عبارة تلقي بظلالها العظيمة كلما هَبَّت نسمات ذكرى الهجرة النبوية الخالدة، الحدث الذي خَلَّد بداية جديدة في تاريخ المسلمين.
هذه العبارة نطق بها فؤاد الصديق أبي بكر قبل شفتيه، وعَبَّرت بصدق عن مكنون مشاعر خالدة يضرب بها أجمل مثال في الصدق والمحبة والاتباع، وغيرها من المعاني العظيمة التي تكشف عن قمة البذل والفداء والعطاء.
عبارة لخَّصت كل الحكاية، ونُطِقت بلسان مبين لما يخالج الصدر، ويبين للأجيال مدى محبة صادقة، من شخص فريد، اجتمعت فيه كل مواصفات الداعية إلى الله على بصيرة، وأهمها الجندية.
من معية الاختصاص إلى قيادة الأرواح والنفوس
لقد مَنَّ المولى عز وجل على سيدنا أبي بكر بمعية “الاختصاص”، ففي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40] اختص الله بمعيته الصديق دون غيره ولم يشرك فيها أحدا من الخلق، لأنها معية خاصة لذات الرسول صلى الله عليه وسلم وذات صاحبه، خاصة بهما، مكفولة بالتأييد الرباني.
وكذلك في قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ. وهذه الصحبة ليست مقتصرة على الغار فقط، بل هو صاحبه المطلق في كثير من المواضع التي لم يشرك فيها غيره، فأصبح مختصا بالأكملية من الصحبة، وهو شيء لا شك فيه بين أهل العلم.
وفي قوله عز من قائل: لا تَحْزَنْ دلالة قوية على الإشفاق والمحبة والحزن الذي اكتنف قلب الصديق على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحرص على سلامته من كل الآفات والمخاطر المحدقة به.
ففي رواية أحمد في كتاب فضائل الصحابة: “… فجعل أبو بكر يمشي خلفه ويمشي أمامه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما لك؟ قال: يا رسول الله أخاف أن تؤتى من أمامك فأتقدم، قال: فلما انتهينا إلى الغار قال أبو بكر: يا رسول الله كما أنت حتى أستبرئ… فلما رأى أبو بكر جحرا في الغار فألقمها قدمه، وقال يا رسول الله إن كانت لسعة أو لدغة كانت بي 1.
فلم يكن الصديق يرضى بغير الفداء بنفسه وأهله وماله، وهو مثال لما يجب أن يكون عليه المؤمنون تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجاه دعوته.
“ثاني اثنين”
الله ثالثهما، هو مقام لم يكن إلا لسيدنا أبي بكر، لأنه الصاحب الذي رافقه في الهجرة، وكان معه في العريش يوم بدر، ولازمه في خروجه إلى القبائل يدعوهم إلى الإسلام… وغيرها كثير من المواضع والمواقف التي لم تكن لغيره، بل اختصاص في الصحبة لم يكن لسواه.
لقد ظهر جليا أثر التربية النبوية في جندية أبي بكر رضي الله عنه، لأنه عندما أراد الهجرة، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا” 2.
فمنذ تلك اللحظة بدأ في الإعداد والتخطيط للهجرة، فاشترى راحلتين واحتبسهما في داره يعلفهما إعدادا لذلك، فقد أدرك رضي الله عنه ما ينتظرهما، فرتب أموره، بل سَخَّر أسرته لخدمة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا جاءت اللحظة المنتظرة، وأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد أذن له في الخروج والهجرة، بكى من شدة الفرح. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها في هذا الشأن: “فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ” 3.
لم تكن صحبة عادية، بل معناها أعمق وأعظم، إنها رفقة فردية بضعة عشر يوما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يتفرد بسيد الخلق دون بقية الخلق ودون باقي الصحب ودون أهل الأرض، ومقدما حياته على حياته، لهو أجل معنى للحب على وجه الأرض.
ولعل صورة سيدنا أبي بكر تتجلى واضحة في هذه القولة للإمام عبد السلام ياسين، حيث يوضح معنى المؤمن الشاهد بالقسط: “قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ [المائدة: 8] الشاهد بالقسط القائم لله هو المؤمن القوي الأمين الثابت في رباطه لا يتزعزع عن خط سيره مهما كانت العقبات. هو المجاهد الذي لا ينكشف عن الصف إن هرب الناس، ولا يقعقع له بالشنان. هو المؤمن المسؤول… هو المجاهد القادر على بعث الإرادة الجهادية في الآخرين…” 4.
سيبقى سيدنا أبو بكر الصديق نموذجا لجندي الدعوة إلى الله، ومثالا يقتدى به في فداء دين الإسلام، وأسوة للمؤمنين في المحبة الصادقة والاتباع المنبعث من نفس سوية لا عن نفاق أو رياء، بل صورة تتجلى فيها كل المعاني الخالدة للبذل والعطاء، والتي ستنبعث بعدها قيادة ربانية حكيمة، تؤلف القلوب وتقود النفوس قبل الأوطان.
لقد كان نسيجا وحده.. رضي الله عن سيدنا أبي بكر وألحقنا به غير مبدلين.