تمهيد
أن يكون أطفالنا من أهل الله وخاصته، وأن نلبس تاج الوقار بحفظهم للقرآن، حلم تشرئب إليه أعناقنا، فهل فعلا هذه هي نيتنا من تحفيظ أبنائنا للقرآن؟ وماذا عن نياتهم؟ وما مدى موافقة منهجنا في التعليم القرآني للمنهج النبوي؟
1- تسديد النية
إخلاص النية لله أمر عظيم يتوقف عليه مصيرنا الأخروي، إن نعش لحظة واحدة بغير إخلاص، نكون قد وضعنا مصيرنا على فوهة مدفع الشيطان، الذي لا يجد راحته حتى يكون له من أعمالنا حظ ونصيب، فمن منا يصفي أعماله وأقواله بمصفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه” (رواه النسائي وأبو داوود وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة وفي صحيحه الترغيب).
فلا بد لنا نحن كآباء ومربين أن نسدد نياتنا أولا، لا بد من تحقيق دقيق مع الذات، لا بد من الوقوف على أسئلة: لماذا أفعل؟ وما أفعل؟ ولمن؟ حتى نطمئن أن نياتنا على السداد، وأنها خالصة لوجه الله تعالى.
كيف نسدد نيات أطفالنا؟
– أولا نحاور الأطفال تلقائيا، وبدون ضغط، لتشخيص الدوافع التي جعلتهم يقبلون على حفظ القرآن، أهو رضى الوالدين؟ أم لمكافأة؟ أو للفوز بمسابقة؟ أو ليكون مشهورا؟ أو ليتخلص من الضغط الأسري؟ .. “فكثير من الأطفال يتعرضون للضرب والصراخ والضغط من أجل حفظ القرآن الكريم سواء في البيت أو في المدرسة أو في الكتاتيب، مع أنهم لم يكلفوا بحفظه فيكرهوه ويكرهوا دينهم. والصلاة التي هي عماد الدين لم يكلف بها الطفل إلا في عشر سنوات، ويتعلمها بتدرج لمدة ثلاث سنوات”.
إن كانت نية الطفل متعلقة بأمور دنيوية (الفوز بمسابقة، الشهرة…) فبمجرد الإخفاق في تحقيقها ينطفئ نور الحماس فيه وينتهي العمل، أما إن كانت النية متعلقة بأمور أخروية فإنه سيعيش معها أبدا ما حيي إلى أن يلقى الله تعالى.
– ثم نسدد نياتهم: نعلمهم أن كل عمل لابد له من نية خالصة لوجه الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى” (رواه البخاري)، يمكن أن نعوض المقدر المحذوف بإنما “قبول/صلاح/تفاضل” الأعمال بالنيات. فمقتضى شهادة أن “لا إله إلا الله” التي هي عنوان الإسلام أنه لا معبود بحق إلا الله، وأن كل عمل أو قول يجب أن أؤديه بكمال الحب وكمال الطاعة لله وحده.
إن سددنا نيات أطفالنا سوف نعينهم على تيسير عملية التعليم القرآني لديهم، وسيكون الإقبال على تعلم القرآن أكثر، وتكون النتائج أحسن.
2- تسديد المنهجية
مقتضى شهادة أن “محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم” أن أي عمل لابد أن يكون موافقا لسنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو من شروط القبول وحصول الأجر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: “من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد” (صحيح البخاري 3/184 و9/107 – صحيح مسلم 1343)، وقال: “فمن رغب عن سنتي فليس مني” (صحيح البخاري 7/2، صحيح مسلم 2/1020).
فهل طريقة تعليمنا للقرآن هي فعلا موافقة لسنة الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم؟
– المنهج النبوي:
يقوم المنهج النبوي في التعامل مع القرآن على ثلاثة أركان (أركان المنهج النبوي للدكتور شريف طه يونس، ص 9/10):
الركن الأول: العناية بالمعاني والمباني معا، المعاني تعني الفهم والتدبر والاتباع، وكانوا يطلقون عليها (الإيمان)، والمباني تعني القراءة والضبط وحفظ الرواية، وكانوا يطلقون عليها (القرآن). فلم يكونوا يعتنون بالمباني فقط كما يفعل الكثير منا اليوم.
الركن الثاني: العناية بالمعاني أكثر من المباني وتقديمها عليها؛ (الإيمان قبل القرآن)، لا نقصد ترك المباني كلية لما بعد العناية بالمعاني، بل نقصد أخذ قدر من حقوق المباني ليساعدنا على الفهم، ثم نؤخر بقية الحقوق لما بعد الفهم والتدبر والعمل.
الركن الثالث: العناية بالمعاني كانت علما وعملا ولم تكن علما (فهم وتفسير فقط) كما يفعل الكثير منا اليوم.
يقول ابن عمر رضي الله عنه وهو من الصحابة الذين عاشوا طفولتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم: “لقد عشنا برهة من الدهر وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها، وأمرها وزجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها “ وفي رواية “كما تتعلمون أنتم اليوم القرآن”، “ثم لقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ من بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما آمره ولا زاجره وما ينبغي أن يقف عنده فينثره نثر الدقل“ (رديء التمر) (قال الحاكم في المسترك 1/83 هذا حديث صحيح عن شرط الشيخين، ولا أعرف له علة ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وذكره أبو عبد الله الداني في سلسلة الآثار الصحيحة 1/164).
ويقول جندب بن عبد الله: “كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن غلمان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا” (حزاورة جمع الحزور وهو الغلام إذا أشتد وقوي وحزم، كذا في الصحاح، وفي النهاية الذي قارب البلوغ) (رواه ابن ماجة 61 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 1/37-38).
ويؤكد حذيفة ما جاء عن عمر وجندب ابن عبد الله رضي الله عنه “إنا آمنا ولم نقرأ القرآن وسيجيء قوم يقرؤون القرآن ولا يؤمنون” (مجموع الفتاوى، 6/650).
هكذا كان منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليم الصحابة وأطفال الصحابة القرآن الكريم، والفرق شاسع بين منهجيتنا ومنهجيته صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله عز وجل:كما أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (سورة البقرة، الآية 115)، فقد علم حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أصحابه الإيمان قبل القرآن، فجعلهم أزكياء القلوب، علمهم الحكمة ورباهم. قال ابن قتيبة “الحكمة عند العرب العلم والعمل” (مجموع الفتاوى 19/170).
ومن سمات منهجه صلى الله عليه وسلم التمهل في تعلم القرآن، قال ابن مسعود: “كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن” (تفسير الطبري 1/80 وصحح الشيخ شاكر وقفه قال ولكنه مرفوع معنى وكذلك الشيخ الحويني)، فنجد ابن العباس رضي الله عنه، وقد بلغ على الأقل عشر سنين، لا يحفظ أكثر من المفصل كما جاء في صحيح البخاري، وعمر رضي الله عنه يتعلم البقرة في إثنا عشر عاما كما أورد الذهبي في السير، وابنه عبد الله رضي الله عنه يتعلمها في ثمان سنين كما أورد مالك والموطأ، ونحن نجد الطفل ذو عشر سنين أو أقل يحفظ القرآن كاملا!!؟
كانت العناية في المنهجية النبوية بإصلاح الجوهر وتطهير القلب، وبناء أكمل إنسان بأوفر حظ من الإيمان الذي يمكنه من الوصول إلى أعلى آفاق العمران.
خاتمة
القرآن رسالة الله إلينا، لنجعله دستور حياتنا، ونعمل به، والمشكلة اليوم هي أننا نقرأ القرآن على أنه مجرد مصحف لا روح فيه.
إن أردنا أن نكون من أهل القرآن، وأن يكون أطفالنا ممن ينهض بهذه الأمة، وجب علينا اتباع منهجية حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم في تعليم القرآن فهي كفيلة بذلك، وإلا نكون ممن يصدر للأمة نماذج ذمها الله ﷻ في قوله: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا (سورة الجمعة الآية 5).