الصحة النفسية للأطفال أمام الشاشات: علامات الإنذار المبكر

Cover Image for الصحة النفسية للأطفال أمام الشاشات: علامات الإنذار المبكر
نشر بتاريخ

في ظلّ التسارع المتنامي للتطورات التكنولوجية وتعدد أدوات الاتصال الرقمية، أصبحت الشاشات جزءاً أساسياً من البيئة اليومية للأطفال. ورغم ما توفره من محتوى تعليمي وترفيهي جاذب، فإنّ الاستخدام غير المنضبط لها قد يؤدي إلى مخاطر نفسية وسلوكية قد تمرّ دون أن يلحظها الوالدان في مراحلها الأولى، الأمر الذي يجعل التدخل المتأخر أقل فاعلية وأكثر تعقيداً. ويُثار في هذا السياق تساؤل محوري يتمثل في: كيف يمكن الحدّ من هذه المخاطر؟ وما المؤشرات المبكرة التي ينبغي على الأسرة رصدها حفاظاً على الصحة النفسية والمعرفية للطفل؟

وفي هذا الإطار، يقدّم ديننا الحنيف توجيهاً تربوياً عميق الدلالة، كما يتجلى في قوله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (سورة النساء، الآية 9).  تُبرز هذه الآية مبدأ المسؤولية الوالدية الشاملة، التي لا تقتصر على توفير الحماية الجسدية أو المادية، بل تمتد لتشمل الرعاية النفسية والعقلية وتوجيه الأبناء توجيهاً متوازناً. ويدخل ضمن ذلك الإشراف على التربية الرقمية للأطفال، بما يضمن صون هذه “الذرية الضعاف” من المؤثرات التي قد تُضعف توازنهم الانفعالي وقدرتهم على التكيف الاجتماعي، ويسهم في تحقيق نموّ صحي متكامل.

أولا: أعراض الإدمان الرقمي والإنذارات المبكرة

قد تبرز مجموعة من المؤشرات المبكرة التي يُستدل بها على بداية تشكّل حالة من الاعتماد أو الاستخدام غير الصحي للشاشات، من أهمها:

1. الانعزال الاجتماعي

يميل الطفل إلى العزلة والانكفاء على ذاته، مع انخفاض واضح في رغبته بالمشاركة في الأنشطة الأسرية أو التفاعل مع أقرانه. ويُعدّ هذا المؤشر من أوائل العلامات المرتبطة بتراجع المهارات الاجتماعية.

2. القلق والتهيّج

تظهر ردود فعل انفعالية حادة لدى الطفل عند محاولة الحدّ من وقت الاستخدام، مثل نوبات الغضب أو الاضطراب النفسي الملحوظ، وهي سلوكيات تشير إلى بداية الإدمان الرقمي..

3. اضطرابات النوم

إن التعرض للضوء الأزرق في ساعات المساء قد يسبب اضطرابات، مثل صعوبة النوم، النوم المتقطع، أو الكوابيس. وهذه الاضطرابات قد تؤثر لاحقاً على الاستقرار النفسي والأداء المعرفي للطفل.

4. تراجع الأداء الدراسي

إنّ الاستخدام المفرط للشاشات يسهم في تقليص قدرة الطفل على التركيز والانتباه، وهو ما ينعكس سلباً على تحصيلهم الدراسي وقدرتهم على إنجاز الواجبات المدرسية بكفاءة.

5. تبدّل العادات

يشمل ذلك إهمال الهوايات، ضعف الشهية أو الإفراط في تناول الوجبات أثناء استخدام الجهاز، وتراجع النشاط البدني، وهي تغيرات ترتبط غالباً بانخفاض التوازن الصحي في نمط حياة الطفل.

ثانيا: دور الأهل في رصد هذه العلامات مبكراً

يشكّل الدور الأسري محوراً أساسياً في الوقاية من الآثار السلبية للاستخدام الرقمي. وتنبّه الدراسات إلى أنّ فاعلية التدخل الأسري ترتبط بقدرته على الجمع بين المراقبة الواعية والدعم النفسي الإيجابي. ويمكن تحديد أبرز عناصر هذا الدور فيما يلي:

1. الملاحظة المنهجية لسلوك الطفل

تتطلب الوقاية متابعة مستمرة للتغيرات المزاجية والسلوكية للطفل، بما يسمح برصد أي انحراف عن الروتين الطبيعي. ويُعدّ التتبع السلوكي المبكر من أنجع وسائل الحدّ من تفاقم المشكلات.

2. الحوار المفتوح وغير القائم على العقاب

يُعدّ التواصل الشفهي الهادئ قناة فعّالة لفهم رغبات الطفل. ويتيح هذا الحوار التعرف إلى مصادر القلق أو الانجذاب الرقمي لديه، ويعزز شعوره بالأمان الأسري.

3. مراقبة المحتوى الرقمي المستخدم

يتطلّب ذلك معرفة التطبيقات والألعاب والمنصات التي يلجأ إليها الطفل، وتحليل مدى ملاءمتها لفئته العمرية، ومن ثم اتخاذ الإجراءات التصحيحية المناسبة.

4. التنسيق مع المحيط المدرسي

توفر المدرسة مؤشرات مهمة حول تركيز الطفل، تفاعله الاجتماعي. ومن ثمّ يشكّل التواصل بين الأسرة والمؤسسة التعليمية إطاراً مكمّلاً للرصد المبكر.

ثالثا: استراتيجيات تربوية للحدّ من المخاطر الرقمية

ورد في السنة النبوية الشريفة قول الرسول ﷺ: “فإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا” (رواه البخاري).  يشير هذا التوجيه النبوي إلى أهمية التوازن بين الحقوق والواجبات، بما في ذلك حق الطفل، الذي يُعدّ جزءاً أساسياً من حق الأسرة. تماماً كما يُلزَم الإنسان بحماية جسده من الإرهاق وحماية عينيه من المؤثرات الضارة، فإن للطفل حقاً في صون جسده وعقله من الأذى، وتوفير بيئة صحية وآمنة تُنمّي فيه القوة البدنية والقدرة النفسية، وتُعزز القيم السليمة والإيمان. ويشمل ذلك حماية الطفل من الإفراط الرقمي الذي قد يؤثر سلباً على الجهاز العصبي والبصر والحالة النفسية، ويهدد توازنه النفسي والمعرفي.

ومن هنا تنبع ضرورة تبنّي قواعد تنظيمية واضحة ومحددة، تراعي حاجاتهم النمائية وتضمن تحقيق توازن فعّال بين التعلم والترفيه والرفاه النفسي. ومن أبرز هذه الاستراتيجيات:

1. تحديد وقت استخدام الشاشة

ينبغي تحديد قواعد واضحة لعدد ساعات الاستخدام اليومي للشاشات، بحيث لا تتجاوز ساعة واحدة للأطفال دون سن السادسة، وساعتين للأطفال الأكبر سناً، مع مراعاة الامتناع عن استخدام الأجهزة الرقمية خلال أوقات الوجبات أو قبل موعد النوم، نظراً لتأثيراتها المحتملة على النوم والنمط الغذائي للطفل.

2. تعزيز الأنشطة البديلة

ينبغي تشجيع الأطفال على الانخراط في أنشطة بديلة تسهم في تنمية مهاراتهم الحركية والإبداعية، بما يعزز صحتهم النفسية ويوازن استخدامهم للشاشات. وتشمل هذه الأنشطة على سبيل المثال:

  • الرياضة والأنشطة الخارجية.
  • القراءة وتمضية وقت في المكتبات.
  • الألعاب الذهنية والتركيبية (مكعبات، ألغاز، رسم).
  • المشاركة في الأعمال المنزلية والأنشطة التطوعية البسيطة.               

3. توفير بدائل رقمية آمنة

ينبغي توجيه الأطفال نحو استخدام المنصات الرقمية المخصصة لهم، مثل “YouTube Kids”، أو التطبيقات التعليمية المصممة وفق معايير عمرية محددة، وذلك بدلاً من الاعتماد على التطبيقات والمحتوى المفتوح، بهدف الحدّ من تعرضهم للمحتوى غير الملائم وتعزيز التعلم الآمن.

4. القدوة الوالدية

ينبغي على الأهل تقديم نموذج إيجابي من خلال تقليل استخدامهم للشاشات أمام أطفالهم، وإحياء ثقافة الحوار والمشاركة في الأنشطة واللعب العائلي، بما يعزز التفاعل الأسري ويسهم في تنمية مهارات الطفل الاجتماعية والنفسية ضمن بيئة أسرية صحية.

وقال رسول الله ﷺ: “فإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا” (رواه البخاري). فهذا التنبيه النبوي الكريم يذكرنا بتوازن الحقوق، وحق الطفل – وهو جزء من حق الأسرة – يأتي في صلب هذه الواجبات. فكما أن للجسد حقاً في الراحة من الإرهاق، وللعين حقاً في الوقاية من المؤذيات، فكذلك للطفل حقٌ علينا في حماية بدنه وعقله من الأذى، وتوفير البيئة الصحية التي تنمي فيه القوة والإيمان، بعيداً عن الإرهاق الرقمي الذي يضر بأعصابه وبصره ونفسه.

خاتمة

حماية الصحة النفسية لأطفالنا مسؤولية مشتركة تبدأ بالوعي والمتابعة وتنتهي بالتربية الواعية. ليست الشاشات عدوا، لكنها أداة قد تتحول إلى خطر إذا غاب التوازن. واجبنا اليوم أن نكون قدوة لأبنائنا، وأن نملأ حياتهم بما ينفعهم في الدنيا والآخرة، لننشئ جيلاً قوياً في إيمانه، سليماً في نفسه، معتزاً بهويته، قادراً على التعامل مع التقنية بوعي دون أن تكون هي المتحكمة فيه.