بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى الشفيع المجتبى وعلى آله وصحبه ذوي العهد والوفاء ومن سار على دربهم ونهجهم واقتفى أثرهم ثم اهتدى.
تحل علينا ذكرى رحيل الإمام المجدد الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، الثانية عشرة بنفس وطابع شبابي، نظرًا للاهتمام الكبير الذي أولاه رحمه الله لهذه الفئة الشابة، حيث أخذت نصيبًا وافرًا في مشروعه التغييري التجديدي المنهاجي، باعتبارها من مرتكزات التغيير والبناء والإصلاح. إذ أخذت نصيبها وحظها من التربية والاحتضان والتوجيه والرعاية والتكوين، وأُعدّت إعدادًا جادًا وبُنِيت بناءً سليمًا على أسس قوية ومتينة.
إن اهتمام وتهمّم الإمام بالشباب كان نابعًا من وعيه بمدى قوة وفاعلية هذه النخبة في إحداث التغيير، وصناعة تاريخ الأمة ومستقبلها وبناء حضارتها ومجدها وإقامة صرحها. لكن رغم هذه المميزات وهذه الصفات التي يتمتع بها هؤلاء الشباب من قدرة وقوة على البناء والتغيير والتحرير، إلا أن هناك تحديات وعقبات تحول بينهم وبين تحقيق آمالهم وآمال أمتهم وأوطانهم. ويمكن إجمال هذه التحديات الكبرى التي تهدد هذه الفئة في الآتي:
أولًا: مسخ الهوية والفطرة السليمة؛ وذلك عبر إنتاج مشاريع هدامة تضرب قيم الأخلاق والفضيلة، وإفساد فطرتهم ومسخها وانسلاخهم عن هويتهم ودينهم، وإفراغهم من معنى وجودهم في هذه الحياة. فيسقطون في أوحال الرذيلة والتفسخ الأخلاقي والسلوك الدوابي، مما يجعلهم فاقدين لإنسانيتهم وكرامتهم الآدمية، التي كرّم الله بها الإنسان في كتابه العزيز منذ أن خلق الله آدم عليه السلام. فتتلبس بهم وساوس أنفسهم وشرورها ودسائسها، وتلتهم ملذات الدنيا وشهواتها ومغرياتها، ويتسرب إلى نفوسهم الوهن والعجز والكسل والخمول، فيصبحون فريسة سهلة للشيطان وأعوانه من الجن والإنس.
ثانيًا: التبعية والتقليد الأعمى للخارج؛ ولعلها من التحديات التي فرضت على الشباب، وذلك بهيمنة الغرب على مجتمعاتهم العربية والإسلامية، حيث وجدوا أنفسهم رهينة لثقافة وحضارة غريبة عنهم، والتي كان لها تأثير قوي وبالغ على سلوكاتهم وأخلاقهم ونمط عيشهم، وأثرت على تعليمهم وبنيتهم التربوية والنفسية والفكرية، وجعلتهم لقمة سائغة سهلة المنال، مخترَقة ومسلوبة الإرادة، وكَيانًا مهمَلًا. وغُثاء كغثاء السيل، وجيشًا من العاطلين كالإبل المئة، لا تكاد تجد منهم راحلة، يفعل به ولا يفعل، يستهلك ولا ينتج، محمولًا غير حامل.
ثالثًا: ارتفاع منسوب فقدان الثقة وخطاب التيئيس؛ إن فقدان الثقة وشيوع خطاب التثبيط وفقدان الأمل، والنظرة القاتمة والأفق المظلم والانتظار العاجز، وقتل الإرادة، لهو من الأسباب والعقبات النفسية التي تقف سدًا منيعًا أمام طموحات ورغبات الشباب. إذ يجدون أنفسهم في هامش المجتمع ويغردون خارج سربه، وبعيدين عن همومه واهتماماته وتقرير مصيره. ويتم إقصاؤهم وإبعادهم عن أدوارهم الطلائعية في عملية التغيير المنشود، مما يشكل لديهم عداءً تجاه مجتمعاتهم وأوطانهم. وبهذا يرتفع منسوب فقدان الأمل والثقة، ويتسرب إلى نفوسهم اليأس والإحباط من جراء الظلم والإقصاء والحيف الممارَس في حقهم.
رابعًا: غياب العدل وفساد البيئة السياسية. فهي من التحديات والعقبات المتجذرة في الأمة، والتي تنخر جسد الشباب وتؤثر على توازنهم واستقامتهم. وتعجزهم وتمنعهم عن الاهتمام بطلب الآخرة ووجه الله عز وجل والسلوك إليه. كما عبر الإمام رحمه الله: “أذن الجائع لا تسمع إلا لنداء يبشرها بالخبز”. فغياب العدل وتكريس الظلم الاجتماعي والسياسي من فقر وبطالة وغياب أدنى مقومات العيش الكريم، وانتهاك ومصادرة للحقوق والحريات من شغل وصحة وتعليم وحرية وعدل وكرامة، يشكل ضغطًا واضطرابًا على استقرارهم الاجتماعي. فيتيهون في البحث عن حلول لأزماتهم، إما ارتماء في قوارب الموت لتأمين مستقبلهم، أو غرقا في أوحال البطالة واليأس في مجتمعاتهم، فتسقط كرامتهم.
إنّ هذا التحدّي يعتبره الأستاذ المرشد عقبة أمام الشباب في معرفة حقهم الأعظم والأكبر، وهو حقهم في معرفة الله عزّ وجلّ وطلب وجهه عزّ وجلّ ونيل المراتب العُليا في سلم الإيمان والإحسان. أمام تحديات الواقع المفروض على الشباب، يقترح الإمام رحمه الله مقاربة تُوازن بين تحرير عقَباتهم النفسية والأخلاقية والتربوية ومطالبهم وحقوقهم الدنيوية والمعيشية، وبناء رجولتهم وتحرير إرادتهم.
فكان من بين الحلول التي اقترحها رحمه الله وبسطها في فكره ومشروعه، وجعلها هي رأس الأمر كله وجوهره ولب التغيير:
أولاً: بناء الشخصية الإيمانية الإحسانية في نفوس الشباب
أكّد رحمه الله أن المدخل الأساسي لأي عملية تغيير أو إصلاح ينطلق من تغيير ما بالإنسان من أمراض وأعطاب وفساد، باعتباره محور العملية التغييرية. انطلاقاً من قوله تعالى: “إنّ الله لا يُغيّر ما بقومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسهم.” فالشباب بحاجة ماسة إلى تكوين وبناء شخصيتهم وإعادة تربيتهم تربية إيمانية إحسانية تُغرس في قلوبهم حبّ الله وحبّ رسوله صلى الله عليه وسلم، وحبّ الخير لهذه الأمة، وترسخ في وجدانهم معاني الفتوة والرجولة الإيمانية والإحسان، والتحلّي بالأخلاق الفاضلة والحسنة. وأن يصبح همّهم ووجهتهم الله، طلباً لمعالي الأمور وسعياً للارتقاء والتدرج في مدارج الإيمان والإحسان، صبراً ومصابرة النفس في بيئة إيمانية مع المؤمنين وصحبة الصالحين. وانخراطاً وتهمّماً بأمر الأمة في سبيل خلاصها وانعتاقها وتحريرها، وزرع روح الأمل فيها برحمة قلبية وحكمة عقلية، ورفق بعيداً عن العنف والتطرّف.
يعتبر الإمام رحمه الله أن هذا المطلب الأساسي كفيل بتحصين هذه الفئة من مسخ وإفساد فطرتها، والحفاظ على نقائها وصفائها، وتحصينها من الانحرافات السلوكية والأخلاقية.
ثانياً: مركزية ثنائية مطلبي العدل والإحسان
لقد كان الإمام رحمه الله دائماً يدعو إلى التوازن في التربية، والجمع بين مطلبي العدل والإحسان، وبناء الشخصية المتوازنة. فبالإضافة إلى تأكيده على المطلب الإحساني والإيماني، الذي يجب أن يكون للشباب حظ وافر منه، وأن يسعوا لاكتسابه وتحصيله، دعا إلى ضرورة تمكين هذه النخبة من العلوم الكونية، والتفوق والتحصيل الدراسي، وامتلاك أدوات المعرفة وإتقانها، وتغذية الفكر والعقل وتنويره بالفكرة والحكمة، والبناء والتكوين الذاتي الباعث على العمل والحركة المتوازنة المتزنة البعيدة عن الارتجال والعشوائية. فالعمل بلا علم تخبّط وعشوائية، والعلم إمام العمل، فهو قاطرة الإقلاع بالأمة وريادتها وتقدمها ونهضتها ويقظتها واستقلالها عن التبعية لغيرها، وإحداث نقلة نوعية من الوعي الأخلاقي والسياسي والمعرفي والعلوم والتكنولوجيا، التي تجعلها في مناعة من تكالب وتسلّط أعدائها عليها والارتهان إلى ثقافتها وفكرها. يقول الإمام رحمه الله في كتاب “المنهاج النبوي” الصفحة الرابعة والخمسين:
“إننا بحاجة لبناء أمة، والشباب يكونون في مجتمعاتنا المفتونة جيشاً من العاطلين الذين أسيء تعليمهم وتربيتهم، فإذا حصلوا بين أيدينا قبل قيام الدولة، وبعده، يجب أن نعدّهم إعداداً جاداً ليكونوا جند التحرير والبناء.”
ثالثاً: تحقيق مطلب العدل وبناء الثقة لدى الشباب
يرى الإمام رحمه الله أن تحقيق مطلب العدل وبناء الثقة لدى الشباب في بيئتهم ومنظومتهم السياسية، وتحسين مستواهم المعيشي، وتأمين مستقبلهم واستقرارهم الاجتماعي، وصون كرامتهم وحقوقهم، من المداخل المهمة والأساسية والحلول الناجعة لمحاربة اليأس والإحباط في نفوسهم. مما يحفّزهم لخدمة أوطانهم وقضايا أمّتهم، فلا بد أن يكونوا في صلب التغيير والبناء وصنع القرار. فهم طليعة الأمة وقلبها النابض بالحياة والإرادة والبذل والتضحية والاقتحام والإبداع، والقادرون على صناعة تاريخها ومجدها وبنائها على أسس وقيم الحرية والكرامة والعدل.
يقول الإمام رحمه الله في كتاب “تنوير المؤمنات” جهاد القتال صبر ساعة، وصبر أيام، أما جهاد بناء أمة وتنشئة أجيال وتعبئة حامل الرسالة، ابتداءً من غثاء رميم يحييه الله على يد المؤمنين والمؤمنات، فهو صبر عُمر وأعمار.