الصيام بين العادة والعبادة

Cover Image for الصيام بين العادة والعبادة
نشر بتاريخ

ونحن -والمسلمون جميعا- نشرف على استقبال شهر رمضان المعظم، شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، نسأله سبحانه وتعالى أن يبلغنا إياه لننعم بأنهره ولياليه وننال إن شاء الله ذلك الثواب فضلا منه ونعمة. ثواب عظيم لمن صام نهاره وقام ليله، إيمانا واحتسابا، وعدا من الله الذي لا يخلف وعده سبحانه لمن أقبل عليه بالكلية مجتهدا باذلا الوسع في التقرب منه سبحانه بالفرض والنفل، حريصا على صون صيامه من كل شائبة تخدش قدسيته وتخصم من روحانيته.

أيام معدودات يجدر بالعاقل اللبيب أن يحرص كل الحرص على اغتنام دقائقها وثوانيها؛ يملأها بأصناف الطاعات كي لا تُسرَقَ منه من طرف “لصوص” رمضان، وما أكثرهم. ومن لم يحترز منهم لا شك تضيع منه كلها أو بعضها وما ينبغي له ذلك.

الناس في صيام رمضان صنفان؛ صنف يصوم رمضان صيام عبادة، وصنف يصومه صيام عادة، والفرق بين الصنفين ما بين السماء والأرض.

صيام العادة

هو الإمساك عن المفطرات الحسية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وكفى؛ لا يزيد على ذلك شيئا، وقدْرَ ما أمسك عنه من الأطعمة نهارا يضاعفْه ليلا، لا يلجم لسانه عن سفه القول، يمعن في أكل لحوم إخوانه من المسلمين والمسلمات بدون أدنى حرج، وهذا في غير رمضان منكر وحرام فما بالك في زمن رمضان، ولذلك نبَّه النبي صلى الله عليه وسلم الصائمين إلى خطورة هذا الفعل الشنيع في قوله عليه الصلاة والسلام: “لا خَيرَ فيها، هيَ من أهلِ النَّارِ” 1 قاله جوابا على سؤال من الصحابة رضوان الله عليهم في شأن امرأة تكثر من النوافل لكنها تؤذي جيرانها بلسانها. فمن يمسك عن الطعام والشراب طيلة نهاره، وهما حلال، لكن لا يمسك لسانه عن الغيبة والنميمة وقول الزور عن أعراض الناس فلا صيام له، قال عليه الصلاة والسلام: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” 2.

زمن رمضان زمن مبارك تضاعف فيه الحسنات كما تضاعف فيه السيئات، والموفَّقُ فيه من كثرت فيه حسناته وقلَّت فيه سيئاته، ومن يصوم رمضان صيام عادة لا فرق لديه بين رمضان وغيره من الشهور إلا في الإمساك عن الطعام نهارا، فتجده -في أحسن الأحوال- ينام طول الليل لا يقوم منه شيئا، أو يسهر في المقاهي مع من هم مثلُه على لعب الورق أو في النوادي على رمي الجُلَّة إلى غاية الفجر فيسرع ليتناول طعام السحور ثم يخلد إلى النوم إلى حين أذان العصر أو بعده، ما صلى الصبح ولا الظهر في الوقت وقد قرأ (أو سمع) قول الله سبحانه في محكم تنزيله: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا [النساء: 102]، وما بعد العصر إلى قبيل المغرب يركض في ضواحي المدن أو ينخرط مع أمثاله في تقاذف الكرة في ملاعب القرب؛ يهتم بصحة بدنه في غفلة تامة عن تقوية إيمانه وهو في حضن شهر أنهره ولياليه كلها نفحات إيمان لا تنقطع، روى محمد بن مسلمة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: “إن لربكم في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها، لعل أحدكم أن تدركه فلا يشقى بعدها أبدا” 3. والنفحات هن المكافآت عن الأعمال الحسنة، وما أعظمها في زمن رمضان الذي قال رب العزة والجلال عن صومه: “كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به”رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم..

شهر رمضان شهر القرآن، لا يليق بالمؤمن أن يغفل عن تلاوته وسماعه وتدبره وحفظه آناء الليل وأطراف النهار خلال أيام الشهر الفضيل، وأن يجتهد في القيام بسوره وآياته لياليه، فيقضي جل أوقاته ينتقل من طاعة إلى أخرى يعمر بها أوقاته، بدل العكوف على الهاتف النقال يتصفح مواقع الشبكة العنكبوتية ينتقل من صفحة إلى أخرى يقضي فيها الساعات الطوال لو قضى متوسطها بين آيات القرآن تاليا؛ لختمه في شهره ختمات ينال بكل حرف منها حسنة والحسنة بعشر أمثالها والله يضاعف لمن يشاء، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

صيام العبادة

أول ما ينبغي لصائم رمضان عبادة لا عادة أن يستحضر النية الحسنة المتمثلة في قصد مولاه بعمله، يرجو ثوابه ويخاف عقابه فيقبل على ربه بكل جوارحه يجتهد لنيل رضاه، كيف لا وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي قال: “إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَيُنَادِي مُنَادٍ “يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ ليلة”. ثم يعمل على استغلال سويعات شهر رمضان في كل ما ينفعه: يستحضر نية العبادة في أعمال دنياه فتتحول بفضل الله بذلك إلى عبادة، ثم ينوع الأعمال التعبدية في ليله ونهاره بين صيام وقيام وتلاوة وذكر وصدقة وإطعام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ومساعدة لمحتاج وزيارة لمريض وذكر للموت وحضور جنازة وسعي للخير حيث كان.

لا ينبغي للمؤمن أن يتساوى يومه في رمضان بيومه في غير رمضان، بل يجتهد فيضاعف من الأعمال التعبدية ما يقبل منها التضعيف، ويحرص كل الحرص على أداء الصلوات الخمس في الجماعة شاهدا تكبيرة الإحرام مع الإمام وذلك بالحضور قبل الوقت مقدما النافلة قبل الفريضة ومشفعا بها بعدها، وتاليا لورده من القرآن محاولا ختمه عدة ختمات. كما يخصص في يومه جلسات للذكر مصليا على النبي ومهللا ومسبحا وخاصة جلستي الشروق والغروب، ويختمها بأذكار الصباح والمساء وأذكار التحصين. كل ذلك يحاول أن يغلق في وجه نفسه والشيطان أبواب الغفلة عن الله يسعيان (النفس والشيطان) لتظل مشرعة فتنفذ منها وساوس للقلب تحجبه عن مراده وبغيته في رمضان، فيميل به هواه إلى اللهو واللغو فيضيع منه وقته في مشاغل تافهة إن لم تُزْرِ بصيامه خصمت من روحانيته.

صيام العبادة هو صيام عباد الله المحسنين؛ والإحسان كما عرفه سيدنا جبريل عليه السلام في الحديث المشهور الذي رواه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجاء فيه: “… قال (جبريل عليه السلام) فأخبرني عن الإحسان؟ قال (النبي صلى الله عليه وسلم): أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”. هو صيام من لا يغيب عن إدراكهم لحظة أن الله سبحانه يراقبهم في السر وفي العلانية، ولعظمته سبحانه تكاد قلوبهم تنفطر من شدة خوفهم وحيائهم منه أن يعلم منهم حالا غير الذي يرضيه سبحانه، فتذعن جوارحهم استجابة لقلوبهم تلك فلا تأتي من الأعمال إلا أزكاها وأرضاها وأسماها.

قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: “اعلم أن الصوم ثلاث درجات: صوم العموم وصوم الخصوص وصوم خصوص الخصوص:

 وأما صوم العموم: فهو كف البطن والفرج عَنْ قضاء الشهوة، كما سبق تفصيل ذلك.

وأما صوم الخصوص: فهوَ كف السمعِ والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام.   

وأما صوم خصوص الخصوص: فصوم القلب عن الهمم الدَّنِيَّةِ، والأفكار الدنيوية، وكفُّهُ عَمَّا سوى اللَّهِ عز وجل بالكلية” 4.

نعم قد يقول قائل إن ما سطرته صعب المنال في ظل ظروف ذاتية وموضوعية تحول بين الواقع والمأمول، والجواب أن ما ذكرته قابل للتطبيق ما توفرت الإرادة والعزم أولا، ثم استعان المؤمن بالله ثم بإخوانه من المؤمنين ثانيا، ثم انتهج سبيل التدرج في التطبيق كلما ثبَّتَ خطوة زاد أخرى أو حاول أن يثبت من كل عبادة جزءا يسيرا؛ فما لا يدرك كلُّه لا يُتْرَكُ جُلُّهُ، وقد قيل “لا يعجز البدن عما بلغته النية”. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.


[1] أخرجه أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد.
[2] رواه البخاري.
[3] أخرجه الطبراني.
[4] إحياء علوم الدين، (1/234).