الصدق في السلوك الجهادي (1/2)

Cover Image for الصدق في السلوك الجهادي (1/2)
نشر بتاريخ

مقدمة

لا يقتصر الصدق على الصدق في القول فحسب، بل هو صدق في النية والعمل، ووفاء بالعهد، ونزاهة من الأمانة، والصدق أمر ضروري في الجهاد الروحي الفردي، والجهاد الجماعي، ويعد الصدق شرطاً أساسياً في بناء الجماعة المجاهدة الصالحة التي تؤدي دورها بصدق وإخلاص لله تعالى، ومن دون صدق، لا يكون العمل الجهادي قابلاً للثبات أو التأثير الحقيقي.

المحور الأول: الإطار المفاهيمي

1 – مفهوم الصِّدقِ لغةً

الصِّدقُ ضِدُّ الكَذِبِ، وأصلُ (صَدَقَ) يدُلُّ على قوَّةٍ في الشَّيءِ قولًا وغيرَه، وسُمِّي الصِّدقُ بذلك لقُوَّتِه في نفسِه، ولأنَّ الكَذِبَ لا قُوَّةَ له، فهو باطِلٌ، وقيل: هو في أصلِ اللُّغةِ: ثباتُ الشَّيءِ، ويقالُ: صَدَّقَه: قَبِلَ قولَه، وصَدَقَه الحديثَ: أنبَأَه بالصِّدقِ، ويقالُ: صَدَقْتُ القومَ، أي: قُلتُ لهم صِدقًا، وتصادَقَا في الحديثِ وفي المودَّةِ. 1

2 – مفهوم الصِّدقِ اصطلاحًا

الصِّدقُ: (هو الخبَرُ عن الشَّيءِ على ما هو به، وهو نقيضُ الكَذِبِ) 2. وقال الباجيُّ في إحكام الفصول:  (الصِّدقُ الوَصفُ المُخبَرُ عنه على ما هو به) 3. وقال الرَّاغِبُ الأصفهانيُّ في الذريعة إلى مكارم الشريعة: (الصِّدقُ مطابقةُ القولِ الضَّميرَ والمخبَرَ عنه معًا، ومتى انخرم شرطٌ من ذلك لم يكُنْ صِدقًا تامًّا) 4.

3 – مفهوم الصدق في الجهاد

الجهاد هو “العطاء الذي لا ينقطع” في سبيل الله؛ بمقابل وعد الله في دار الجزاء، والسلوك الجهادي، ينبغي أن يكون قائماً على الصدق، لا في الأدنى فقط، بل في كافة الأوجه، كقول الحق، والوفاء بالعهد، وعدم خيانة الأمانة. وينطلق من الحديث النبوي الذي يحدد الصدق كقيمة محورية تشمل صدق الحديث، والوفاء بالعهد، مع عدم الخيانة، روى البخاري ومسلم، عن عبد الله بْن مَسْعُودٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم-: (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ اَلصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى اَلْبِرِّ، وَإِنَّ اَلْبِرَّ يَهْدِي إِلَى اَلْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ اَلرَّجُلُ يَصْدُقُ، وَيَتَحَرَّى اَلصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اَللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ اَلْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى اَلْفُجُورِ، وَإِنَّ اَلْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى اَلنَّارِ، وَمَا يَزَالُ اَلرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى اَلْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اَللَّهِ كَذَّابًا) 5. وهذا يشكل القاعدة الأخلاقية لسلوك المجاهد الحقيقي الذي يلزم نفسه ومجاهدته بالصدق في كل أطر الجهاد سواء في الدعوة أو المواجهة الواقعية 6.

من خلال هذا الحديث الصحيح، تظهر منزلة الصدق العظمى، فهو يصلح النفس وينقذها من الخطأ والضلال، حيث يشفع الصدق لصاحبه يوم القيامة، ويجعله في كوْن الصادقين مدخلاً للسلوك إلى الله تعالى. قال تعالى في سورة المائدة: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ، لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[المائدة: 119]، فالصدق عماد الأمر، وثاني درجة بعد النبوة 7. قال تعالى في سورة النساء: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا[النساء: 69].

المحور الثاني: أقسام الصدق           

يتعدّد الصدق، وينقسم ابتداء إلى مرتبين:

 أولا: مرتبة الصادق: وهو من صدق في أقواله.

ثانيا: مرتبة الصدّيق: وهو من صدق في أقوالِهِ وأفعالهِ وأحوالهِ، باعتبار الصديقية ذروة الولاية والخلافة العظمى، وهي تترادف مع الفتوحات والكشوفات لصفاء النفس. لهذا لا بد من الكينونة مع الصادقين كطابع للتقوى، مصداقا لقوله تعالى في سورة التوبة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة: 119].

ويشمل الصدق ستة معانٍ أساسية:

1 – صدق القول، أو صِدقُ اللِّسانِ

وهو أشهَرُ أنواعِ الصِّدقِ وأظهَرُها، وصِدقُ اللِّسانِ لا يكونُ إلَّا في الإخبارِ، أو فيما يتضمَّنُ الإخبارَ ويُنَبِّهُ عليه، والخبَرُ إمَّا أن يتعلَّقَ بالماضي، أو بالمستقبَلِ، وفيه يدخُلُ الوفاءُ بالوعدِ، والخُلفُ فيه، وحقٌّ على كُلِّ عبدٍ أن يحفَظَ ألفاظَه، فلا يتكَلَّم إلَّا بالصِّدقِ.
فمَن حَفِظ لسانَه عن الإخبارِ عن الأشياءِ، على خِلافِ ما هي عليه فهو صادقٌ؛ ولهذا الصِّدقِ كمالانِ:

الكمال الأوَّلُ: في اللَّفظِ: أن يحتَرِزَ عن صريحِ اللَّفظِ، وعن المعاريضِ أيضًا، إلَّا عِندَ الضَّرورةِ.

الكمالُ الثَّاني: أن يراعيَ معنى الصِّدقِ في ألفاظِه التي يناجي بها ربَّه. الإخبار بالحق دون كذب أو مبالغة، وهذا أشهر شعب الصدق وأصله.

2 – صِدقُ النِّيَّةِ والإرادةِ

ويرجِعُ ذلك إلى الإخلاص في القصد والعزم على وجه الله دون رياء، وهو ألَّا يكونَ له باعثٌ في الحركاتِ والسَّكَناتِ إلَّا اللهُ تعالى، فإن مازجه شَوبٌ من حظوظِ النَّفسِ، بَطَل صِدقُ النِّيَّةِ، وصاحِبُه يجوزُ أن يُسمَّى كاذِبًا.

3 – صِدقُ العَزمِ

فإنَّ الإنسانَ قد يقدِّمُ العزمَ على العملِ؛ فيقولُ في نفْسِه: إنْ رزَقني اللهُ مالًا تصدَّقْتُ بجميعِه أو بشَطرِه، أو إن لقيتُ عدوًّا في سبيلِ الله تعالى، قاتلتُ ولم أُبالِ وإن قُتِلْتُ، وإن أعطاني اللهُ تعالى ولايةً، عدلتُ فيها ولم أَعْصِ اللهَ تعالى بظُلمٍ ومَيلٍ إلى خَلقٍ، فهذه العزيمةُ قد يُصادِفُها مِن نفْسِه، وهي عزيمةٌ جازمةٌ صادقةٌ، وقد يكونُ في عزمِه نوعُ مَيلٍ وترَدُّدٍ وضَعفٍ يُضادُّ الصِّدقَ في العزيمةِ، فكان الصِّدقُ هاهنا عبارةً عن التَّمامِ والقوَّةِ.

4 – صدق الوفاء بالعزم

فإنَّ النَّفسَ قد تسخو بالعزمِ في الحالِ؛ إذ لا مشقَّةَ في الوعدِ والعزمِ، والمؤنةُ فيه خفيفةٌ، فإذا حقَّت الحقائقُ، وحصل التَّمكُّنُ، وهاجت الشَّهواتُ، انحلَّت العزيمةُ، وغلبت الشَّهواتُ، ولم يتَّفِقِ الوفاءُ بالعزمِ، وهذا يضادُّ الصِّدقَ فيه؛ ولذلك قال اللهُ تعالى في سورة الأحزاب: رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ[الأحزاب: 23]، فهم صدَقوا في عزمِهم، وصدَقوا في الوفاءِ الحَقِّ بما عزَموا عليه، ولم تتراجَعْ نفوسُهم ولم تتردَّدْ في إنفاذِ العزمِ.
عن ثابتٍ قال: قال أنسٌ رضي الله عنه: (عَمِّي الذي سُمِّيتُ به، لم يشهَدْ مع رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم بدرًا. قال: فشَقَّ عليه، قال: أولُ مَشهَدٍ شَهِدَه رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غِبْتُ عَنه! فإنْ أراني اللهُ مَشهَدًا فيما بَعدُ مَعَ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليَرينَّ اللهُ ما أصنَعُ، قال: فهابَ أنْ يَقُولَ غيرَها. قال: فشَهدَ مَعَ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ أحُدٍ، قال: فاستَقبَلَ سَعدَ بنَ مُعاذٍ فقال له: أينَ؟ فقال: واهًا لِريحِ الجَنَّةِ أجِدُه دُونَ أحُدٍ! قال: فقاتَلَهم حَتَّى قُتِلَ، قال: فوُجِدَ في جَسدِه بضعٌ وثَمانُونَ مِن بينِ ضَربةٍ وطَعنةٍ ورَميةٍ، فقالت أختُه، عَمَّتي، الرُّبَيِّعُ بنتُ النَّضْرِ: فما عَرَفْتُ أخي إلَّا ببَنانِه! ونَزَلَت هذه الآيةُ من سورة الأحزاب: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ[الأحزاب: 23]، قال: فكانوا يَرَون أنَّها نزلت فيه وفي أصحابِه)، فهذا أنَسُ بنُ النَّضرِ عَزَم عزمًا صادِقًا، ولَمَّا خرج الكلامُ من فمِه، هاب أن يقولَ غيرَه، أو يستثنيَ، ثمَّ لَمَّا جاءت غزوةُ أحُدٍ، وحدث بها من الأهوالِ والهزيمةِ للمُسلِمين، لم يتراجَعْ، بل أكمَل عمَلَه بصِدقٍ، حتى أنزل اللهُ سُبحانَه تصديقَه في عزمِه وفي وفائِه به بالعمَلِ.

5 – الصِّدقُ في الأعمالِ والأفعالِ

وهو أن يجتَهِدَ حتى لا تدُلَّ أعمالُه الظَّاهرةُ على أمرٍ في باطنِه لا يتَّصِفُ هو به.

ولا يتحقَّقُ الصِّدقُ في الأعمالِ إلَّا باستواءِ السَّريرةِ والعلانيةِ، بأن يكونَ باطِنُه مثلَ ظاهِرِه أو خيرًا من ظاهِرِه. ويسمى صدق الحال: لاستواء السريرة والعلانية في الأعمال والمعاملات.

6 – صدق الطلب، أي الصِّدقُ في مقاماتِ الدِّينِ

بأن تكون الهمّة جادّة في السعي للمعالي مع مواجهة العقبات 8. وهو أعلى الدَّرَجاتِ وأعزُّها، ومن أمثلتِه: الصِّدقُ في الخوفِ والرَّجاءِ، والتَّعظيمِ والزُّهدِ، والرِّضا والتَّوكُّلِ، وغيرِها من الأمورِ. ومن اتَّصف بالصِّدقِ في جميعِ ما سبق فهو صِدِّيقٌ 9.

المحور الثالث:  فوائِدُ الصِّدقِ

1 – الصِّدقُ طريقُ الأبرارِ إلى الجنَّةِ.
2 – الصدق من أسبابِ محبَّةِ اللهِ والقُربِ منه.
3 – الصَّادِقون يحبُّهم النَّاسُ ويَثِقون بهم ويأتمِنونَهم في سائِرِ مُعاملاتِهم.
4 – الصِّدقُ يرفَعُ قَدْرَ صاحِبِه.
5 – الصِّدقُ يرفَعُ الأعمالَ ويُعلي شأنَها.
6 – الصِّدقُ دليلُ القُوَّةِ وسِمةُ الثِّقةِ بالنَّفسِ.
7 – الصِّدقُ مَنجاةٌ.
8 – الصِّدقُ في الحديثِ يجعلُه مؤثِّرًا في القلوبِ.
9 – الصَّادقُ محشورٌ مع النَّبيِّين والشُّهداءِ والصَّالحين.
10 – حصولُ البَركةِ في الأعمالِ والأموالِ، ومن ذلك حُصولُ البركةِ في البيعِ والشِّراءِ، كما قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (البَيِّعانِ بالخيارِ ما لم يتفَرَّقا  – أو قال: حتى يتفَرَّقا-، فإن صدَقَا وبَيَّنَا بورِكُ لهما في بيعِهما، وإنْ كَتَما وكَذَبا مُحِقَت بَركةُ بَيْعِه). (حُصولُ البركةِ لهما إن حَصَل منهما الشَّرطُ، وهو الصِّدقُ والتَّبيينُ، ومَحْقُها إن وُجِد ضِدُّهما، وهو الكَذِبُ).
11 – انشراحُ الصَّدرِ وسكينةُ النَّفسِ.
12 – الصِّدقُ يُبعِدُ صاحِبَه عن النِّفاقِ.
13 – يؤدِّي إلى تماسُكِ المجتمَعِ وترابُطِ أفرادِه.
14 – الصِّدقُ هو طريقٌ إلى علُوِّ المنزلةِ بَيْنَ النَّاسِ؛ يقولُ ابنُ القَيِّمِ في الصِّدقِ: إنَّه (منزِلُ القومِ الأعظمُ الذي منه تنشَأُ جميعُ منازِلِ السَّالكين… ومن نطَق به علَت على الخصومِ كلِمتُه، فهو روحُ الأعمالِ، ومحكُّ الأحوالِ… وهو أساسُ بناءِ الدِّينِ، وعمودُ فُسطاطِ اليقينِ، ودرجتُه تاليةٌ لدرجةِ النُّبُوَّةِ… وقد أمَر اللهُ سُبحانَه أهلَ الإيمانِ أن يكونوا مع الصَّادقين، وخَصَّ المنعَمَ عليهم بالنَّبِّيين والصِّدِّيقين والشُّهَداءِ والصَّالحين، فقال تعالى في سورة التوبة[1] : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة: 119] 10.


[1] (العين) للخليل بن أحمد (5/ 56)، (مقاييس اللغة) لابن فارس (3/339)، (لسان العرب) لابن منظور (10/193)، (مختار الصحاح) للرازي (ص: 174).
[2] (الواضح في أصول الفقه) لابن عقيل (1/129).
[3] (إحكام الفصول) للباجي، (ص: 235).
[4] (الذريعة إلى مكارم الشريعة) (ص: 270).
[5] صحيح. رواه مسلم (2668)، وزاد في أوله: “إن” والحديث رواه البخاري (7188) فكان الأولى بالحافظ -رحمه الله- أن يقول:” متفق عليه”.
[6] قراءة في كتاب “الإسلام بين الدعوة والدولة” لمرشد جماعة العدل والإحسان عبد السلام ياسين. http://efustat.blogspot.com/2015/04/blog-post.html
[7] الصدق https://aljamaa.net/posts/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AF%D9%82-3
[8] طريق الصدق https://aljamaa.net/posts/%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AF%D9%82
[9] (إحياء علوم الدين) للغزالي (4/387).
[10] (مدارج السالكين). لابن القيم(3/5).