“العدل” و”الإحسان” في القرآن الكريم

Cover Image for “العدل” و”الإحسان” في القرآن الكريم
نشر بتاريخ

من المفاهيم الكبرى التي نص عليها القرآن الكريم مفهومي العدل والإحسان، حيث تعددت الآيات الكريمة التي تطرقت لهما وأحاطت بكل مدلولاتهما. والملاحظ من استقراء هذه الآيات اتساع المجال الدلالي لكلا اللفظين؛ حيث ورد كل منهما بمعان متعددة. قبل التطرق لها، نستعرض المعنى اللغوي للفظين معا: فالعدل لغة الإنصاف وهو المساواة بين الناس وتمكين كل ذي حق من حقه، أما الإحسان لغة فضد الإساءة وهو فعل ما ينبغي أن يفعل من الخير.

وبالرجوع إلى الاستعمال القرآني  للمفهومين  نجد ما يلي:

ورد لفظ العدل في القرآن الكريم بعدة معان، وقد  أوجب الله تعالى العدل وجوبا مطلقا في قوله تعالى: إِنَّ اَ۬للَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالِاحْسَٰنِ وَإِيتَآءِےْ ذِے اِ۬لْقُرْب۪يٰ وَيَنْه۪يٰ عَنِ اِ۬لْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِۖ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ [النحل: 90]، كما أمر بتحقيقه في الأقوال والأفعال والحكم والشهادة والعلاقات من خلال عدة آيات أغلبها تفيد معنى الإنصاف والحكم بالحق، فأمر بالعدل في الحكم: اِنَّ اَ۬للَّهَ يَامُرُكُمُۥٓ أَن تُوَ۬دُّواْ اُ۬لَامَٰنَٰتِ إِلَيٰٓ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ اَ۬لنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ [النساء: 58]، والعدل في القضاء: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ عَلَيٰٓ أَلَّا تَعْدِلُواْۖ اُ۪عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْو۪يٰ [المائدة: 8]، والعدل في الشهادة: وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ [الطلاق: 2]، والعدل في كتابة العقود: وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبُۢ بِالْعَدْلِۖ [البقرة: 282]، والعدل بين الزوجات: فَإِنْ خِفْتُمُۥٓ أَلَّا تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً اَوْ مَا مَلَكَتَ اَيْمَٰنُكُمْ [النساء: 3]، والعدل في القول: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْب۪يٰۖ وَبِعَهْدِ اِ۬للَّهِ أَوْفُواْۖ [الأنعام: 152]. وقد نصت هذه الآيات وغيرها  على وجوب العدل في جميع مجالات الحياة جليلها وصغيرها، ويقول الإمام رحمه الله في تعريف شامل للعدل بأنه (أم المصالح التي يقصد الشرع، هو صلب الدين وحوله تطيف هموم المسلمين وبه بعث الله الرسل والنبيئين مبشرين ومنذرين… العدل هو عماد العمران أخويا كان أو مدنيا قانونيا) 1.

وأما لفظ الإحسان في القرآن الكريم فقد تميز بتعدد معانيه؛ منها إتقان الشيء بفعله على أحسن وجه، وعبادة الله في السر والعلن، كما ورد بمعنى الإخلاص، ومعنى السعادة، ومعان أخرى كثيرة تجتمع جلها في معنى الإتقان وعدم الإساءة. وقد أمر به الله تعالى مجملا بعد العدل في الآية 90 من سورة النحل: إِنَّ اَ۬للَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالِاحْسَٰنِ وَإِيتَآءِےْ ذِے اِ۬لْقُرْب۪يٰ وَيَنْه۪يٰ عَنِ اِ۬لْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِۖ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ، كما ذكر أنواعه المختلفة ووضح صفات أهله وبيّن ثماره وجزاء المتصفين به وذلك في عدة آيات كريمة، ومن أهم أنواع الاحسان المنصوص عليها نذكر: الإحسان إلى الوالدين في قوله تعالى: وَقَض۪يٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰناً [الإسراء: 23]، الإحسان في القول في قوله تعالى: وَقُل لِّعِبَادِے يَقُولُواْ اُ۬لتِے هِيَ أَحْسَنُۖ إِنَّ اَ۬لشَّيْطَٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬لشَّيْطَٰنَ كَانَ لِلِانسَٰنِ عَدُوّاٗ مُّبِينا [الإسراء: 53]، الإحسان في الإنفاق في سبيل الله في قوله تعالى: وَأَنفِقُواْ فِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمُۥٓ إِلَي اَ۬لتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوٓاْۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ يُحِبُّ اُ۬لْمُحْسِنِينَ [البقرة: 195]، الإحسان في العمل في قوله تعالى: اِنَّ اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنَ اَحْسَنَ عَمَلا [الكهف: 30] وغيرها من معاني الإحسان في القرآن الكريم، ويجملها الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى فيقول: (لفظ الإحسان يدل على معان ثلاثة ورد بها القرآن ووردت بها السنة: الإحسان بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، الإحسان إلى الناس كالوالدين والأقربين واليتامى والمساكين والمسلمين وسائر الخلق أجمعين، إحسان العمل بإتقانه وإصلاحه سواء العمل العبادي أو العادي أو المعاملاتي، مجموع هذه الدلالات يعطينا مواصفات العبد المؤمن الصالح في نفسه وخلقه وتعامله مع المجتمع، يعطينا الوصف المرغوب لعلاقات العبد بربه وبالناس وبالأشياء) 2.

ويتضح مما سبق غنى المجال الدلالي لمفهومي العدل والإحسان في القرآن الكريم وذلك حتما من إعجاز الذكر الحكيم، هذا الغنى يجسده قول المفسرين والعلماء في آية سورة النحل التي قرنت بين العدل والإحسان، حيث وصفها عبد الله بن مسعود بأنها أجمع آية في القرآن لخير أو لشر.

وفي تأويلها قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:  (العدل الإنصاف والإحسان التفضل)، وقال سيد قطب: (جاء الكتاب لينشئ أمة وينظم مجتمعا… ومن ثم جاء بالمبادئ التي تكفل تماسك الجماعة واطمئنان الأفراد، جاء ‘بالعدل’ الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة قاعدة ثابتة للتعامل، وإلى جوار العدل ‘الإحسان’ يلطف من حدة العدل الصارم الحازم ويدع الباب مفتوحا لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه إيثارا لود القلوب… ولمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه ليداوي جرحا أو يكسب فضلا. والإحسان أوسع مدلولا… والأمر بالإحسان يشمل كل عمل وكل تعامل فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه وعلاقاته بأسرته وعلاقاته بالجماعة وعلاقاته بالبشرية جميعا) 3.

ويقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: (العدل قرين الإحسان في كتاب الله فلا يلهنا الجهاد المتواصل لبناء دولة العدل في أمتنا عن الجهاد الحثيث لبلوغ مراتب الإحسان. الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه) 4.


[1] عبد السلام ياسين، العدل الإسلاميون والحكم، ط 1، ص 222.
[2] عبد السلام ياسين، الإحسان، ج1، ص17.
[3] سيد  قطب، في ظلال القرآن، المجلد الرابع.
[4] عبد السلام ياسين،  وصيتي، ص 18.