الشاهد بودكاست: الرباط حرماً آمناً

Cover Image for الشاهد بودكاست: الرباط حرماً آمناً
نشر بتاريخ

تقف أمام الباب طالبا للهدي، تضع هاتفك، وحذاءك، والدنيا… ثم تصعد.

تدرك جيدا أنك متعب، وأنك محتاج إلى هذا الرباط كي تستعيد قلبك، وتسترد شيئا من عافية روحك. فمن ليس له رباط ومرابطة وخلوة مع ربه، فاتته رؤية قلبه…

ها أنت قد نجحت أخيرا في مواجهة نفسك وهواك وأعذارك، وعقبات لم تتوقع نصفها… أول صلاة صليتها في هذا البيت المبارك كانت المغرب، وقد غرب معها كل ما يثقل القلب. أول سجدة، أول خطوة، أول غيث، وبداية الأنوار…

لحظات سماوية، ترتقي فيها عن دنيا البشر، تنتقل من الزمن الدنيوي إلى الزمن الإلهي، أيام نورانية، تجمع فيها شتات نفسك، وشعث فهمك، ووهن إرادتك… تبدأ حياة الليل هنا باكرا، نترك أنفسنا ونذهب إلى الله.

تحمل مسبحتك، وتعصر حباتها، وكأنك تريد النور… تهمس بالكلمة الطيبة التي تحيي القلوب وهي رميم.

أول من تراه جالسا متربعا يذكر ربه هو الأمين، كتلة النور التي تعلمك النية وحسنها، وتخبرك أن إرادة ما عند الله غير إرادة وجه الله، وأن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم. يبتسم في وجهك، فتحس بطمأنينة عجيبة، وبشلال من الدفء يغمرُك.

بجانبه، يتربع غارقا في تسابيحه، الذي كلما رأيته يتسع قلبي، مولاي عبد الكريم، الكريم ابن الكريم. تجلس بين يديه، فتشعر أنك تجلس أمام مشكاة مضيئة.

بعد الكلمة الطيبة، يبدأ الوتر النبوي، تستوي الصفوف، والقلوب، والهمم، والإرادات، فتدرك أن: “الله يتولاك”…

تتناول وجبة السحور، لتعود مجددا إلى المسجد، فتحس بنفسك واقفا على ناصية القلب، تتكئ على دعاء الرابطة، فتشعر أنه نعمة عظيمة من الله لك.

ترفع يدك، كأنك ترفع نفسك من وحل دنياك الغارقة، كأنك تحمل ضعفك إلى قوته، وذلّك إلى عزته، تستحضر الموكب النوراني: ملائكة، وأنبياء، وصالحين، وكل الذين أنعم الله عليهم…

تعلن الأسحار عن قرب رحيلها، فيبدأ الاستغفار، ثم يرتفع الأذان شَدْو الأرواح، الذي يحببك في عبارة: “حي على الصلاة، حي على الفلاح”، فنصلي الصبح، ويقرأ قرآن الفجر مشهودا…

يلتفت الأمين لأصحابه، سائلا عن المبشرات، فتتقاطر من هنا وهناك، وتحبس دموعك حين تسمع: “رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم”، فتهتز بشدة وحنين، عندها تدرك أن تدبير الله أكبر من ترتيبك، فتأوي إلى ظل الصحبة الوارثة، الواسطة، الموصلة، وتتمتم: ﴿رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير﴾.

في الصباح، يوقظك ضابط الوقت، بابتسامته التي لا تخفي صرامته، وكرمه الذي لا يخفي شحه بتلك الدقائق الثمينة.
بعد صلاة الضحى، تحمل مصحفك، فيلهمك الله حفظ سورة طه. وقرت هذه السورة في قلبي منذ صغري، وكنت دائما أؤجل حفظها، حتى أذن الله…

مع توالي الأيام، أحسست أنها لم تكن سورة فحسب، بل رسالة الله إلى قلبي: كل بشرى فيها هي بشراي، وكل نذير هو نذيري، وسأبقى طول عمري واقفا عند أسوارها، أسأل الله أن يكشف لي أسرارها، ويفتح لي أبوابها، ويمنحني بركة حفظها وعدم تفلتها.

بعد الحفظ، تبدأ حصة تحسين التلاوة، وأنا الذي كنت أعتقد أني أعرف قراءة القرآن، حتى فوجئت بهذا العلم الغزير.
كان المؤطر منصفا في تعليمنا، وهو يفيض – حفظه الله – علما، وفهما، ودراية.

اتهمني بأني أسرق الحروف أثناء تلاوتي، فلقبني باللص، وقد كشف الله له حقيقتي. فقد سبق لي قبل سنوات أن كتبت حلقات برنامج “قرآنا عجبا”، أدعي فيه بعض الفهم لكلام الله، واليوم أدركت أني لا أحسن قراءة كلام الله، فالإدعاء لص يسرق الهمة، ويرخي العزم.

حتى في تلاوة حروفه، فالقرآن معجز، مدهش. كل يوم يمر أجدني أتحول، صرت أفهم النقطة أسفل الحرف، والتنوين فوقه، وأتعلم نطق المد، والغنة، وبعض الإمالة. كل جلسة، لا تقل جمالا عما قبلها، بين سؤال، وجواب، وفكرة، وضحك، وأمل عظيم جدا، في دولة القرآن، التي تبدأ بإقامة حرف القرآن…

يمضي اليوم هكذا، بين صلاة، وانتظار الصلاة، وبين ذكر، وحفظ، واسترجاع، وتعهد، واستماع، وعطفة نبوية دافئة نتفيأ ظلالها…

على مائدة الإفطار، يمنحك الله كرسيا بين الرشد والرضا، فتتأمل قدر الله الذي أجلسك بين هذين الجبلين، وتهمس في نفسك: مقامك حيث أقامك… ويا له من مقام.

قبل صلاة العشاء، تحلق الجميع في المسجد، فكانت المفاجأة: سطع وجه الإمام المجدد كشمس هادئة، يطل على الجميع بابتسامته الحانية، ونوره الساطع…

يبدأ الشريط بعنوان: “الموعد الله”، وفي لحظة قدرية منحها المولى هدية لهذا المجلس الجليل، يلتفت الإمام إلى الأستاذ بارشي، حيث كان جالسا في نفس المكان كما كان منذ أزيد من عشرين سنة، نفس الجلسة، ونفس الهمة، ونفس الطلب.
يسأله هذه المرة، لكن من خلف الشاشة، كما سأله سابقا: “أليس كذلك، سي بارشي؟” فيومئ دون أن يشعر، يومئ مرة ثانية لنفس السؤال، فنتعجب له، يسأله ويصدقه…

لقد كانت لحظة سماوية، التقت فيها، أمام أعيننا، الصحبة والجماعة، مع الصحبة في الجماعة، فكان قدرا مقدورا…
بين ثنايا هذه اللحظات المباركات، أسرق هنيهات مع فارس الدعوة، الذي احتضنني صغيرا ولا يزال.

تنبعث في نفسي وصيته قبل سنوات، حين وشوش لي ذات مجلس: “لا أذاقك الله طعم نفسك، فإنك إن ذقتها؛ لا تتذوق بعدها خيرا أبدا!”

أكثر من جالسته على انفراد هو خادم الرباط، الصديق ابن الصديق، لا زلت أحفظ وصيته الذهبية: لا تكتب إلا متوضئا، “فالكتابة عبادة”، ثم يحدثني عن الإمام المجدد، وفي عينيه يَشِعّ كمال الوفاء. في ثنايا هذه اللحظات الدافئة، يمنحني سيدي علي، بهدوئه، وانزوائه مع نفسه بعيدا في ركن خفي، دعوة عابرة، وهو يسلم علي بكل ما يملك قلبه من محبة…

لقد عشت هذا الرباط في ظل آية عظيمة: ﴿أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم﴾. أعترف أن أفضل أيام عمري، رغم تقصيري، وذنبي، وخطئي، حين أكون في صحبة تحملني، وتحمل عني، وتحمل إلي… صحبة، جعلها الله ﴿حرما آمنا﴾، ويتخطف الناس من حولك…