الهوية هي مجموع التصورات التي يمتلكها الشخص عن نفسه وعن دوره في المجتمع. إنها تحدد كيف يرى الشخص ذاته، وكيف يتفاعل مع العالم الخارجي.
يعرّف إريك إريكسون 1 المرحلة الخامسة في نظريته للتطور النفسي الاجتماعي بأنها ارتباك الهوية مقابل الوظيفة، ويحدث هذا خلال فترة المراهقة، من حوالي 12 إلى 18 عامًا. خلال هذه المرحلة، يبحث المراهقون عن الشعور بالذات والهوية الشخصية، من خلال استكشاف مكثف للقيم والمعتقدات والأهداف الشخصية. الهوية بالنسبة إليه شعور متكامل بالذات. أي أن الفرد يجب أن يشعر بالاستقرار والاتساق في فهم نفسه ودوره في الحياة. هذا يشمل إدراك الشخص لمعتقداته، وقيمه، وأهدافه، بل هي جزء من النمو الصحي. ويرى إريكسون أن هذه المرحلة ليست فترة ارتباك وصراع فحسب وإنما هي عملية ضرورية لبناء هوية مستقرة وواضحة.
في علم النفس، أزمة الهوية تشير إلى الفترة التي يعاني فيها الفرد من هذا الصراع الداخلي بشأن استكشاف القيم، والمعتقدات، والأهداف الشخصية. لكن هذه الأزمة لا تقتصر فقط على الجوانب النفسية الفردية، بل تتعداها إلى البعد الاجتماعي، حيث إن الشخص قد يشعر بتناقض بين هويته الذاتية وتوقعات المجتمع أو الثقافة المحيطة به. بالنسبة للشباب تُعد الهوية مرحلة محورية في تطورهم النفسي والاجتماعي تكون حاسمة في تكوين الشخصية، بحيث يواجهون تساؤلات وجودية مثل: من أنا؟ وما هو دوري في المجتمع؟
وتزداد هذه الضغوط والتعقيدات لدى الشباب في المجتمعات الإسلامية التي تتعرض إلى هجمة شرسة تستهدف قيمها الأخلاقية والدينية التي تحافظ على تماسك الأسرة والمجتمع. خاصة مع الطوفان الجارف الذي يحاول أن يفرض بقوة القانون، الفحشَ والرذيلةَ في المدرسة والاعلام وكافة مناحي الحياة، بتشريع إباحة الشذوذ الجنسي ومأسسة مفهوم “الجندر” 2، حملة شعواء لإبادة القيم ليس الغرض من ورائها إلا بسط مزيد من السيطرة على العالم الإسلامي بما يشكله من مصدر للطاقة لا ينضب، ومن سوق لاستهلاك ما يُصنع: «لا ينظر لنا الغرب باعتبارنا كياناً مستقلاً لنا طموحاتنا المشروعة وأهدافنا المختلفة، وإنما على أننا مادة استعمالية لا بد من تنميطها حتى ندخل في القفص الحديدي، قفص الإنتاج والاستهلاك، دون هدف أو غاية سوى المنفعة واللذة». 3
وبما أن قلاع مواجهة هذه الحرب القيمية تساقطت واحدة تلو الأخرى في دول أوربا وآسيا لصالح هذه الامبريالية المتوحشة، ولم يبق في خط المواجهة إلا “الخطر الأخضر” الذي تمثله شعوب دول العالم الإسلامي نظرا لارتباطها الوثيق بعقيدتها وفطرتها، رغم ما تعرضت له من مسخ الهوية ومسح الذاكرة خلال سنوات الاستعمار المباشر وغير المباشر، حملات لم تفلح في عزل الأمة كليا عن دينها، «حتى لنستطيع أن نقول، ونحن مطمئنون كل الاطمئنان: إن ثقافتنا إسلامية الهوية، وأن معيار الدخول والخروج في ميدان ثقافتنا، والقبول والرفض فيها هو المعيار الإسلامي.» 4
يولي ديننا الحنيف عناية قصوى لتنشئة الأجيال على الفضيلة والقيم النبيلة، بل يعتبر أن بناء صرح الأخلاق لدى الأفراد والمجتمعات من صميم رسالة الدين، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم واصفا مهمته ووظيفته: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» 5
قبل أن نسترسل في البحث عن معالجة الإمام المجدد عبد السلام ياسين لهذه القضية لا بد أن نؤكد على أن ما يميز نظرية المنهاج النبوي في التغيير هو شدة التصاقها بالوحي في مصدريه: كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء من حيث استعمال اللغة والمصطلح أو من حيث المفاهيم. فإن مما يعاب على معظم أطروحات الحركات الإسلامية هو تأثرها سلبا بالفكر الغربي السائد، فاللهث وراء العقلانية المنكرة لكل ما لا يدخل تحت سيطرة الحواس المادية -نحلة الغالب على حد تعبير ابن خلدون- أحالت هذه الأطروحات صراعا أرضي المقدمات، أرضي النتائج والمآلات. فلا حديث هنالك عن القصد من الخلق في هذه الدار، ولا عن الحساب والجزاء والعقاب في تلك الدار: «.. ويسود الإرهابُ الفكريُّ الذي يمارسه المغربون، فيتحاشى المسلمون الحديث عن الغيب، وعن غاية الإنسان، وعن حياته الأبدية، وعن النعيم في الجنة، وعن العذاب في النار، وعن أحوال البعث والنشور، وعن القبر وفتنته، وعن الملائكة.» 6.
من هذا المنطلق فإن معالجة الإمام المجدد لأزمة الهوية لم يشذ عن هذا الجوهر، فهوية الإنسان، أي إنسان لا تنفك عن فطرته التي فطره عليها الخالق سبحانه عز وجل، مصداقا لقول الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ[سورة الروم، الآية 30]، فمن أقام وجهه لله ووقف بين يديه ووعى نفسه مفطوراً مرَاقَبا من لدن فاطره فهو إنسان الفطرة. والموقف الفطري هو موقف المؤمن المؤتمر بشرع فاطره، والنظرة الفطرية هي تصور الإنسان والعالم خلقا أمام الله الذي بيده مقاليد كل شيء. ويصدق هذا حديث رسول الله ﷺ: «كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه» 7.
ففي بيئة التربية ومناخها وعواملها، مجسدةً في هذا الحديث الآنف بالأبوين، تتشكل أسباب أزمة الهوية عند الشباب ومن ثم يمكن أن نبحث لها عن سبل الفهم والمعالجة.
انهزام المسلمين أمام قوى الاستكبار العالمي، كان سببا رئيسا في ظهور ثقافتهم وسيادة قيمهم على قيم شعوبنا المتخلفة، فحورب الدين عندنا تبعا لذلك باعتباره سبب هذا التخلف، قياسا على تاريخ الكنيسة في الغرب وضلوعها وضلوع معتقداتها فيما كان يعيشه الأوربي من التخلف والاستبداد.
رحلت عساكر الاستعمار وخلفت وراءها جحافل من أبناء الأمة المغربين، فأحكمت من خلالهم ومن خلال مختلف المؤسسات الاقتصادية والتعليمية والإعلامية والثقافية سيطرتها على قبضتها كل مفاصل الحياة، ومع مرور الزمن نجحت عوامل التعرية والمسخ، ونشأت أجيال فقدت الثقة في دينها وتزعزعت قوة انتمائها لأمة الإسلام وعقيدته.
المقاربة الشمولية في الهوية
إن اكتشاف الذات عند الشباب المسلم هي رحلة روحية تبدأ بالتوبة والعودة إلى الله، وتستمر بالتعلم والعمل الجماعي، وتنتهي بالإحسان.
1. الهوية الإسلامية:
تمر هذه الهوية، التي هي أول مراتب الدين عبر تحقيق مقاصد الإسلام في حياة الأفراد والالتزام بتعاليمه والاستقامة عليها، وذلك بالإتيان بكل أعمال الجوارح وفق ما جاءت به السنة الكريمة.
2. الهوية الإيمانية:
تُبنى على الهوية الإسلامية ضرورة، وترتبط بإحياء الإيمان في القلوب، وترسيخ العقيدة الصحيحة المبنية على الكتاب والسنة. وتعتبر هذه الهوية الإيمانية عاملا محوريا في مواجهة الفتن الباطنية للإنسان وإغراءات البيئة الخارجية سواء بسواء. وتتمن آصرة الهوية الإيمانية كلما تمتنت أواصر التواصي بالحق والصبر والمرحمة بين أفراد جماعة المؤمنين وفي محاضنهم ونواديهم، انطلاقا من المسجد وعودة إليه، مرورا بكل مؤسسات المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
3. الهوية الإحسانية:
تعتبر الهوية الإحسانية رأس هذا الأمر وذروته إذ إن مرتبة الإحسان تأتي أعلى هرم بناء الدين، فوق الإيمان والإسلام كما جاء في الحديث الشريف الذي بين فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مراتب الدين، فقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: «كنَّا جُلوسًا عندَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فجاءَ رجلٌ شديدُ بياضِ الثِّيابِ شديدُ سَوادِ شعرِ الرَّأسِ لا يُرَى علَيهِ أثرُ سَفرٍ ولا يعرفُهُ منَّا أحدٌ فجلسَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فأسندَ ركبتَهُ إلى ركبتِهِ ووضعَ يدَيهِ علَى فخِذيهِ ثمَّ قالَ يا محمَّدُ ما الإسلامُ قالَ شَهادةُ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنِّي رسولُ اللَّهِ وإقامُ الصَّلاةِ وإيتاءُ الزَّكاةِ وصَومُ رمضانَ وحَجُّ البَيتِ فقالَ صدَقتَ فعجِبنا منهُ يسألُهُ ويصدِّقُهُ ثمَّ قالَ يا محمَّدُ ما الإيمانُ قالَ أن تؤمِنَ باللَّهِ وملائكتِهِ ورسلِهِ وكتبِهِ واليومِ الآخرِ والقدَرِ خيرِهِ وشرِّهِ قالَ صدَقتَ فعَجِبنا منهُ يسألُهُ ويصدِّقُهُ ثمَّ قالَ يا محمَّدُ ما الإحسانُ قالَ أن تعبدَ اللَّهَ كأنَّكَ تراهُ فإنَّكَ إن لا تراهُ فإنَّهُ يراكَ قالَ فمتَى السَّاعةُ قالَ ما المسئولُ عنها بأعلمَ منَ السَّائلِ قالَ فما أمارتُها قالَ أن تلِدَ الأمةُ ربَّتَها وأن ترَى الحُفاةَ العُراةَ العالةَ رِعاءَ الشَّاءِ يتطاولونَ في البِناءِ قالَ ثمَّ قالَ فلقيَني النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ بعدَ ثلاثٍ فقالَ أتَدري مَن الرَّجلُ قلتُ اللَّهُ ورسولُهُ أعلمُ قالَ ذاكَ جبريلُ أتاكم يعلِّمُكُم معالمَ دينِكُم » 8.
الهوية الإحسانية هي الأفق الأعلى للتربية والعمل الإسلاميين، يسعى المسلم من خلالها لتحقيق انسجام بين إيمانه الداخلي وسلوكه الخارجي، متجاوزًا كل الفتن والعقبات الأنفسية والأفاقية، ليصبح عاملًا فعّالًا في تغيير المجتمع نحو الاستخلاف والعمران الأخوي الموعود بهما المؤمنون الصالحون المصلحون: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا[سورة النور، الآية 55]
تحقيق الهوية
الخصال العشر وشعب الإيمان ليست قيما نظرية فحسب، بل أدوات عملية للتغيير الروحي والاجتماعي.
التربية المنهاجية تدمج شعب الإيمان في الخصال العشر لتكون خطة شاملة في طريق التغيير. كل خصلة تُفعل جزءًا من شعب الإيمان، بحيث يُصبح الفرد ملتزمًا بمنهجية واضحة للتحقق بمدارج الإيمان وطرق أبواب الإحسان.
يقدم المنهاج النبوي مشروعًا شاملًا لتحقيق الهوية الإحسانية. هذه الهوية ليست مجرد حالة روحية، بل تُشكل إطارًا عمليًا لتربية الفرد والجماعة. ورؤية متكاملة تُفعِّل الإيمان في حياة الفرد والجماعة، وتؤدي إلى بناء مجتمع العمران الأخوي.
الخصال العشر هي ركائز في مشروع التدرج التربوي والجهادي، وهي أساسية لبناء الفرد والجماعة، بدءًا من إصلاح العلاقة بالله وصولًا إلى بناء مجتمع عمران أخوي عادل ومتكافل.
وتنقسم هذه الخصال إلى مستويات تهدف إلى تحقيق الإحسان في الأبعاد الثلاثية للدين: الإسلام، والإيمان، والإحسان.
1- الصحبة والجماعة:
الصحبة والجماعة هي المحضن المادي والروحي للإيمان والتربية التي تغرس بذرته، هي المنجى والملجأ لمن أراد النجاة من طوفان الغزو الحضاري والحرب على الدين أن يجرفه.
فيها وبها يتلقى العلم والمدد الروحي الذي يتجاوز به طاغوت أنانيته وفردانيته التي تحجبه وتحول بينه وبين اقتحام عقبة نفسه المستعلية، هي وسيلة تثبيت الإيمان وتزكية النفس عبر المرافقة والتوجيه والتعاون على الخير: “التربية الإسلامية تخاطب أعمق ما في الإنسان وهو شعوره بالخواء والعبث ما دام بعيدا عن الله. ثم ترفعه في صحبة المؤمنين المتواصين الصابرين المتراحمين إلى طلب أسمى غاية وهي وجه الله والاستواء مع أصحاب الميمنة.” 9
2- الذكر:
الصحبة والجماعة تربة وبيئة التربية والذكر مادتها الحيوية، مخصبها وسمادها. الذكر هو السلاح الفتاك للقضاء على طاغوت طاغوت العقل المادي المتجبر الملحد، ذلك العقل الذي تمجده الحضارة الدوابية وترفعه إلى مصاف الآلهة التي تعبد من دون الله، تستبدل به العقلَ المتفكرَ الموصولَ بالقلب يتلقى منه المدد والنور ليعمل وفق مقتضيات الشرع خدمة للإنسان ومصالح الإنسان، لا وفق أهويته وإرضاء غرائزه الحيوانية.
دوام الذكر والتبتل في صحبة المؤمنين هو الأساس الروحي الذي يربط الإنسان بالله ويُطهّر قلبه: “بالذكر والتجربة الشخصية المنبنية على الصحبة يتكشف للسالك ما شاء الله من عجائب القلب، وتتحقق له معية الله التي خص بها المحسنين. فإذا اقتحم العقل هذه العقبة تحرر وتحررت معه الإرادة وأصبح أداة بناء لكرامة الإنسان، لأنه يدرك معنى المسخ المحيط بالجاهلي والجاهلية” 10
3- الصدق:
ثالث الأتافي في إرساء قواعد بناء الهوية الإحسانية وشرطها الذاتي هو الصدق. والصدق نية وقصد، استعداد كلي للخروج من ربقة الفتنة ودواعي الرخاوة والقعود، إلى ميدان التحلي والتخلق بشعب الإيمان وأخلاق القرآن: “أعني بكلمة صدق استعداد الوارد ليتحلى بشعب الإيمان، ويندمج في الجماعة ويكون له من قوة الإرادة وطول النفس ما يمكنه من إنجاز المهمات حتى النهاية” 11.
بالشرطين الموضوعيين: الصحبة والجماعة والذكر، بالإضافة إلى الشرط الذاتي الذي هو الصدق تتأسس خيمة الإيمان ويكتمل وضع أعمدة البنيان. فتأتي بقية الخصال وهي سبعة لتسهم في تأتيثه وإظهار أثره في حياة الفرد والجماعة.
4- البذل:
وهو معنى واسع للإنفاق والتضحية، به يعطي المؤمن برهان صدقه، بذل المال والوقت ليس المقصود بهما ما يعود على الجماعة من النفع المادي فحسب، بل المقصود الأعظم منه التخلص من الجبن والخروج من الشح المجبولة عليهما النفوس اللاصقة بالأرض المتثاقلة إليها، حتى يصبح العبد أوثق بما عند الله مما في يده “البذل عطاء وسماحة وكرم ومساعدة وخدمة وفُتُوَّة. مُقابلَ أنانية المستكبرين والترفّعِ، والتنطعِ، والحرصِ الجشع، والصمم عن بؤس البائسين، وحاجة المحتاجين” 12
5- العلم:
لئن كان العلم مطلوبا في المنهاج النبوي باعتبار إمامته للعمل ومعيار صوابيته، فإنه لا يعتبر إلا بمقدار خدمته لأشرف المقاصد وأعلاها على الإطلاق وهي العلم بالله ومعرفته، مضمون الهوية الإحسانية وعنوانها، مبتدؤها وخبرها. مع هذا العلم الضروري لتحصين الذات والهوية الإيمانية نبحر في مختلف أودية العلوم الآلية الضرورية في الحياة مما أنتجته العقول، ورتبته تجربة الإنسان، نجعل كل ذلك في خدمة الانسان وبناء حضارة عادلة رحيمة بالإنسان وبالبيئة.
6- العمل:
العمل الصالح هو العنوان البارز للعلم النافع، لهذا نجده مقترنا دائما بالإيمان في كتاب الله عز وجل: الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب[سورة الرعد، الآية 29]. العمل المسؤول الواعي هو ذاك الذي يرفعنا إلى مستوى ما يريد منا الله عز وجل من الفاعلية في هذه الدنيا والفوز والنجاة في الدار الآخرة.
“بعد العلم العمل، بعد الفقه النظري للتجديد وأسسه النفسية التربوية الفقه العملي بالممارسة الصابرة الذكية، بالتعلم من العمل إثر العمل على ضوء العلم” 13.
7- السمت:
السمت الحسن هو تجسيد الأخلاق الإسلامية في كل تفاصيل الحياة، ابتداء من لغة الخطاب إلى مظاهر السلوك، تكون كلها مستمدة من معين القرآن ومن سنة النبي العدنان، نقية من شوائب الفلسفات والإيديولوجيات الدوابية الماسخة للإنسان. نكون عرضة لمخاطر الانصهار والانجراف في مستنقعات الفكر الجاهلي ما لم نحافظ على هذا التميز: “إن رجوع الأمة إلى السمت الإسلامي يعني تحررها من أشكال الحضارة الجاهلية وثقافتها ليتم التحرر من العادة الدوابية. اتخاذ السمت الإسلامي ونبذ السمت الجاهلي برهان على الصدق في نبذ العادة القاعدة بالإنسان عن اكتمال فطرته.” 14
8- التؤدة:
الطريق طويلة والمراد غالٍ، لذا نحتاج للتؤدة، وهي صبر ورِفق وطولُ نفس، وتحمّلٌ للأذى: “إن التؤدة معناها في حق الفرد أخلاق تملك النفس والصبر والمصابرة والمثابرة…أما في حق الجماعة والأمة فالتؤدة هي البناء المكين على أسس ثابتة معروفة، وعلى وعي بالمبادئ، والأهداف والمقاصد والغايات” 15.
9- الاقتصاد:
الاقتصاد قصد وتوجه وسير حثيث نحو المعالي، عزوف عن السفاسف والمثبطات. السعي لتحقيق الأهداف الدنيوية لا يزيغ بنا عن المقصد الأسمى: رضى الله، والفوز بالله في الآخرة.
10- الجهاد:
الجهاد هو تتويج للسلوك وفق منظومة الخصال العشر، إذ لا معنى لتربية لا تؤدي إلى الانخراط الجماعي لبناء صرح مجد الأمة وعزتها، بمحاربة مظاهر الظلم والأثرة، وإقامة العدل وإشاعة القسط بين بني البشر: “وما مطلب الآخرة ومطلب وجه الله بالتي تُنال على الهوان والمسكنة والدروشة ومهادنة الباطل” 16.
أوصي أن العدل قرين الإحسان في كتاب ربِّنا وفي اسم جماعتنا، فلا يُلهنا الجهاد المتواصل لإقامة دولة العدل في أمتنا عن الجهاد الحثيث لِبلوغ مراتب الإحسان. الإحسان أن تعبد الله كأنك تراهُ،
وأوصي بالتؤدة والاقتصاد والجهاد في عالم يمور بأصناف البلاء الإلهي، بلاءٍ يمحص الله عز وجل به الأمة أفرادا ًوجماعة. ويُحق الله الحق متى شاء كيف شاء، وينصر الله من شاء وكيف شاء متى شاء. لا إله إلا الله القوي الحليم.
خطوات نحو الحرية
ختاما نؤكد أن التربية على الخصال العشر بمضمونها العلمي والعملي تشكل مشروعا متكاملا يهدف إلى بناء هويتنا الإحسانية، وتكسب أبناءنا وبناتنا القوة الذاتية التي تفتح لهم أبواب الحرية الحقيقية: “ففي امتداد الدنيا إلى الآخرة تكتسب حياة المؤمن وأعماله معناها. مصيره بعد الموت يحدد له السلوك الذي ينبغي له في الدنيا: فإما كافر أو منافق لا يرجو الله ولا اليوم الآخر، فعندئذ يكون المعاش الرخي ويكون انتهاب الملذات وإرضاء الغرور الشخصي والظهور في المجتمع هي المطالب، وتكون الحرية في إحرازها هي الحرية” 17.
[2] يقوم مفهوم الجندر على القول بأن الفروق القائمة بين الذكور والإناث تقوم في الأساس على معايير اجتماعية وليس بيولوجية.
[3] حوارات مع د. عبد الوهاب المسيري، الهوية والحركية الإسلامية، تحرير سوزان حرفي، ط 2 -2010، دار الفكر، ص 27.
[4] محمد عمارة، مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، دار نهضة مصر، ط 1 – 1999 ، ص 7.
[5] مسند الإمام أحمد، عن أبي هريرة، رقم 8952.
[6] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ط 2 – 2018، ص 108
[7] ابن حبان، صحيح ابن حبان، الرقم 129.
[8] ابن ماجة، صحيح ابن ماجة، عن عمر بن الخطاب، رقم 53.
[9] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص 29.
[10] عبد السلام ياسين، الإسلام غدا، ص 45.
[11] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص 73.
[12] عبد السلام ياسين، رسالة تذكير، ص 19.
[13] عبد السلام ياسين، مجلة الجماعة، العدد 6، ص 4.
[14] عبد السلام ياسين، الإسلام غدا، ص 178.
[15] عبد السلام ياسين، رسالة الإسلام أو الطوفان، ص 149.
[16] عبد السلام ياسين، رسالة تذكير، ص 27.
[17] عبد السلام ياسين، مقدمات في المنهاج، ص 45.