من الناحية العددية ما دامت هذه الفئة لا تشذ عن ثوابت الشعب الحقيقية لا تلك المزعومة من طرف أي جهة ما.
– إن الإخلاص والكفاءة هما معيار تولي المسؤولية في أي منصب من مناصب الدولة، فبالأحرى منصب القائد الفعلي للبلد، ولهذا كان يكثر الخليفة الراشد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه من دعاء “اللهم إني أعوذ بك من عجز التقي وجلد الفاجر”.
فاللهم إنا نعوذ بك من عجز التقي وجلد الفاجر…