لقد أودع الله في الإنسان من أسراره وعطاياه ما قد تحار في فهمه الأذهان، وجعل له من نفسه آيات جليلة ومعاني عظيمة، ففيها وإليها أوحى وبث ورسخ وبين وأبلغ، فتفجرت ينابيع حكمته، وأينعت شجرة معرفته.
هذا الإنسان المكرم بالخلق سويا، والمرفوع القدر بالنشء عن غيره من الخلوقات، ألبسه الله لباس العقل والعلم والمعرفة والنور الجلي؛ يفهم ويؤول، يحفظ ويرتل، يتلقى ويستقبل. فالعقل آية من آيات الله. والفهم عطاء إلهي، والحفظ مكرمة ربانية للإنسان يبلغ بها أعلى المراتب.
وما أوتي امرؤ من الخير والكرم أفضل من القرآن، لأن الله رفع به أقواما وخفض آخرين على حد قول عمر رضي الله عنه. وإن الكرامة لتزداد بفضل القرآن بحفظه في الصدور، وإن أثره ليمتد من الحافظ إلى أهله وذويه، إلى والديه وأقاربه، لأن الله منحه فضيلة الشفاعة لهؤلاء. لذلك كان حرص الآباء العقلاء شديدا على تحفيظ أبنائهم القرآن وإقرائهم له في الصغر وتمكينهم منه في الصبا.
1- متى يبدأ حفظ القرآن
تبدأ تنشئة الطفل على حب القرآن وهو جنين في بطن أمه، وقد أثبت العلماء أن الجنين يتأثر بكل الحالات التي تمر بها الأم؛ من حزن وفرح وسعادة وقلق… كما يتأثر بكل ما تتلقاه الأم؛ من ذلك القراءة، فما بالك إذا كان ما تتقاه هو كتاب الله المنزل رحمة للعباد، وطمأنينة قلب وراحة بال، ونورا وهدى وموعظة… فما أطيبها من مضغة إذا غديت بنور القرآن! فأصبح القرآن هو النور وهو الغذاء يسري في تلكم المضغة يحفظها ويصونها.
وتأتي فترة الرضاعة وهي فترة لا يخفى على أحد أهميتها في تكوين شخصية الطفل، حيث تبدأ حاسة السمع عند الرضيع باستقبال كل ما يصدر في محيطه ويتفاعل ويخزن كل ما يسمعه. وقد جاء التوجيه الإلهي العظيم في سورة البقرة: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين [سورة البقرة: 231]. تأكيدا من الله تعالى على ضرورة إرضاع الطفل، إذ الرضاعة من أكثر الوسائل التي تساعد الأم على توجيه طفلها توجيها قرآنيا. وقد أثبتت التجربة التي أجريت على بعض الأمهات اللواتي يقرأن القرآن أثناء الرضاعة، أن الرضيع يتأثر بالقرآن، يتوقف لوهلة ثم يكمل الرضاعة، وعليه فإن الرضيع يرضع القرآن رضعا مع حليب أمه، فيسري في دمه وعروقه ويغذي قلبه وعقله. كما أن تجربة أخرى أجريت على ثمانين طفلا كانوا يسمعون القرآن أثناء الرضاعة، أقرت أن ستين منهم حفظوا القرآن عند بلوغ خمس سنوات. يقول الإمام المجدد رحمه الله: “هل يستوي في فرص علوق الإيمان بالقلب من غذينه بالأغاني رضيعا ومن ألقمنه مع ثدي اللبن ثدي التغني بالقرآن؟” [1].
ثم تبدأ المرحلة المهمة والأساسية من مراحل التلقي عند الطفل، وهي مرحلة بداية التعلم في سن الثالثة، لأن ذاكرة الطفل عندها تكون صفحة بيضاء وفطرته صافية لا تشوبها شائبة ولا يكدر صفوها شاغل من مشاغل الدنيا، فحدد العلماء في علم النفس التنموي أن الطفولة تبدأ من الرضاعة إلى مرحلة البلوغ، ولكن السن الذهبية التي ألح عليها العلماء هي ثلاث سنوات. لأن الطفل يكون فيها أصفى ذهنا وأكثر استيعابا وتحصيلا، ولا سيما إذا وجه إلى تعلم القرآن مع مراعاة طاقاته وقدراته واستعداداته، واختيار الأوقات المناسبة لذلك، واستعمال كل الطرق الحديثة التي تساعد على التلقي والتعليم.
2- أهمية تحفيظ القرآن في الصغر
روى البخاري في تاريخه الكبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من تعلم القرآن وهو فتي السن خلطه الله بلحمه ودمه”.
وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبيا” [2]. وهذا إشارة إلى ما أعطاه الله لنبيه يحيى عليه السلام الذي آتاه الحكم أي الحكمة وهو صغير. فتعلم القرآن في هذه المرحلة العمرية أدعى إلى ثبوته في القلوب والأذهان ورسوخه. أضف إلى ما له من أثر عظيم ونور عميم يغشى الطفل، فهو خير معين وموجه ومرب للطفل في كل مناحي حياته.
3- تأثير القرآن على شخصية الطفل
جاء التوجيه النبوي الشريف للآباء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَدِّبُوا أَولَادَكُم على ثَلاثِ خِصَالٍ: حُبِّ نَبِيِّكُم، وَحُبِّ أَهلِ بَيتِهِ، وَقِرَاءَةِ القُرآنِ، فَإنَّ حَمَلَةَ القُرآنِ في ظِلِّ اللهِ يَومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ، مَعَ أَنبِيَائِهِ وَأَصفِيَائِهِ» [3].
يقول الإمام المجدد رحمه الله: “ثم يكون القرآن محور العملية التربوية ومورد العلم وجامع العلوم لا سيما في السنوات التسع الأولى حيث يتكون النسيج الأساسي للشخصية” [4].
4- تأثير القرآن على لغة الطفل
أكدت الدراسات العلمية الحديثة على أن تعليم القرآن للأطفال في الصغر يقوي الذاكرة ويضمن لهم النجاح والتفوق في مسارهم الدراسي حتى يكبرون، أضف إلى ذلك أنه يقوي لغتهم ويزيد من فصاحتهم ويصون لسانهم من كل لحن ويصحح مخارج الحروف التي هي الأساس في بناء لغة عربية سليمة، وقد أوردت كتب الأدب أن الشاعر الفرزدق لما تنبه إلى ضعف عربيته ربط نفسه إلى مكان يحفظ القرآن ليقوي لسانه، وتزداد فصاحته.
وقد سلك سلفنا منهجا خاصا في تلقين أبنائهم، فكانوا يجعلون لهم معلمين للقرآن والحديث والأدب، ثم جاء الاهتمام الواسع بكتاب الله تحفيظا وتعليما في الكتاتيب القرآنية التي امتدت على طول رقعة بلاد المسلمين، وكان مما قدره المسلمون في الاتحاد السوفياتي سابقا وهم يتعرضون للتنكيل من أيادي البطش الشيوعي، الاعتناء بحفظ القرآن، فقد ورد أن أحدهم قال: أخبرني أبي أن جدِّي كان يحمله وهو صغير على (حمار) ويذهب به مسافة بعيدةً خارج القرية ثم يضع عُصابةً على عينيه ويقود به الحمار حتى يدخل في مغارة في الجبل تؤِّدي إلى موقع فسيح، وهناك يفك العصابة عن عينيه، ويستخرج من مكان هناك ألواحاً نقشت عليها سور القرآن ويحفظه ما تيسر ثم يعصب عينيه ويعود به إلى المنزل حتى حفظ والدي القرآن الكريم.. قلنا له، والعجب يملك نفوسنا: ولماذا كان جَدُّك يعصب عيني والدك.. قال الفتى: سألنا والدي عن ذلك فقال: كان يفعل ذلك خشية أن يقبض النظام الشيوعي ذات يوم على ولده فيعذِّبوه، فيضعف، فيخبرهم بمكان مدرسة التحفيظ السريَّة في تلك المغارة، وهي مدرسة يستخدمها عدد من المسلمين حرصاً على ربط أولادهم بالقرآن الكريم.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: “فأما تدبر العلم فينبغي أن يحمل الصبي من حين يبلغ خمس سنوات على التشاغل بالقرآن والفقه وسماع الحديث ليحصل له المحفوظات أكثر من المسموعات، لأن زمن الحفظ إلى خمسة عشر عاما” [5].
وقد ثبت أن أصحاب القرآن أكثر تحصيلا وأشد مهارة في العربية والدراسة بشكل عام، وأكثر تفوقا وتميزا عن غيرهم لمدى استيعابهم لنور الوحي.
5- كيف نربط الطفل بالقرآن
من المعلوم أن الطفل في مرحلة معينة يصبح أكثر محاكاة وتقليدا لكل ما يرى ويسمع، وأول من يتأثر به الطفل في حياته هما والداه، فيجب عليهما أن يكونا منارة وقدوة يهتدي الطفل بهما، فقراءة الوالدين للقرآن أمام أنظار الأبناء خير محفز وأصدق مشجع. فمرحلة الطفولة مرحلة مهمة وجب التهيؤ لها والاستعداد واستغلالها أحسن استغلال، إذ التعلم في الصغر كالنقش على الحجر، وتتبع ذلك وسائل محفزة عديدة منها:
– إهداؤه مصحفا خاصا به: لأن التملك غريزة في طبع الإنسان وهي عند الطفل أقوى، وتملك نسخة من القرآن يجعله أكثر ارتباطا وتعلقا به.
– حثه على حضور مجالس العلم وتحبيبها له: فمجالس العلم والذكر لها خصوصياتها ومزاياها التربوية والتعلمية والروحية. وهي أيضا مجال للتنافس بين الأقران على حب الخير وحفظ القرآن.
– المشاركة في المسابقات القرآنية: يجب استغلال روح التنافس عند الطفل في تعلم القرآن بالمشاركة في المسابقات والمباريات القرآنية، وذلك ضمانا للاستمرارية والمواصلة ودفعا للفتور لأنه سيكون له حافزا يحثه على التقدم.
– مكافأة الطفل بالهدية: هي عملية تحفيز تزيد من تعلقه بالقرآن خصوصا في سنه الصغير، كافئيه حتى يشب على حب القرآن فيكون الحافز بعدئذ ذاتيا منبعه حب القرآن خاصة.
خاتمة
القرآن مشروع حياة، وإعداد جيل يحمل لواء القرآن يحتاج إلى مثابرة ومتابعة وعناية وغرس وسقي ورفق ولين.. من غير كلل ولا ملل، حتى ننال المبتغى.
وإليكما أيها الوالدان أبث هذه البشرى النبوية العظيمة؛ عن بريدة رضى الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَوْءُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا لَوْ كَانَتْ فِيكُمْ فَمَا ظَنُّكُمْ بِالَّذِي عَمِلَ بِهَذَا؟” [6].
[1] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات، 2/ 232.
[2] أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس مرفوعا.
[3] أَخرَجَهُ الدَّيلَمِيُّ في الفِردَوسِ، وابنُ النَّجَّارِ، وأَبُو نَصْرِ الشِّيرَازِيُّ، عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، وهوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ.
[4] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات، 2/ 232.
[5] ابن الجوزي، صيد الخاطر، ص: 267.
[6] رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.