كان السؤال المسيطر دوما على أذهان المراقبين لجماعة العدل والإحسان، كلما فكروا في مرحلة ما بعد الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، هو:
– من يستطيع أن يخلف هذا الرجل في قيادة أكبر تنظيم إسلامي بالمغرب؟! من يعوّض غياب إمامٍ راشدٍ، وعالمٍ رباني، ومصلح كبير، وداعية خبير، عرفه العالم بأنه “ناصح الملوك”؟!
تَرَقَّبَ الناس.. حللوا وفكروا وقدّروا وانتظروا.
وكان الجواب: اختيار العالمِ الجليلِ والداعيةِ الربّاني، الأستاذ محمد عبادي، أمينا عاما لها يوم الثالث والعشرين من دجنبر سنة: اثني عشر وألفين (23/12/2012).
فمن هو هذا الشيخ الهادئ المَهيب، القادم من الريفِ الشامخِ؟
وما حكاية بروزه واختياره لقيادة جماعة العدل والإحسان؟
هو محمد بن عبد السلام عبادي، ولد في فاتح يناير سنة تِسْعٍ وأربعينَ وتِسعِمائةٍ وألف (01/01/1949) بمدينة الحسيمة شمال المغرب، حفظ القرآن الكريم على يدي والده وهو لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره.
وبعد أن أنهى دراسته الثانوية بمدينة تطوان، قرّر أن يستكمل تحصيله العلمي في العلوم الإسلامية، فحمَلَه الحرص على طلب العلم على شدِّ الرّحال إلى سوس، ثم إلى الجزائر، قبل أن يعود إلى قبيلة غمارة، قاطعا قرابة ثلاثمائة وخمسين كيلومترًا على قدميه.
حرص في كل تلك السنوات، على الأخذ المباشر عن المشايخ والعلماء، على رأسهم العلامة المحدث سيدي عبد الله بن الصديق، والشيخ المحدث سيدي عبد الله التليدي، والعالمين الجليلين: الفقيه العياشي، والفقيه البقالي، وغيرهم. غير أن تكوينه المتين، وفقهه الواسع، مدين أيضا إلى ولعه الدائم بالقراءة والمطالعة، واشتغاله الدائم بإنفاق ما حَصَّله من علوم ومعارف: تعليما وتذكيرا، اتِّصافا ودعوة.
اشتغل الأستاذ محمد عبادي سنة خمسٍ وسبعينَ وتسعمائةٍ وألفٍ (1975) مُدَرِّسًا للعلوم الشرعية بمعهد وزارة الأوقاف بأزمّور لمدة سنتين، التحق بعدها بالمركز الجهوي لتكوين الأساتذة بآسفي، حيث تخرج أستاذا في مواد اللغة العربية، كما حصل على شهادة الإجازة من كلية أصول الدين بمدينة تطوان التابعة لجامعة القرويين سنة اثنين وثمانين وتسعمائةٍ وألف (1982).
لم يثنه العمل عن مواصلة جهوده الدعوية المتعددة، قبل انتمائه إلى الجماعة وبعده، فقد تصدّى لمنبر الوعظ والخطابة منذ شبابه المبكّر، واستمرّ في جهوده مدّة خمس عشرة سنة (15 سنة) توزّعت على العديد من المساجد بكل من مدن طنجةَ وآسَفي وسطات ووجدة، وهو ما جعله يحقق رقما قياسيا في عدد التوقيفات التي تعرّض لها خلال مسار اشتغاله بالخطابة، حيث بلغت إحدى عشر مرة، قبل أن يُمْنَعَ من أداء هذا الواجب نهائيا سنة تسعٍ وثمانينَ وتسعمائةٍ وألف (1989)، بسبب جرأته الكبيرة وصدعه الدائم بكلمة الحق.
الرجل لم يتوقّف عن الحركة والسعي الدعوي الدؤوب، منذ وعى ما آلت إليه أوضاع المسلمين، فقد طاف على العديد من المدن والجامعات والمنتديات، وعرفه الناس داخل المغرب وخارجه، في محاضرات وندوات وزيارات ومشاركات عديدة، حاز عضوية الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وعُرِف بخطابه التربوي العميق، وفقهه الدعوي الجامع، و باهتمامه الكبير بهموم الأمة وقضاياها وعلى رأسها فلسطين.
التحق بالإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، وشارك معه، رفقة ثلة من الكبار الراسخين في جهود توحيد العمل الإسلامي بالمغرب، والتي استغرقت عاما ونصف العام، قبل أن يتوِّجه بالمشاركة في تأسيس جماعة العدل والإحسان انطلاقا من سنة واحدٍ وثمانينَ وتسعمائةٍ وألف (1981).
انتخب الرجل عضوا في مجلس الإرشاد، وتم تعيينه مسؤولا وطنيا عن قسم التربية في الجماعة، وهو القسم الحساس الذي لا يُعطاه إلا من كان راسخ القدم في الربّانية، ومحطّ ثقة وتعظيم كبيرَيْن. أمضى في مسؤوليته مدة طويلة، جعلته رمزا تربويا مؤثرا ورجلا قويّا أمينا، يُستنَدُ إليه، ويُستأمن على المشروع التربوي للجماعة وهو لُبُّ دعوتها، وجوهر حركتها، ومركز قوّتها.
كل من يعرف فضيلة الأستاذ محمد عبادي يشهد له بالأخلاق العالية الرفيعة، وبشدّة الهيبة وتمام الهدوء؛ خفيفُ المشية والظلّ، دائم التبسّم، تكاد لا تشعر به، مع ابتعادٍ عفويٍّ واضحٍ عن الأضواء وكثرة الكلام. هيِّنٌ ليّنٌ كما تصفُهُ زوجُهُ السيّدة لطيفة عذّار ويؤكده كل من عايشه، لا يختار إلا كلّ يسيرٍ مُيسَّر حسب المقربين منه، فبساطتُه وزهدُه الأصيل البعيد عن التكلُّف، يجعل سِمَتَهُ الأساسَ: الحِلمَ والأناةَ، والتواضعَ الجمَّ، ونكرانَ الذَّات..
لكنّ للرجل ذي الشيبة والوقار، وجه آخر، غير الذلّة على المؤمنين والتواري إلى الظل بين صفوفهم، فهو في مواطن الحق أَسَدٌ هصور بحق، يعلو زئيرُه كلما غضب لله، ولا يغضب إلا عندما تُنتهكُ حُرمة من حُرَمِ الله، أو تُداس حقوقُ عبادِ الله، أو يُستهانُ بشعيرة من شعائر دين الله. فلطالما عُرف عن الرجل أيضا، بأنه خطيب مزمجر، يصدع بالحق في غير تهاون أو رضوخ، فلا مساومة لديه حول الأصول، ولا التواءَ ولا التفافَ ولا أنصافَ حلول. وهذا ما جرّ عليه نقمة المخزن، فحوكم مرات عديدة، واعتُقل وهو لم يتجاوز بعد سنه الثامن عشر على إثر خطبة جمعة لم تَرُق السلطات. واستمرت إذاية المخزن باستمرارِ صلابة الرجل في الحق، فسُجن سنة تسعين وتسعمائة وألف (1990) سنتين رفقة إخوانه أعضاء مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان، وتم توقيفه عن التدريس لمدة ثمان سنوات (08).
كما اعتقل أيضا سنة ألفين (2000)، وحوكم بثلاثة أشهر موقوفة التنفيد، على إثر مشاركته في مظاهرات سلمية في اليوم العالمي لحقوق الإنسان. وحوكم أيضا بسنتين سجنا سنة ثلاثة وألفين (2003) بسبب استجوابات صحفية، قبل أن تحكم محكمة الاستئناف ببراءته في مارس أربعة وألفين (2004). ومن بين المظالم الشنيعة المستمرة إلى الآن، أن السلطات المغربية قامت سنة ستة وألفين (2006) بتشميع بيته وتركه عرضة للسرقة والتلف، بدون موجب شرع أو قانون.
إنك ترى إلى تشوُّفِ أبناء العدل والإحسان، وعموم من يعرفه، إلى ما يحوز الشيخ الوقور، من خصائص ربانية، وصفاتٍ رفيعة، تجلِّلُ هامتَه، وتُشْرِقُ منه رُغْمًا عنه، فهو الصوّام القوّام الشاهق الهمة، لا تكاد تراه إلا ذاكرا أو مُذَكِّرًا.
فهو رجلُ القرآن، والارتباطُ بلغةِ القرآن ومفاهيمِ القرآن، وقد حقق في ذاته -كما يشهد الأستاذ عبد الكريم العلمي، رئيس مجلس شورى الجماعة- وصية الإمام وبُغْيَتَه: “أن يكونَ عُضْوُ الجماعة مدرسةً قرآنيّةً متنقِّلةً عبر الأجيال”.
خطابُه، بشهادة العديد من العلماء والدعاة، يسلُك دَرْبَهُ المباشرَ إلى القلوب، وكلماتُه تهزُّ المشاعر هزًّا، كلامه، يرفع الهمة، ويشحذ الإرادة، وينشئ سبيلا للعمل. إنه القدوة المنيرة في الوفاء للصحبة، وتعظيم أهل الله تعالى، يشهد لذلك -حسب المقربين منه- إقبالُهُ على مجالس الجماعة دوما بنيّة الاستزادة وطلب الإفادة، حيثُ دأبُهُ فيها التوقير والتعظيم والتبكير، ويشهد لوفائه واقع حُبِّهِ الكبير للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، ذلك الحبُّ الذي يتجلّى في أدبه الجمّ، والذي ينعكس على روحه التي تفيض حُبًّا ورحمةً تحتضن الأرواح وتواسي القلوب.
أليس هو من آلمته حُرْقَةُ الواقع الأليم، وتوقّدَ شوقُهُ إلى المحبوبِ الكريم، فهرع إلى زيارة الإمام عبد السلام ياسين حالما تناهى إلى سمعه خروجُهُ من السجن، وأبى إلا أن يوثِّقَ فَرَحَهُ ومسؤوليتَهُ واستعدادَهُ ومحبَّتَهُ، برسالة عهدٍ وولاءٍ ونصرةٍ، نشرتْهَا مجلَّةُ الجماعة ضمن أَحَدِ أعدادِها، في زمنٍ كان الانتماء فيه إلى جماعة العدل والإحسان فتحٌ صريحٌ لجبهة ابتلاء شديد من قِبَلِ المخزن على كل من تجرّأ وخلع ربقة الذل والجبن والسلبية، معلنا وقوفه في صفّ الدعوة ورجالاتها.
فمن تلك العين الثّرّة سقى وعنها صدر، وإلى تلك الأَرومةِ الطّيبةِ مدّ جذورَهُ وانتمى وازدهر، وها هو الآن أخٌ أكبر دانٍ، وأبٌ عظيمٌ حانٍ، لا يستقل برأي، ولا يفرض فكرة، همُّهُ جمع القلوب وانجماعُها، ومنهجه الرحمة واللين والرفق، وسمتُه الذوق الرفيع، استطاع بفضل الله تعالى وبأخلاقه وصفاته النّيّرة، أن يمسك الميزان بحق، ويحافظ للجماعة على روحها، ويسقي متانة لبها، ويحمي جوهر عملها: علما وعملا، تربية ودعوة، عدلا وإحسانا.
وهو الرجل الحكيم الرصين، شديد الحرص على اجتماع الكلمة وتوحيد الوِجهة، لا يهدأ له بالٌ حتى تتمتّن اللُّحْمَةُ وتُوصَلَ الأواصر، سواء بين أعضاء الجماعة ومؤسساتها، أو بين الجماعة وسائر تكتلات العمل الدعوي، وتنظيمات مدافعة الظلم وإقرار العدل والإنصاف.
ولهذا، لا يفتأ يؤكد في كل مناسبة أن “الوطن أولا”، وأنه لا مفرَّ من توثيق صلة الرحم الوطنية والإسلامية والإنسانية، مُوثِرًا سبيل الحوار والشراكة والتعاون، فلطالما عُرف الرجل بانفتاحه وصِلَاتِهِ الطيبة مع الجميع، بدءًا بتبجيله للعلماء والدعاة، واحترامِهِ للمخالفين والمختلفين، وانتهاءً بيده الممدودة على الدوام، وقلبِهِ المتَّسِعِ الرحيم، ودعواتِه للمِّ الشتات ونبذ الفرقة وإصلاح ذات البين، ومدّ جسور التواصل والمحبة والتفاهم.