العدل والإحسان والموقف من الصحراء: التعتيم المتعمد

Cover Image for العدل والإحسان والموقف من الصحراء: التعتيم المتعمد
نشر بتاريخ

عاد موقف العدل والإحسان من مغربية الصحراء إلى الواجهة من جديد بعد بيانها الصادر يوم الأحد 2 نونبر2025 بشأن الموقف من قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2797، وبقدر ما كان البيان تأكيدا للمؤكد وتوضيحا لموقف العدل والإحسان الذي لم يتغير على مدى عقود بحديه المبدئي والواقعي، فإن المناسبة أيضا كانت فرصة لم يُفوّتها بعض أعداء الجماعة وخصومها -من المتمخزنين السطحيين والمرتزقة- للمزايدة عليها والتحريض عليها، بل وحتى التشكيك في وطنيتها وانتمائها، خاصة قبل صدور البيان الذي كان واضحا وشاملا ومبدئيا وواقعيا في مواقفه ورسائله، إذ إن استراتيجية المخزن في مواجهة معارضيه وعزلهم وتشويه صورتهم أمام الرأي العام، كانت ولازالت قائمة على ثلاثة أثافي هي وصمهم بأعداء الدين أو أعداء الملكية أو أعداء الوحدة الترابية، وقد نجح المخزن إلى حد بعيد في هذه الاستراتيجية في صراعه مع فصائل من اليسار المغربي، الذي وظف ملف الصحراء في صراعه السياسي مع النظام، أو انطلاقا من ارتباطات وارتهانات لقوى إقليمية وعربية أو في إطار تخندقات الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، وهذا ما يجعل البعض يخلط عن قصد أو غير قصد بين موقف اليسار المغربي في فترة من الفترات وموقف العدل والإحسان وهو ما يساهم حتى المخزن في ترويجه وتكريسه، فمعارضة الاستبداد أوتوماتيكيا تعني الموقف من الصحراء، وهذا ما ينتفي في العدل والإحسان التي كان موقفها واضحا منذ رسالة الإسلام والطوفان، فمن حيث المبدأ هي ترفض الارتهان والارتباط بمواقف أي جهة داخلية أو خارجية وهذه الاستقلالية التنظيمية والفكرية هي ما جعلت موقفها متميزا إلى حد بعيد، فهي انطلاقا من إيمانها بوحدة الأمة ورفض واقع التجزئة والتقسيم الاستعماري الذي فرضه مخطط سايس بيكو ترفض تفتيت المغرب وتجزئته، وأيضا من منطلق إيمانها بقيم الحرية والعدل والكرامة والديمقراطية والسلام تعارض المقاربات المخزنية المتسمة بالديكتاتورية وبالانفرادية وشخصنة الملف والتبعية وعدم استقلالية القرار الوطني، وتعارض أي تصعيد يجر المنطقة نحو حرب بين الإخوة الأشقاء، وأي توجه يقف دون إنشاء كيان كبير وقوي في المنطقة في زمن التكتلات السياسية والاقتصادية الكبرى، وهي اليوم تطرح سؤالا أعمق وأكبر حول ثمن التسويات القادمة، أي ما المقابل الذي سيقدمه النظام المخزني من ثروات المغاربة وأمنهم وسيادتهم واستقلالهم وتاريخهم؟ وما حجم التنازلات التي ستقدم للكيان الصهيوني والأمريكان في المنطقة عسكريا واقتصاديا وأخلاقيا في ظل اتفاق التطبيع الثلاثي الذي كان الإطار السياسي الاستراتيجي لصفقة تسوية ملف الصحراء؟

سبق لي في مقال طويل نشرته بعد صدور “الوثيقة السياسية للعدل والإحسان” في فبراير 2023 تعليقا على الحوار الذي خص به الدكتور محمد منار باسك إذاعة “كاب راديو” الخاصة وموقع “لكم.كوم“، والذي أثار فيه الصحافيان المتألقان، “سارة موساوي” والإعلامي المناضل “عبد الله أفتات” والأكاديمي والإعلامي الرصين الدكتور “نور الدين لشهب” العديد من القضايا المتعلقة ب“الوثيقة السياسية للعدل والإحسان“، في كثير من القضايا، ومن إحدى أهم القضايا التي طرحت في النقاش “ملف الصحراء” وموقف الجماعة منه.

وقد أحببت في تلك المقالة المختصرة توسيع مساحة الضوء بشكل أكثر، وإن كان الدكتور محمد منار عضو الأمانة العامة للدائرة السياسية قد أوضح الموقف بشكل مقتضب وكاف ومقنع، وأظن أن الوقت والمجال لم يتسع له لتفصيل أكبر، ففي معرض جوابه عن الأستاذ عبد الله أفتات بخصوص أن القضية لم تحض بالاهتمام والحضور اللازمين في الوثيقة، وكذا ملاحظات الجماعة حول طرق تدبير الملف وتعليقها على انفراد القصر به، أكد الدكتور منار أن: “الصحراء حاضرة في الوثيقة، لكنها ليست حاضرة باللغة المألوفة التي يراد لنا جميعا استعمالها، نحن لا نريد أن نتحدث حديث المتاجرة بقضية الصحراء والمزايدة بها لتحقيق المكاسب والريع كما يفعل البعض، فالدفاع عندنا على الصحراء يكون بتكريس ديمقراطية حقيقية وتأسيس جهوية موسعة فعلية وإفساح المجال للكفاءات والقوى المحلية“.

وأظن أن السؤال عن موقف العدل والإحسان من قضية الصحراء ليس مستغربا، ففي ظل التعتيم الإعلامي والحصار السياسي المضروب على الجماعة ومواقفها، وفي ظل سيادة ثقافة استهلاك الجاهز، أي القراءة عن الجماعة لا قراءتها بشكل مباشر من خلال وثائقها، ربما لا يتعرف الكثيرون على موقف الجماعة من الملف، فالجماعة لم تبتز النظام يوما بملف الصحراء أو تجعله ورقة ضغط عليه في أي وقت من الأوقات، لكنها بالمقابل كانت دائما بعيدة عن مقاربة المخزن للملف مبدئيا، وهذا ما سبب للبعض خلطا بين المبدإ والموقف، فالجماعة كانت ضد سياسة الانفراد بتدبير الملف بشكل شخصي من الحسن الثاني، وضد سياسة التحريض والتجييش واستغلال الملف لقمع المعارضين وفرض حالة من الطوارئ الأمنية والاقتصادية والسياسية على المغاربة لعقود بدعوى الوحدة الترابية، وهذا الموقف ليس جديدا ففي رسالة “الإسلام أو الطوفان” 1974خاطب الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله بشكل صريح الملك الراحل واعتبر تحرير الصحراء هدفا نبيلا يلزمه قائد ذو بعد نظر ويحظى بالثقة والاحترام من الجميع “إنك ترى بقِصَر نظرك السياسي أنك اليوم أقرب إلى الأمن بعد أن أحرز لك جيش المسلمين نصراً في الشرق وذكراً جمعت حصيلته في محاولتك تعبئة الأمة لتحرير الصحراء، ونعم الهدف هذا لو كان لدى الأمة ثقة بقائدها. والذي لا تراه هو أن حركة كالتي تنضج حول الصحراء أمر عظيم لابد أن يتبعه تغيير جذري في هيكل الأمة” وهو موقف تكرر في رسالة باللغة الفرنسية بعثها الأستاذ عبد السلام ياسين من معتقله في مراكش.

ونفس الأمر تجدد مع الملك محمد السادس في مذكرة إلى من يهمه الأمر سنة 1999، حين اعتبر الأستاذ ياسين رحمه الله أن مسألة الصحراء واحدة من استحقاقين يهددان استقرار المغرب وأمنه، فقد أكد أن الملف تركة وإرث مسموم من بقايا العهد الحسني الغابر فقضية الصحراء “ليست سوى إرث مسموم خلفه العهد الغابر، إرث خلفته سياسة التعاظم الدائسة على كرامة الرعية”، واعتبر أن سياسة الطغيان والإذلال والإخضاع الحسنية وإهانة الكرامة الإنسانية لم تترك لأهل الصحراء سوى خيارين “إخواننا الصحراويون بين خيارين لا ثالث لهما، الخيار الأوّل أن يخضعوا لملك وَطأَ بالقوة أكناف عرشه وألقى إليهم أمره بالركوع له حسب تقاليد البيعة المخزنية المقيتة….. تم إخضاع الصحراويين –ذوي الأنفة والإباء– للمراسيم المخزنية، ورأينا على الشاشات هامات شيوخ القبائل تنحني أمام الجلالة المتصلبة المستعلية. يا للإذلال! أي جرح غائر أصاب عزة قوم ما برحوا متمسكين بالإسلام” ويرى أن هذا الإذلال النفسي والحط بالكرامة، سيدفع الكثير منهم إلى الخيار الثاني وهو الاستجابة لدعاوي “العصابات المسلحة” كما سماها الأستاذ رحمه الله، التي ترفع شعارات الكرامة والحرية، وتخاطبهم بلغة العزة “أن يصغوا إلى نداء العصابات المسلحة التي تخاطبهم بلغة العزة. فهل يا ترى سيصوتون في الغد القريب لمغرب موحد مسلم حقا؟”. كما انتقد حجم النهب واستثمارات الفخفخة غير العقلانية في الصحراء التي راكمت المديونية والفقر “امتصت رمالها ملايير الدولارات التي أنفقت في تشييد مدن حديثة جديدة، وازداد فقر المغرب، وتضاعفت ديونه. لم تفلح سياسة الفخفخة المستكبرة إلاّ في تعميق الهوة بين عضوين من جسد واحد، من شعب واحد“، ليخلص إلى الموقف الصريح والواضح الذي لا التواء ولا لبس فيه، وهو الرهان على الخيار الوحدوي للمغرب وللشعوب المسلمة التي جزأها وفتتها الاستعمار “أما نحن، فقد ظل موقفنا من القضية واضحا، لا التواء فيه ولا لبس، وهو التشبث بوحدة الشعوب المسلمة عَبْرَ الحدود الغاشمة الموروثة من تاريخنا الاستعماري، قديمه وحديثه“.

وقد حافظت الجماعة على نفس الموقف، فكلما طرح السؤال أو ناسبت الفرصة أعلنت ذلك دون مواربة، ففي أحد حواراته بتاريخ حوار 12/10/2021 مع موقع الجماعة يصرح الأستاذ فتح الله أرسلان نائب الأمين العام والناطق الرسمي باسم الجماعة: “إنه يهمنا في جماعة العدل والإحسان أن نؤكد، أولا وقبل كل شيء، موقفنا الواضح من المسألة، والذي لن تزايد على نصاعته روايات التشويش، وهو عدالة قضية الوحدة الترابية باعتبارها خطا أحمر لا نقبل المساس به، بذات القدر الذي تهمنا وحدة الشقيقة الجزائر أيضا“، ونفس الموقف سيتم التأكيد عليه بشكل واضح وصريح في الوثيقة، التي تعبر عن موقف مؤسساتي صادر عن هيئات الجماعة التقريرية، فرغم انتقاد الوثيقة لاحتكار الملكية لتدبير العلاقات الخارجية والعمل الدبلوماسي عموما، واعتبار ذلك مجالا محفوظا وخاصا بالقصر، والتحكم في وزارة الخارجية، وعدم السماح لباقي الفاعلين السياسيين إلا بأدوار ثانوية، غير أنها ترى أن ملف الصحراء يعد أحد نقاط النزاع الرئيسة في المنطقة، وإن التلاعب بوحدة الشعوب وإثارة النزعات ومسألة الحدود، قنابل موقوتة يمكنها أن تنفجر في وجه الجميع وتُفتّت كل المنطقة، وتدخلها في موجة جديدة من المواجهات، تخدم قوى الاستكبار العالمي لا شعوب المنطقة، لذلك تعلن الوثيقة “نقولها بلسان مبين: لا للانفصال، ولا لتوظيف الخلافات السياسية لإثارة الملفات الماسّة بسيادة أي دولة؟“.

الخلاصة أن موقف العدل والإحسان من مسألة الوحدة الترابية لم يتغير منذ السبعينات، فهي مع الوحدة وضد الانفصال، لكنها لا تتفق مع طرق تدبير الملف التي استفرد بها المخزن ومحيطه، واستعمل فيها خطابا مزدوجا، وارتكب في تدبيرها أخطاء قاتلة حاول “العهد الجديد” تداركها، لكنه سرعان ما سقط في فخ “الثعالب العجوزة“، فتحولت إلى واحد من وسائل الضغط والقمع التي وظفها توظيفا لترسيخ سلطته الاستبدادية وإحكام قبضته على المغاربة.